You Create, We Appreciate

نعيمة كراس تكتبــ: ما لا نهاية (قصة قصيرة).

نعيمة كراس تكتبــ: ما لا نهاية (قصة قصيرة).
قصة ما لا نهاية..نعيمة كراس
قصة ما لا نهاية..نعيمة كراس

*الإهداء*

إلى صديقتي العزيزة ريما وإلى كل من عرفتهم
إلى كل الراحلين عن حياتي من دون رجعة أسكنكم الله فسيح جناته ورحمته الواسعة التي وسعت كل شيء أسئل الله أن يرزقكم ما حرمتم منه في دنياكم أهديكم هذه الباقة من الكلمات التي ستخلد ذكراكم.

أنا! أنت! لا يوجد فرق كل الأشخاص في هذا العالم يخبئ قصة ربما من خياله أو أن حياته هي نفسها عبارة عن قصة، قصة كتبت بأنامل الألم والحرقة التي قتلت شيئا في الفؤاد، وجعلته مكسورا، بالتفكير في الأمر، ربما لا، فمن المستحيل أن يوقعك القضاء والقدر بهذه الاختبارات من أجل لا شيء، هناك غموض حول هذا الموضوع، وستقوم هذه الحكاية بتفسير كل شيء في نهاية الأمر.

ما لا نهاية..

في قرية صغيرة تحيطها التلال من كل مكان، ما يزينها ذلك الضوء الساطع من السماء، عندما تُلمح وكأنها لوحة فنية.

في فصل الصيف من عام 2003 صدى صراخ روح جديدة جاءت للعالم، لقد ولدت بنت من والدين طيبين مع أن الفقر ينهشهما، لكن لم ييأسا وتوكلا على مانح الأرزاق، كانت هذه الأسرة مكونة من أب وأم وثلاثة أولاد وبنت واحدة، لكن شاء الله أن تولد فتاة أخرى في تلك السنة

تلك الفتاة هي أنا، عمت الفرحة في هذه الأسرة الصغيرة خصوصا شقيقتي التي تبلغ من العمر 8سنوات، فقد بذلت جهدا كبيرا في إعانة أمي قبل أن أولد، كل ذلك من أجل الحصول على أخت تؤنسها، فهي الفتاة الوحيدة في العائلة، وبعد سنة تماما صرت أستطيع الحبو والجلوس كأي طفل عادي مقبل على الحياة بشغف، مع أن الحياة في بعض الأحيان تقابل الفرد بتكشيرة في وجهه المسالم، ذلك ما حدث بالضبط لقد وقع لي حادث سبب لي عاهة دائمة في منتصف وجهي.

تجمع كل الأقارب مهنئين أمي بمولودها الجديد، وطُرد الأطفال خارج المنزل وتماما في حديقة البيت، حتى أنا التي وجدت نفسي غريبة عن أقاربي الأطفال، لم أتواصل معهم ولم أكلمهم ظللت صامتة فقد انتابني بعض الرهبة، خائفة من ردة فعل أولئك الأطفال.

مرت السنين على ذلك الحال وصار شقيقي “محمد” يبلغ السنتين تقريبا، كان جميلا لدرجة لا توصف، شعر أسود ناعم ووجه مشرق كالشمس ووجنتين وردتين تبرز رونق هذه المرحلة من الطفولة، ولكن كما قلت سابقا لا تجري الرياح بما تشتهي السفن، فمع كل براءته لطمه القدر بضربة كادت تقطع لسانه الصغير ويصبح أبكما

ولكن الحمد لله على كل حال فقد نفذ من هذه المحنة بأعجوبة وتمت خياطة لسانه

وانتهى الأمر على خير.

فكما تلاحظون أن القضاء والقدر لا يستثني البراءة فبالتأكيد لن يفارقهم هذا الأخير عند الشباب ولا حتى الكبر، بل سيستمر حتى تعود تلك الروح إلى بارئها كما وُجدت أول مرة.

تلك الصدمة بات يعاد بثها كالسيناريو في ذاكرتي طويلة المدى حتى وبعد أن كبرت بقي ذلك الخيال يلاحقني في كل مرة أنظر فيها للمرآة.

في سنة 2006 بلغت 3سنوات وبضعة أشهر، وتماما في شهر أكتوبر خرجت إلى الشارع. فجأة! لمحت والداي قادمان بعد هبوطهما الحافلة، لاحظت أن أمي تحمل شيئا بين ذراعيها تغطيه بلحاف قطني الملمس، لم أفقه شيئا فقد كنت طفلة أنذاك.

أخبروني أن ما تحمله أمي ليس إلا شقيقي الجديد سموه “محمد” على اسم جدي، فرحت كأي طفل صغير، بقيت أتخيل كيف سألعب معه، مع أنهم لم يسمحوا لي بالاقتراب منه ولا خطوة.

طفولة..

لا يمكن الاعتراف أن ما سيأتي في هذه السطور عبارة عن حياة البراءة المتوقعة في هذه المرحلة من الطفولة، بل توصف على أقل تقدير بالمأساة نعم إنها كذلك.

كان لأبي شقيقين أكبر منه ونحو 10 أشقاء وشقيقات آخرين أصغر منه، كان هذا بعد استقلال الجزائر بسنوات قليلة، والكل يدرك جيدا ذاك الوقت الصعب حيث أن الناس غير متعلمين إضافة لحياة الفقر والحرمان.

الحرمان من كل شيء تقريبا بيت من طوب، طعام غير متوفر وأكثر من 10 أطفال إضافة إلى الأب والأم، وما عسى أن يفعل هذان مع كل أولئك الأطفال. ما إن يفتحون عيونهم صباحا، أول ما يفعلونه هو رعي الغنم في تلك السن المبكرة من العمر. ينبغي لهم اللعب واللهو والتعلم، لكن في ذلك الوقت لم يفكر الأهل في شيء كهذا، كل ما يقبع في تفكيرهم المأكل والمشرب.

ولكن في يوم لم يتوقع حدوثه، بدأ أعمامي يموتون واحدًا تلو الآخر من دون سبب معين.

في كل يوم تدفن جدتي واحدًا، وبعد مرور أسبوع صار عدد المتوفين 8 أبناء! إنه لأمر مفجع، كيف يمكن تخيل موقف الأم في تلك اللحظات! فقدتهم في أسبوع فقط.

والأكثر جدلا أنه لم يبق لها سوى ابن واحد من الذكور، وبقيت الفتيات على قيد الحياة، والذي نجى من تلك الحادثة هو والدي أنا، مع أنه لا يمكن الجزم أنه نجى حرفيا، فبينما كان يلعب مع أشقائه سقط في حفرة تحوي جمرا خامدا في نفس الأسبوع الذي ماتوا فيه؛ مما سبب له إعاقة حركية في رجليه، فصار أعرجًا، لا يستطيع المشي من دون الاتكاء على العصا.. عاهة لم تفارقه بتاتا، ولم يفارق هذا الحظ حتى أبنائه الذين أنجبهم، وكأنها لعنة متوارثة!

حياة بائسة..

بعد أن تزوج أبي وأنجب 4 أطفال،3ذكور وبنت واحدة، كان عليه أن يعمل من أجل تربيتهم وحمل مسؤولية إطعامهم وتدريسهم، مع أنه معاق تقريبا لكنه فعل المستحيل من أجل تلك البراءة، وفوق ذلك كان يعلمهم الحروف الهجائية العربية مع أنه لم يدرس في المدرسة قط، بل تعلم في إحدى الزوايا لمدة أسبوعين فقط ولأنه كان ذكيا تعلم بسرعة حتى أنه أجاد القراءة والكتابة.

بذكر التعلم والمدرسة أنا بصدد سرد الأحداث الأليمة التي واجهت الأولاد المعوزين في فترة التعلم خصوصا في فصل الشتاء والبيئة الموحلة في المنطقة.

عانى الأطفال الكثير جراء ذلك وفوق هذا المعلمين غير المتفهمين لظروف التلاميذ وحالتهم الاجتماعية.

كان الأشقاء ينهضون باكرا في ذلك البرد القارس من دون جوارب ولا أحذية تدفئهم، وبلا طعام يسكت جوعهم ويذهبون إلى المدرسة، ولكن عليهم اجتياز طريق موحل لدرجة أنه لو مر من خلاله شخص بالغ لعلق هناك من دون حراك، فتخيل تلك البراءة تمر من خلاله كل يوم.

***

في إحدى المرات تأخرت شقيقتي عن المدرسة، فقد سقطت في الوحل؛ فاضطرت للرجوع إلى المنزل من أجل تبديل ملابسها، وما إن رجعت للمدرسة، ضربتها المعلمة بقسوة، رغم أنها حكت ما حدث، ولكن مع ذلك قست عليها من دون رحمة ولا شفقة وكأنها تكن حقدا اتجاهها، صارت يداها ترتعش من فرط الضرب ولم تعد تحس بأطراف أصابعها التي صارت حمراء كالدم.

امتنعت عدة مرات عن الذهاب إلى أن اضطر خالي لأخذها، تكلم مع الأستاذة عن سبب غيابها، وما إن خرج الرجل حتى التفتت المعلمة لها بحقد قائلة:

  • هكذا إذن! كيف تجرئين على فعل ذلك وتشويه سمعتي؟؟!!

فجأة نظرت لها بغضب ورفعت العصا موجهة إياها إلي أختي وقالت صارخةً:

  • هاتي يدك!!!

أبرحتها ضربا من دون سبب.

مع ذلك الوقت الصعب، لن يقدر المرء أن يدرس، والكثير منهم من أقلع عن الذهاب للمقاعد الدراسية، وراح يعمل ليعين عائلته بما في ذلك أشقائي الذين وجدوا أنفسهم ضحية الفقر والظلم وعجز الأب الأعرج، ذهبوا للعمل في أماكن خارج الولاية في بقاع عديدة من الوطن، وصُرفت طفولتهم في دوام العمل الشاق بعيدا عن أسرتهم في غياهب ظروف مرة كالقهوة.

***

ذات يوم وأنا طفلة مر بجانب بيتنا بائع الملابس، وأعجبني فستان أصفر جميل، لكن لم يكن لدينا ما يكفي من المال من أجل شرائه، فقدت الأمل، وأعدته إلى البائع، وأنا موقنة أنني لن أرتديه أبدا، لكن بعد مدة وجيزة خرج أخي ووجد الفستان مرميًا بجانب البيت، بحثنا عن البائع ولم نجده، عجيب! لقد أكرمني الله بالفستان من دون مقابل حتى.

حياتي في المدرسة..

ذات مرة سمعت من أسرتي أنه حان وقت ادراجي في المقاعد الدراسية، كنت أفعل ما يطلب مني رغم أنني لم أكن أعرف ما معنى مدرسة من الأساس، دخلت المدرسة الابتدائية مع أبناء خالتي التوأم ومن فرط عدد التلاميذ صرت أجلس على المصطبة بدلا من مقعد، اضافة إلى المعلم الصارم الذي يهدد هؤلاء الأطفال بالحزام، استمر الحال هكذا بضعة أيام، وما زاد الطين بلة المضايقات والتنمر الذي تعرضت له من قبل أولاد المدرسة الأكبر مني سنا. لم أكن بنتا جريئة ولا عدوانية، لم أدافع عن نفسي، بل استغرقت في الصمت في كل مرة.

بعد مدة وجيزة، أرسلت الإدارة إلى عائلتي قرار فصلي من المدرسة؛ فأجبرت الأسرة على نقلي إلى مدرسة أخرى أقرب من المنزل، اسمها المدرسة الجديدة في ذلك الوقت من سنة 2008، بعد أيام سجلوني، وكنت مرتدية مئزرًا أزرق يشبه المئزر الذي يرتدينه الأمهات في المطبخ.

***

توترت كثيرا فلم أكن معتادة على جمع غفير من الأطفال حولي، كانوا يبدون أطفالا أشقياء أشرار في نظري، عندما جلست في مقعدي حدقت في المعلمة، وراودتني أفكار كثيرة..

من هذه المرأة؟

هل هي طيبة؟

هل هي كالمعلم السابق الذي هددنا بالحزام؟

نطقت المعلمة قائلة:

  • مرحبًا يا أعزاءي الكرام، سأكون أستاذتكم للسنة التحضيرية، آمل أن تكونوا أطفالًا مطيعين كما أخالكم.

انتهى العام الدراسي وتعلمت الحروف والأرقام بما في ذلك الرسم لقد كانت أناملي موهوبة بالفطرة.

***

في السنة الأولى درستنا معلمة تبدو من مظهرها في الثلاثين من عمرها، سمينة بشكل مخيف بالنسبة لطفلة، كانت تضرب بأنبوب بلاستيكي أسود، ومع أنني لم أتعرض للضرب، لكن ذلك كان كفيلًا بأن يجعلني أكن لها كرها واضحا.

***

بعد سنوات قليلة، كبرت، وصرت فتاة نشيطة، بجسد رياضي، حتى أنني تنافست مع ولد أكبر مني بأكثر من 10 سنوات في تمرين الضغط، والأعجوبة التي صارت أنني فزت عليه ب40 تمرين ضغط.

سخر منه الجميع، حتى شقيقي الأكبر، وأصيب الفتى بالخجل حتى النخاع.

كنت أتصرف، وألعب كالأولاد، لأنني تربيت مع أشقاء، ولم أحصل على صديقات في حينها، ولأن أختي تكبرني ب8 سنوات، لا يمكنني اللعب معها، فقد بلغت 16 عاما بالفعل، لهذا كنت ألعب كرة القدم أمام البيت مع أولاد الحي.

***

في سنة 2011 انتقلت إلى السنة الثالثة ابتدائي وصرت أدرس عند معلم طيب رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، في إحدى الأيام من فصل الشتاء، اشتد فيه البرد القارس، امتنعت عن الذهاب للمدرسة صباحا. فقد كنت أشعر بالبرد، ولم يكن لي إلا حذاء صيفي، بلا جوارب أرتديها.

***

عندما دقت التاسعة صباحا انطلقت إلى المدرسة، وما إن دخلت من باب القسم توترت وظننت أن المعلم سيضربني، لكن المفاجأة أنه قد حدث العكس، فقد عاملني بلطف، وطلب مني التوجه إلى مدفأة القسم، فأنا لم أعد أحس بقدمي المتجمدتين، وكانت يدي عاجزةحمل القلم من تغلغل البرد في أعصابها.

ابتسمت، وصرت أحب المعلم، وفي مرة من المرات احتجت إلى دفتر جديد، فدفتري انتهت صفحاته، فجأة خرج المعلم من القسم من دون أن ينبس ببنت شفة، ثم عاد إلي وهو يحمل كراسا جديدا، غمرتني الفرحة لدرجة أنني لم أعرف كيف أعبر عن ذلك.

استمررت في التعلم إلى أن أصبت بعدوى الحصبة، وضعني المعلم في آخر الصف، حتى لا أنقل العدوى للتلاميذ الآخرين، أحسست وقتها بالعزلة. لا أحد يقترب مني، خصوصا بعد تنمر بعض الأولاد علي، حتى أن علاماتي انخفضت، ولم تعد كالسابق.

مر الوقت سريعا، وجاء الفصل الثاني. فجأة! لمحت شيئا دفعني للضحك، نعم إنهم نفس الأولاد الذين تنمروا علي، لقد أصيبوا بنفس العدوى.

***

بينما كنا ندرس التربية العلمية طلب منا الأستاذ أن نزرع بذرة ونحضرها له، فكرت كثيرا في هذا الموضوع، وما إن عدت للمنزل وجدت أمي تخبز العجين وتضعه على آنية فخارية على نار الموقد، أخبرت أسرتي بلهفة عما طلبه الأستاذ منا وأحضرت علبة مستديرة ووضعت فيها بعض التراب وزرعت بعض العدس ولملمت التراب حوله ثم سقيته.

كان شيئا عاديا بالنسبة لي فقد راقبت والدي وهو يغرس شتى أنواع الخضر في حديقة منزلنا منذ طفولتي، يعني أني متمرنة على أشياء عدة منذ نعومة أظفاري.

فقد انضممت لإخوتي في رعي الأغنام، ومن ثم رعي الأبقار، لم تكن طفولتي كطفولة الفتيات العاديات اللواتي يلعبن، ويمرحن، ويرتدين الملابس الجميلة.

الاختلاف الذي بيننا هو أني لم أأبه إن كانت لي ملابس جديدة أو لا، لم أخش الفئران ولا القطط ولا الكلاب، تدربت وأصبحت من الشجعان، حملت العصا أثناء رعي البقر، وتمرغت في التراب، وكأنني ولد كما أنني ربيت الحمام.

المشكلة الوحيدة التي لم أستطع تجاوزها هي تنمر فتيات الجيران علي بسبب الندبة التي في أنفي، كرهت شيئا اسمه الصداقة، ولم أعد أؤمن به فالكل ينظر لي بدونية، ولم أدر حتى لماذا وضعني القدر في هذا الموقف؟

***

وفي العطلة الصيفية من عام 2011، صدمت بخبر وفاة معلمي في المدرسة الذي كان جارنا في الحي، كيف؟

في ليلة وضحاها حدث ذلك؟؟

حزنت، وما لبثت أن نسيت الموضوع، وبعد انتقالي للسنة الرابعة ابتدائي جاءت مدرسة جديدة معلمة لطيفة مع أنها في بعض الأحيان قاسية، ففي إحدى المرات عندها أخطأت في الإجابة، صرخت في وجهي، لم أنس هذا الموقف أبدا.

بنوع من التحفيز قالت المعلمة أن من يتحصل على الرتب الثلاثة الأولى ستقدم له جائزة.

اجتهدت، وفعلا تحصلت على الرتبة الثالثة، لكن الأستاذة غيرت رأيها، وقدمت الجائزة إلى صاحبة المرتبة الأولى التي كانت لها معرفة سابقة بها؛ انطفأت كالجمرة التي أخمدت في الماء البارد ولم أعد أحب المعلمة كالسابق، لقد خسرت ثقتي بها بتصرفاتها المترددة.

………….

***

بينما كنت ألعب خارجا قابلت صدفة فتاة صهباء متكبرة، بدأت تتنمر علي بلا سبب ما أثار الفيض في نفسي، تحملت الكلام الجارح كثيرا، فجأة نطقت البنت بشيء بذيء خارج عن الأخلاق، قلت في نفسي وقد نفذ صبري في تلك اللحظة: طفح الكيل !!!

نظرت إلى الأرض وتناولت صخرة بحجم كفي ووجهتها إلى رأس المتغطرسة، فأنا لا أتسامح مع الكلام المخل للحياء، ولا أتحمل سماعه ولا قوله أصلا……

اختبأت عند بيوت النحل الموضوعين في حديقة المنزل، فجأة جاء والد الفتاة الصهباء ونادى والدي وأخبره عما فعلته.

وبخني أبي، ولكني بقيت مصرة على موقفي، ولم أعتذر، ولم أفصح عما قالته تلك الفتاة، فأنا لا أقول الكلام غير المحترم، وخجلت أن أخبره، فحتى لو أخبرت أبي فلن يتغير شيء، وكأنني إن اعترفت؛ سيعود الزمن إلى الوراء، لذا فضلت السكوت، وفي نظري كان أفضل حل.

***

في يوم من أيام الصيف الحارة، قررت صنع بيت من الطين، ووضعه على لوح خشبي، وشقيقي الصغير “محمد” يراقبني.

بعدما جمعت الطين وكل ما أحتاجه، أتيت بلوح خشبي، وشرعت في وضع الطين على الخشبة، ورحت أخبز الطين وكأنه عجين إلى أن استوى هذا الأخير على شكل مستطيل وصرت أصنع الجدران، وكأنني خبيرة في صناعة الأواني الفخارية، وفور انتهائي، قمت بصنع طاولة تلفاز وأريكة من الطين، خيالي كان واسعا لدرجة لا تصدق، لكن لحظة!

ليس لدي دمى ألعب بها، مع ذلك عندي الحل نعم ملاعق الآيس كريم مناسبة لتمثل دور الدمى، لذا جمعت الكثير من الملاعق لأكون بها أسرة كبيرة.

كنت أخترع القصص أثناء لعب الأدوار، وأنا أقوم بتحريك الملاعق وأتكلم بدلا عنهم.

***

في فصل الخريف، جاء موسم جديد يخبر التلاميذ أنه حان موعد عام دراسي جديد، صرت أدرس السنة الخامسة ابتدائي……..

فتحت أبواب المدرسة، ودخل الكل بنشاط وهمة كالمعتاد، التزموا الصف، وبدأ النشيد الوطني، ورفع العلم ليرفرف بفعل نسمات الهواء الخريفي.

دخل الجميع، وجلسوا في المقاعد، وانتظروا دخول الأستاذ…وهم يتهامسون، فجأة انفتح الباب وظهر الأستاذ، معلم صارم لأقصى درجة عنيف المعاملة مع أن لديه مهارة عالية في التدريس إلا أنه غير محبوب من قبل الطلاب، فقد كان يضربهم بقسوة ويعاقبهم بطرق غير سوية، ومثالا على ذلك يوم أخطأ فيه أحدهم في مسألة رياضية، قام بضرب رأسه على السبورة المصنوعة من الخشب ما سبب له أذى في رأسه. ما يراه المعلم طرق تأديب وما يراها المتعلم طرق تعذيب، وكل شخص يفهمها على حسب منطقه وفلسفته.

بينما أدرس بجد في الفصل الثاني من العام الدراسي، صادف أن مرض والدي برئته؛ فاضطررنا لأخذه إلى المستشفى، وفي تلك الأثناء، ظهرت نتائج الامتحانات، وتبين أنني من المتفوقين الأوائل، ولكن مع ذلك إلى أني لم أحصل على جائزة من قبل المعلم، مع أنه أحضر للمتفوقين الآخرين جوائز جميلة، الغريب أن معدلاتنا الفصلية لا يفصلها إلا مجموعة من الكسور العشرية لا أكثر ولا أقل.

فقدت الثقة في المعلمين للمرة الثانية، كنت أحترم الوعود، ولكن ليس بعد الآن…

***

بينما كنت خارج المدرسة وأنا جالسة مع زميلاتي، فجأة! من دون سابق إنذار تغيرت ملامحهن وشرعن ينظرن لبعضهن البعض وكأنهن ينوين على شيء..

نهضت إحداهن، وبدأت في إزعاجي، ومن ثم انضمت إليها الأخريات…..

ستة مقابل واحدة! هذا لا يغتفر.

غضبت كثيرا مع أني كنت هادئة الطبع، لا أحبذ الشجار، إلا أنهن أصررن على التنمر علي وإيذائي……

قررت تجنبهن، وأثناء أخذي طريقا للعودة للمنزل، اعترض طريقي اثنتان منهن والأخريات كن ورائي، لم أعرف ماذا أفعل فأخذت الطريق الأطول الذي سيبعدني عن المشاكل……

عدت إلى البيت، وأنا حزينة ليس لي ولا صديقة حقيقية، كلهن مزيفات، يدّعين محبتي، وبعدها يتم غدري في نهاية المطاف، حتى بنات الجيران لا يتركنني وشأني وكأنني تسلية يملؤون بها فراغهم…يتنمرن علي صباحا ومساءا بلا كلل….

مع ذلك إلا أنني لم أكن وحيدة تماما، فلدي صديقة من الجيران كان لها شقيق أصغر منها بقليل.

في إحدى المرات قررت أنا وأخي و ابنة الجيران وشقيقها دخول المتوسطة المعروف عنها أنها مسكونة بالأشباح، ويقال أنهم سمعوا وقع خطوات حذاء بكعب عال، وكأن امرأة تمشي في رواقه، وبما أن الفضول طبع أصيل في الأطفال، اتخذنا نحن الأربعة قرارنا، ودخلنا إليها ونحن متحمسين، ما إن رأينا الساحة الكبيرة والأقسام الكثيرة.

بعد هذا اتجهنا نحو نافذة، ودخل كل من شقيقي وابن الجيران إلى القسم الذي يبدو عليه الكثير من الغبار، فجأة!! سمعنا صوت امرأة تصرخ !!! هرعنا مرعوبين إلى النافذة، لقد سمعنا صوت الشبح، خرجنا مسرعين كالبرق، وذهبنا إلى بيوتنا من دون رجعة.

***

عندما كنت ألهو ناداني أخي الكبير قائلا:

  • لقد وعدتك أنني سآخذك إلى حديقة الحيوان إن تحصلت على علامة ممتازة.

فرددت عليه:

  • هذا صحيح.

فقال لي بابتسامة:

  • جهزي نفسك، غدا سنذهب إلى حديقة الحيوان التي في العاصمة.

انفجر شيء في عقلي في تلك اللحظة، لم أصدق ذلك!! فالعاصمة بعيدة عنا جدا، ويمكن القول أن موقعنا في المناطق الداخلية من البلد، بينما العاصمة في الحدود الشمالية، بعيدة جدا !!!

أصبح شقيقي الأكبر الأب الثاني لي بعد مرض والدي، يحقق لي أي شيء يخطر في بالي إذا ما نطقت به، وكأنه مصباح سحري يقول شبيك لبيك شقيقك بين يديك.

ذهبنا واستقلنا الحافلة، لم تمض إلا ساعات قليلة، ووصلنا إلى العاصمة.

أذكر هذا جيدا وكأنه اليوم، ونحن نتجول في الشارع فجأة لمحت لوحة إعلانات كبيرة، لم أرها في حياتي فقلت متفاجئة:

  • أخي! أنظر إنه تلفاز كبير!

ما إن قلت هذا انفجر ضاحكا وقال لي :

  • اخفضي صوتك! انه ليس تلفازًا.

ابتسمت ونظرت من حولي، كل شيء جديد علي لقد انبهرت بالأماكن، عشت حياتي كلها في الريف فكيف لا أصاب بالذهول؟ ذهبنا بعد ذلك إلى الحديقة، ورأيت شتى أنواع الحيوانات، بعد التسكع الذي دام بعض الوقت؛ ركبنا لعبة دوارة حملتنا مسافة بضعة أمتار بعيدة عن الأرض وأخذت تدور.

شرعت الفتيات في الصراخ مع أنهن بالغات، ولكنني الفتاة ذات 10 أعوام لم يرعبني المنظر، بل العكس لقد كنت متحمسة حتى شقيقي تفاجئ لأنني لم أخف.

حقيقة كان من المستحيل أن أخاف فأنا تربيت في الريف تسلقت إطار الباب وتسلقت جدار المنزل ورأيت الجرذان الكبيرة والصغيرة والوزغ الذي كنت أقتله بدون أن يرف لي جفن وحملت الجراد ولعبت بالضفادع وقتلت الصراصير وحملت النحل من دون رعشة حتى، تقريبا لم أخف من شيء فكيف سترعبني لعبة غبية كهذه.

***

بعد يوم طويل، قررنا الذهاب لعمي الذي يسكن في ولاية قريبة من العاصمة، اشتد الظمأ؛ فخيرني أخي بين العصير والماء؛ فاخترت العصير، وإذا ما إن أخرج من المحل، حتى صادفت رجلا سمينا، يحمل قارورة ماء صغيرة، وقال لي :

  • هل يمكننا التبديل ؟

فصمتت مستغربة وقلت في نفسي:

  • أليست قارورة الماء أرخص من علبة العصير؟ هل يظنني غبية؟!

وبعد ذلك جاء أخي وأخذ بيدي ورحلنا متجهين نحو بيت العم، وبعد وصولنا لعبت من أبناء عمي الذين أكبر هم بسنوات، وفي الصباح عدنا إلى المنزل في ولايتنا.

***

حان الفصل الثالث والأخير ومن ثم تجتاز شهادة التعليم الابتدائي، كنت متفوقة، ولم أكن خائفة. لقد تشجعت، واجتزت الامتحانات التجريبية، ونجحت فيها بجدارة، وأخيرا حان الوقت لامتحانات شهادة التعليم الابتدائي.

أذكر ذلك كأنما حدث البارحة، لقد لبست فستان أزرق فاتح، استعرته من بنت خالتي، فلم أكن أملك الملابس الجديدة، وكنا فقراء حد الكفاف.

التقيت في ذلك اليوم بطفل له نفس كنيتي، لقد نقلونا إلى مؤسسة أخرى خارج قريتنا في نفس المنطقة التي تسكن فيها عمتي.

أدخلونا الصفوف كانت أسماؤنا مكتوبة على الطاولات جلست في مكاني الذي يجاور مكتب الأستاذ ومن ثم قدموا لنا أسئلة الامتحان في اللغة العربية، لم يكن صعبا حقا عندما قمت بقراءة محتواه، أجبت على كل الأسئلة، ومن ثم خرجت إلى الساحة وأنا أتأمل المكان، إنها ابتدائية قديمة الطراز لكن تصميمها مميز بقيت أتسكع هنا وهناك إلى أن حان موعد امتحان الرياضيات نظرت للمحتوى بتمعن وشرعت في الحل، لم تمض نصف وقد أجبت على كل شيء.

***

خرجت وأنا بكامل نشاطي ثم كافأت نفسي على مجهودي بتناول الطعام في مطعم تلك المؤسسة، وبعدها اجتزنا امتحان اللغة الفرنسية الذي فرقع عقلي؛ فأنا لا أجيد الفرنسية. لقد كنت غبية لأقصى درجة وكأن ورقة الامتحان تسخر مني، بقيت أستجمع أفكاري لكن سبحان الله فالعقل يشتغل طول حياتنا، لكنه يتوقف في الامتحان. لا بأس، فعلى كل، لقد نجحت وكنت من الأوائل على صفي وانتقلت إلى المتوسطة.

بدأ الموسم الدراسي في المتوسطة وأنا في غاية التوتر، كنت أتساءل هل الدراسة هنا صعبة؟ كيف سيكون الحال مع الأساتذة. ولكن خوفي لم يكن في محله؛ فقد درست بجد، واحتللت الرتبة الثالثة أو الرابعة على ما أذكر، وفي الفصل الثاني، احتللت الرتبة الأولى ، أتذكر جيدا كيف بكى عبقري القسم عندما تفوقت عليه ببضعة فواصل.

***

مر عام آخر، وكان أبي يعمل في المتوسطة المهجورة، يحرس بعض الأدوات التي يستخدمها العمال لهدم المؤسسة، وبعد مرور بضعة شهور، أصابته حكة في رجله اليمنى، كان أمرا عاديا إلى أن تفاقم المرض، وانتشرت الحكة وتسببت في جرح لا يشفى مهما عالجه مع أنه لم يمرض بالسكري.

قال له الأطباء أن دمه لا يتجدد، وبعد شهر أو أقل صار والدي يجلس على الكرسي المتحرك، أصبحت رجله منتفخة لدرجة أن من يراها يظنها ستنفجر، حدث هذا عندما انتقلت إلى السنة الثانية متوسط.

بدأت تتسلل السلبية إلى حياتي يوما بعد يوم، كيف لا؟! وأبي يتعذب أمامي، الشخص الذي لن يعوضه الزمن.

كرهت نفسي لم أستطع فعل شيء سوى المشاهدة، مع ذلك لم أرد لأبي أن يحزن، كنت في كل ليلة أذهب إليه، وأجلس بجانبه، وأسأله أن يحكي لي كيف كان يعيش قديما، استمتعت بكل لحظة معه، صار يطلب مني آخذه إلى المقهى وقد كنت أفعل ذلك في نفس الوقت الذي أذهب فيه إلى المتوسطة على الساعة 12:30، مرت الشهور وهو على ذلك النحو ثم انتقلت إلى السنة الثالثة متوسط وبدأت درجاتي تنخفض وقد لاحظ الكل هذا.

كنت أشعر وكأن شعلة انطفأت في داخلي لم أعد كالسابق. تبلّد عقلي، ولم أعد أستطيع التفكير، أنا تلك الفتاة ذات 13 عاما أحمل همّا لو وزنوه لعادل وزن الفيل، تحملت وتحملت….هذا كثير…لكن همي يرحل ما إن أرى والدي مبتسما، أنا فقط أريد تلك الابتسامة، لا أتحمل رؤية الحزن على وجوه الناس، خصوصا أبي، أحببته حبا جما ولا أزال، أذكر حينما كان يطلب مني التنزه ولم أرفض له طلبا يوما، ذهبنا لعدة أماكن وأنا أدفعه بالكرسي المتحرك.

مرت الأيام بسرعة وانقلب كل شيء رأسا على عقب، فقط في ليلة وضحاها تماما يوم الجمعة 21أفريل من عام 2017 ونحن نائمون أيقظتنا صرخة أمي.

نهضت أنا وأخي الصغير مذعورين! لم نفهم شيئا، فجأة !! رأيت والدي يحتضر أمام عيني!

أسرعت أمي إلى الخارج وراحت تطلب النجدة من أقاربنا، فإخوتي الكبار لم يكونوا هناك، بقيت أنا وأخي في المنزل ونحن نشاهده يموت أمامنا !

هرعت إليه مسرعة لمّا لمحت رأسه يسقط على الأرض وحملته بين ذراعي وهو ينظر إلى وروحه تقارب على الخروج، تلك النظرة التي كان يودع بها، دموعي لم تتوقف.

***

هذه الصدمة لم تفارقني طوال حياتي وكأنه أراد القول: لا تخافي لن يحدث شيء..

جاء أقاربنا في تلك اللحظة مع أمي ثم أخذوا إلى بيت عمتي، بقيت أتقلب في الفراش، وأنا أفكر كنت أظن أنه سيأخذونه إلى المستشفى كالعادة إلى أن نمت على الساعة الثالثة.

في الصباح عدنا إلى المنزل لكن لحظة! أنا لم أفهم شيئا! لما الناس مجتمعين حول منزلنا!؟ ما الذي حدث! أنا حقا لا أريد أن أعرف! آمل ألا يكون ما أفكر فيه صحيح، عندما دخلت من الباب شرع الأقارب يتجمعون حولي ويعانقونني!

أنا حقا لا أريد أن أعرف.. لا تقولوا لي شيئا!

نعم، لقد مات.. مات الشخص الذي كان يسعدني، يسعدني عندما يبذل جهده من أجل أن أعيش، يسعدني عما يحكي لي، يسعدني عندما يبتسم في وجهي، يسعدني عندما يجعلني أبتسم، يسعدني لأنه هو بالذات والدي الذي لن يعوضه شيء…..

أضحيت أندب حظي على ما فقدت! صرت أصرخ وأصرخ، أناديه ولكنه لم يعد..

استلقيت ووضعت رأسي في حجر خالتي وأنا مجهشة بالبكاء غير مصدقة لما يحدث، الدنيا تدور حولي، والدموع أبت التوقف إلى أن دخلت بين عالمين لست متواجدة لا في الواقع ولا في الخيال، أغمي علي وأخذوني إلى المستوصف.

بعد مرور الجنازة، وتلك الأجواء اللعينة التي لا أريد تذكرها، أصبحت حياتنا بلا معنى، رد رحل عمود المنزل وأصبحت يتيمة.

ذات مرة وأنا في المطبخ فجأة سمعت صوتا مألوفا! لقد صدمت! أليس هذا صوت أبي؟! نعم لقد سمعته يناديني من الغرفة التي كان يبيت فيها! أنا متأكدة!

حتى أنني ذهبت للتأكد! لم يصدقني أحد، وقالوا أني كنت أتوهم مع أنني سمعته بوضوح.

***

بعد شهر من وفاة والدي وتماما في شهر رمضان الكريم، اختفى أخي الصغير يوما كاملا عن البيت، فقد ذهب للهو مع أصدقائه ولأنه طائش، لم يكن ينصت لأمي بتاتا، ذهب خارج قريتنا على بعد كيلومترات مع أن عمره لم يتجاوز العاشرة.

وبعدما قرروا العودة للقرية استقلوا شاحنة كانت قد مرت بجانبهم وبعد لحظات من إقلاعها شرع الرفاق في المزاح مع محمد.

  • هل تعلم يا محمد؟! يبدو أن هذا الرجل الذي يسوق الشاحنة لص!! سيقوم بخطفنا جميعا!!
  • ما الذي تقولونه! هذا غير ممكن! أنتم تمزحون بالتأكيد!

ومع أنه أنكر ما قالوه له، إلا أنه بدأت تراوده شكوك حول الموضوع؛ فنهض فجأة!! ومن دون سابق إنذار، رمى بنفسه على قارعة الطريق ظنا أنه سينجو بنفسه من الخاطف.

فزع صاحب الشاحنة بعد الذي حدث، وهرع مسرعا لأخذه إلى المستشفى، فقد محمد وعيه إلى أن استيقظ من غيبوبته بعد 9 أيام متواصلة في العناية المركزة، لم يعد يستطيع المشي ولا الحراك من دون مساعدة، لكن مع الرعاية التي تلقاها تحسن بعد شهرين تقريبا وصار يمشي ثانية، حدث هذا في نفس الصيف الذي انتقل فيه إلى المدرسة المتوسطة.

***

 مرت الشهور، وتعايشت على فقدان أبي ظاهريا، صرت أتقرب أكثر وأكثر من أمي بعد رحيل أبي. هي الوحيدة التي ملأت فراغه، عوضتنا عنه، ولكنها لم تعد كالسابق أصبحت تنسى كثيرا، نسيت حتى كيف تطبخ، أخذت مكانها في المطبخ رغم سني.

صدمة فقدانها لوالدي كانت صعبة عليها، تأزمت صحتها بسبب ذلك وارتفع ضغط دمها وشرعت الأمراض غير المعروفة بالظهور عليها.

صديقتي التي لن تعوض..

في الأسبوع الأول لي في الثانوية، كان الأمر غريبا علي تماما، جلست وحيدة في المقعد وحاولت التأقلم مع بيئتي الجديدة، فجأة دخلت للقسم فتاة متجهمة الوجه يبدو على ملامحها حزن عميق، حقيقة لا أدري كيف صرنا صديقتان ولا أدري كيف جمعنا القدر حتى نصير كالأخوات تماما، حدثت أمور كثيرة، وواجهناها معا مع أننا مختلفتان من بعض النواحي، كنت أجيد الرسم، أما هي فتكتب الشعر.

أسلوبها فاق التوقع، بارعة جدا حتى أني سألتها يوما:

  • ريما ! كيف تستطيعين الكتابة بهذا الأسلوب المدهش؟! من يقرأ شعرك سيظن أنه من تأليف شاعر مشهور.

ضحكتها المكتومة التي كانت تصدرها في كل موقف طريف لم تفارق ذاكرتي رغم بعدي عنها لمدة طويلة، أذكر الأيام التي كنت معها وكأنها اليوم، كنت أحب عندما تعبس وهي مكتوفة الأيدي قائلة بلهجتنا :

  • راني كارهة!

من ثم انفجرت ضاحكة من طريقة كلامها وتكشيرة وجهها المصطنعة.

مع كل ما عانيته إلا أن حياتي المدرسية لم تخل من المواقف الطريفة، حسنا لنقل محرجة، ومضحكة بالنسبة لزملائي في الصف. لا أذكر بدقة في أي يوم حدث لكن أتذكر أنني لم أنهض باكرا كالعادة؛ فوصلت متأخرة بربع ساعة.

طرقت الباب، وإذا بمعلمة الفلسفة تسألني:

–  كم الساعة؟!

نظرت إليها قليلا ثم حدقت بساعتي التي على معصمي وأجبتها : – إنها الثامنة والربع يا معلمة.

– إذن، لماذا تأخرت ؟

فقلت لها من دون تفكير:

  • إن الثانوية بعيدة عن منزلنا.

والمضحك في الأمر ليس بعد المسافة، المشكلة أن المعلمة جارتي في الحي.

انفجر الجميع بالضحك، أما الأستاذة؛ فبقيت تحملق في لمدة من الزمن ثم قالت:

  • ادخلي.

عندما دخلت، ونظرت إلى ريما التي أصبح وجهها محمرا من شدة الضحك، كتمت ضحكتي وضغطت على شفتي حتى لا تخوناني، وعلى الرغم من ذلك انفجرت ضاحكة؛ فقامت المعلمة بطردي.

كانت هذه ذكرى صغيرة من المواقف التي حدثت في حياتي.

موقف من الحياة..

 

أذكر يوم كسر معصمي في حادث بالبيت كنت أدرس السنة الثانية من التعليم الثانوي وأشغال المنزل كلها علي بعد مرض أمي.

احترت في أمري وضعوا لي جبيرة في ذراعي اليمنى، لم أستطع فعل شيء! كيف أنظف؟! كيف أطبخ؟! ماذا أفعل؟! لم أجد جوابا لأسئلتي الكثيرة، توقف عقلي عن التفكير نصف واعية فعلت المستحيل، وتحديت نفسي، قطعت الخضر وطبخت ونظفت فقط بذراعي اليسرى، والشيء الوحيد الذي كان صعبا علي هو الكتابة.

الامتحانات على الأبواب، ودفاتري تقريبا فارغة، لا أستطيع حتى الدراسة، والمشكلة أنني نزعت الجبيرة مع الشروع في الامتحانات ومع ذلك نجحت بصعوبة وانتقلت إلى السنة النهائية.

………………………………..

***

حل فصل الصيف وتحديدا شهر يوليو من عام 2020، كان الجو حارا…. دخل أخي الصغير محمد ذو ال13 عام إلى المنزل وقت الغداء _سألني عن الطعام، ثم تناوله ،ولسبب ما تشاجرنا، ثم خرج غاضبا، بطبيعة الحال نحن متقاربين في العمر وكان من العادي لنا أن نتشاجر.

في الظهيرة تلقينا خبر كالصاعقة! أخي الصغير وهو يلهوا في النهر رمى نفسه في النهر وضرب رأسه بصخرة لدرجة أن رقبته دخلت في القفص الصدري!

أصابه الشلل، صرخت أمي وهي تندب حظها التعيس، وما هو إلا يوم ووصلنا خبر وفاته!

لم أصدق ذلك! فقط في اليوم الذي قبله كنت أتحدث معه! كيف له أن يموت بهذه السرعة؟!

صرت أتكلم مع نفسي كالمجنونة!

لم يبق لي عقل أفكر به!

***

يقولون ابتسم تبتسم لك الحياة، هذا مستحيل! لماذا أبتسم أصلا! ماذا سيتغير أن ابتسمت؟ هل سيعود الناس الذين فقدتهم أم ستعوضني تلك الابتسامة على ما فات ؟!

أنا حقا لم أعد أعي ما يحدث؟!!!

مر الوقت إلى أن أحضروا جثمان شقيقي في التابوت، عندما نظرت إليه.

لم أقدر حتى على البكاء وكأن شيئا يخنقني بشدة..لماذا!! لماذا!! لما يحصل كل هذا أنا لا أفهم! لما هذه الأجواء اللعينة لا تفارقنا؟ لما لا يتجمع أقاربنا إلا في أوقات كهذه ؟

أصابني الإحباط..

بدأت أفقد شغفي في الحياة، لم يعد لي هدف سوى رعاية أمي المريضة التي صارت من أولى اهتماماتي، تفاقمت أمراضها بعد الصدمة الثانية وهي موت شقيقي.

أعياها السقم إلى أن أصبحت طريحة الفراش لا تحرك ساكنا، لا رجليها ولا ذراعيها، شلّت تماما لم يعرف الأطباء مرضها، ولم يحددوا أسبابه …..

انتفخت قدماها وجسمها صار هزيلا، كانت تأبى تناول الطعام مع أني حاولت مرارا وتكرارا، حتى أصابني اليأس، ندبت حظي مرات عديدة…..أرجوك يا أمي تناولي القليل فقط ! لكنها لا تريد! أنا لم أفهم….. كنت مضغوطة من الجانب الدراسي فهي السنة الأخيرة من التعليم الثانوي، وإن نجحت؛ سأدخل الجامعة.

أذكر يوما أن أمي كانت تقول لي أنها عندما تشفى، ستضربني رغم أني لم أفعل شيئا خاطئا، لكني كنت سعيدة عندما قالت لي هذا ثم رددت قائلة:

  • إذن عليك أن تشفي بسرعة كي تفعلي ذلك.

عانقتها كل صباح قبل الذهاب للمدرسة، لكنني لم أشبع منها، تعلقت بها تعلقا شديدا خصوصا تلك السنة…..ظهرت النتائج في المدرسة، ولم يعد هناك أمل في النجاح في شهادة البكالوريا ! أيقنت أنني سأفشل حتما، حتى الأشخاص من حولي كانوا متأكدين من ذلك، ولكن لم يكن همي الحصول على الشهادة.

***

أخذنا أمي إلى كثير من الأطباء، وطلب منا أحدهم أن نجري لها عملية جراحية على رأسها، فبعد التحاليل ظهر أن هناك ماء في داخل رأسها، وهو الذي جعلها تنسى كثيرا……..

جمعنا المال، وأجرينا لها العملية، ذهبت معها؛ لأعتني بها، وبعد يومين أو ثلاثة عدنا إلى المنزل وصار الاعتناء بها أكثر صعوبة من المعتاد.

المشكلة أنها توقفت عن الكلام! لم أعد أعرف ما تريد! في بعض الأوقات صرت أبكي أمام شعوري الفظيع بالعجز!

تخيل أن كل الأبواب مغلقة حولك وليس لديك ولا مفتاح واحد! هذا ما حدث بالضبط.

أخيرا ! قاربت الامتحانات النهائية وأصبحت أدرس قليلا لعلي أنجح، بعد مساعدة أختي لي في إدارة المنزل، قبل الامتحانات بأسبوعين، فبما أنها متزوجة لا تستطيع البقاء طويلا، لكنها تركت لي مجالا صغيرا حتى أراجع دروسي مع أن فرصة نجاحي معدومة تماما.

لم أيأس وسهرت الليالي المتبقية، وجاءت الامتحانات بعد طول انتظار وانتهت في أربعة أيام كرمشة العين وأضحيت أنتظر النتيجة بفارغ الصبر…

كان هناك أمل ضعيف يقول أنني سأنجح، رغم تناقض أفكاري التي تخبرني أني سأرسب.

عددت الأيام والدقائق والثواني، إلى أن جاء يوم الاعلان عن النتيجة! اليوم المصيري! أنا لم أرسب من قبل! التوتر زاد والغضب بلا سبب! خشيت الرسوب لأول مرة في حياتي.

زارتنا خالتي وصارت تنتظر معنا، فجأة صدمت! نعم، لقد نجحت! لقد نجحت رغم أني لم أدرس إلا أسبوعين مع أن بعض صديقاتي اللواتي درسن من أول السنة رسبن! كيف ذلك؟ لم أصدق نفسي! كلهم صدموا مثلي، وقالوا إن الحظ حالفني!

عجبا! ربما أوافقهم الرأي قليلا، لكن بعد النظر في الأمر، لقد بذلت جهدا مضاعفا لأنجح. من المستحيل أن يكون الأمر مجرد حظ! إنها دعوات أمي طريحة الفراش، أذكر جيدا أنها كانت تسأل الله أن يوفقني وقد استجاب دعائها.

من فرط سعادتي، نسيت اخبارها على نجاحي، وعندما أدركت الأمر ذهبت إليها مسرعة وقلت لها :

  • أمي لقد نجحت ! لقد انتقلت إلى الجامعة!

ارتسمت على ملامحها الشاحبة ابتسامة وضحكة مكتومة، عانقتها بشدة في تلك اللحظة لم يبق إلا أن تشفى، هذا أملي الوحيد الذي لم أفرط به.

بعد مرور أشهر وتحديدا في شهر أكتوبر من عام 2021

جسم أمي لم يعد يتقبل السائل المغذي. إنها لا تأكل ولونها صار شاحبا جدا! تجمعت خالاتي في البيت، و اتصلوا بأختي حتى تأتي، وبعد مجيئها في الليل، ماهي إلا لحظات و فارقت أمي هذا العالم اللعين ! أنا لم أعد أشعر بالحياة….

قطع آخر حبل تمسكت به لأعيش….

لم يعد لي هدف أعيش لأجله.

اعترتني حالة هيستيرية لدرجة أني حاولت تدفئتها بالفراش وهي ميتة، كنت خائفة أن تبرد.

تعطل الجزء الأخير من عقلي المتبقي، ونمت آخر يوم بجانبها.

تذكرت الأيام التي كنت أمسك يدها، وأنام رغم مرضها، تذكرت الأيام التي كنت فيها صغيره وهي تربت على رأسي حتى أنام…. لم أنس شيئا منها.

في اليوم التالي وقت مراسم الجنازة، بعد أن غسلت وكفنت، كل ما تبقى هو أخذها للصلاة عليها في المسجد، وضعوها في المحمل، وتم تغطيتها.

هذا الذي لم أحسب حسابه، جاء أخوالي وإخوتي لحملها في المحمل وإخراجها.

صرخت وصرخت:

  • لا تأخذوها !!!!

أصبحت كالمجنونة، لقد صرت وحيدة….

أصابني الاغماء بعدها، صارت هذه الحالة تراودني منذ وفاة والدي، ولا أستطيع البقاء في مكان يعج بالناس أيا كان، جنازة أو زفافا….

كرهت منزلنا كثيرا، لم أعد أتحمله، وما هي إلا أيام قليلة حتى أخذني عمي لأعيش في منزله الذي يقبع في ولاية أخرى.

لا أريد العودة إلى ذلك المنزل المشؤوم أنا حتى لا أريد تذكر كيف يبدو شكله…تم تحويلي إلى جامعة أخرى غير الجامعة التي كنت سأدرس بها في ولايتي، وصرت أتعايش مع واقعي.

***

 غمرني تعلقي الجديد أصبح بالدراسة والتفوق، مع ذلك لم أعد كالسابق، تلك الابتسامة تلاشت مع مرور الزمن….

تحول الوجه المشرق إلى وجه يعج بالظلمة، ليس هناك هدف في الحياة غير انتظار أجلي مع أنني أدرس بجد وأسعى للمراتب الأولى.

هذه الكلمات التي كتبتها ربما لا تعني شيئا ويجدها البعض فيها شيء من الطفولية إلا أنها مهمة أكثر ما يكون بالنسبة لي.

أعلم أنه لن ينتهي كل شيء بفقدان شخص، نعم أفعل المستحيل وأجتهد لبلوغ بعض الأهداف، المشكلة أن الرغبة في الحياة معدومة، ولا يمكنني التحكم بها وهذه هي المشكلة التي لم أجد لها حلا.

إلا أن الحياة لن تتوقف هنا، ستبقى إلى مالا نهاية حتى وإن تفككت عائلتنا حتى وإن هجر بيتنا وأضحى مأوى للحيوانات الشاردة، حتى وإن انطفأ النور وغطى الظلام الدامس الأجراء، حتى وإن ضاق بي الحال وزرت قبور أحبتي.

ستستمر الحياة بهم أو بدونهم وكل ما علي قوله في هذه اللحظة الحمد لله على كل حال.

 

Related Posts
Leave a Reply

Your email address will not be published.Required fields are marked *

Instagram
Telegram
WhatsApp