أشعر أنني أسيرة هذه الجينات التي تسكن عقلي ونفسي، أشعر أن نفسي قد شُطرت نصفين بالتمام والكمال كما تُشطر ثمرة البرتقال بسكين حاد، متي أتحرك وأنفعل بنصفي الآخر، فأنا أنفعل بنصف أنسان هو النصف الذي ورثته عن أمي ! أما النصف الآخر وأعني بها الجينات التي ورثتها عن أبي فلم تظهر للوجود بعد وكأن لا وجود له، فهذه الجينات الذكورية مازالت في حالة خمول شديد أو لنقل في حالة قمع مستمر منذ نعومة أظفارى ..
الجينات التي أعنيها والتي تظهر على السطح ـ سطح تصرفاتي ـ هي الجينات التي ورثتها عن أمي، هي جينات الخوف المطلق من ذاك الوحش الكاسر الذي يسكن بيتنا، جينات الوداعة والقناعة والاستسلام التام، أما الجينات الأخرى التي ورثتها عن أبي رغم أنها لم تظهر إلي الآن إلا أنني أعرف أنها تسكن جنبات نفسي، ولكن لم يُتح لها الطفو على سطح نفسي والتعبير عن نفسها ربما بفعل التنمر والقمع الأبوى في بيتنا ..
صوت جهوري، بنية عظيمة، حاد الطباع، ثائر لأسباب وبدون أسباب، آمر ناهي على الدوام، عنيد، لا يرضي بالحلول الوسط، مغامر، عنيف، على استعداد للبطش وأشك أنه سادي يجد لذة في تعذيب أقرب الناس إليه وهم ـ نحن ـ بناته وأنا على الأخص لأنني أكبرهن، لم تكن هذه الخصال معروفة أو معلومة لديَّ إلا عندما أكتشفت وجود جيناتها في نفسي بكرور الأيام .
وبسبب هذه الجينات الظاهرة وما خفي منها، استطاع أبي أن يحيل حياتنا إلي جحيم مطلق كما قلت وبما أنني أكبر البنات فقد تحملت الجانب الأكبر من هذا الجحيم ..
كان أبي يتوق لأن يسمع الممرضة وهي تبشره بالغلام الذي ينتظره طويلا بعد أن فتحت باب غرفة العمليات وخرجت وهي تحمل رضيعة أبنة نصف ساعة .. ولكنها بشرته بي! وبسيماء يعلوها البشر سألت :
ـ أين والد العروسة ؟
أشارت إليه خالتي، فتوجهت إليه وهي تحملني وكان يقف في الرواق مع الطبيب المعالج يتلقى منه التعليمات الخاصة بالمولودة الجديدة .
اقتربت منه الممرضة بوجهها البشوش وقالت :
ـ بالتأكيد ستدعوها “ناهد” على أسمي .. وإلا سأغضب كثيرا منك !
رد أبي بتقطيب شفتيه في إبتسامة مُكبلة بآمال ذهبت أدراج الرياح .. رفض حتي أن يحملني وأنا متدسرة في عباءة خالتي بحجة أنه خائف أن يؤذيني بحملي خطأ .. ورغم أن الممرضة شرحت له بالتفصيل كيف يحملني .. لكنه رفض بشدة حتى أن الممرضة دهشت من ردة فعله .. فاستدارت عائدة إلي غرفة العمليات حيث أمي مازالت تحت تأثير المخدر .. وكأنما عاقبه القدر على عدم رضاءه بمشيئته فأنجب أربع بنات وحرمه من انجاب الذكور.
تلاقت رغبات ثلاثتنا ..!
تلاقت رغبة أبي في التخلص من واحدة من بناته أو كما كان يقول من أول مصيبة من المصائب الموجودة في بيته مع رغبتي في التخلص من هذه الحياة الممضة والكئيبة مع رغبة صديقه الأرمل الذي يبحث عن طفلة لم تبلغ بعد التاسعة عشر ليتزوجها بعد وفاة زوجه ..
بما أنه صديقه فقد تهاون كثيرا في طلباته .. فلم تعترض موافقته على الزواج ومباركته أن المتقدم للزواج كان يكبرني بخمسة وعشرون عاما ..لذا بارك الزيجة الميمونة .
انتقلت على عجل من بيت أبي إلي بيت زوجي، من معتقل مركزي إلي معتقل تابع، وعلى هذا انتقلت كافة المسؤوليات التي كانت موكلة لي في بيت أبي إلي بيت زوجي وزاد عليها حق امتاعه دونما أي شكوى أو تبرم أو تأفف من جانبي .
إلي الآن مازالت جينات أبي العنيفة بداخلي خامدة حتي أن الشك ساورني في وجودها بداخل نفسي، فقط كنت أتبرم وأتأفف كرجع الصوت دون أن أجرؤ على أن أصرح بما يعتمل في صدري، ولو أنهم شقوه لوجدوا نارا مستعرة، فكنت كمن استجار بالنار من الرمضاء ورغم ذلك فإن نفسي المهزولة لم تتحرك أو تعترض سبيل ذلك الآمر والناهي الجديد
وما زاد الطين بلة أن زوجي كان على علم بما يدور في بيتنا من صلف وقسوة وجبروت أبي ومن رخاوة واستسلام أمي لذلك أقنع نفسه بأن خير وسيلة للتعامل معي هي أن يستمر في نفس طريقة أبي في التعامل معي والمتمثلة في التجهم ليل نهار في وجهي لإعتقاده أن هذا التجهم في الأمور الصغيرة يمنع حدوث المشكلات الكبيرة، وأن الزجر واللوم الدائم لهو علاج للإهمال، الأمر الذي يجعل الملوم في حالة استنفار قصوى لئلا يقع في دائرة المحظور، وأن الصفع واللطم والركل لهو علاج لعدم الرضا بالقضاء والقدر .. بتُ ألوم نفسي وأؤنبها كل ليلة على الخضوع والخنوع المتواصل، وكأني كنت أستحث جينات التمرد بداخلي على الثورة ضد الطاغية الجديد ولو عن طريق التذمر والتأفف كنوع من الاعتراض على المعاملة الغير آدمية .
للأسف .. فات أوان الإعتراض .. وسأكون أنا أول من يقمع تلك الجينات المتمردات وليس أحدا غيرى .. بل سأشترك مع الطاغية الجديد في قمعها ولن أسمح لها أن تطفو على سطح نفسي فأنا أحمل في أحشائى بذرة جنين من زوجي الذي وافته المنية بعد أن علم بهذا الخبر بأسابيع قليلة ..
انتقلت للعيش في بيت أبي ثانية ولكن الأمر الآن أصبح مختلفا .. أو كان يجب أن يصبح مختلفا فأنا أبنته الكبرى وزوج صديقه، ولكن لا حياة لمن ينادي فلم يتغير في الأمر شيء بل إزداد صعوبة بالنسبة له، كان يحسب أنه تخلص من أحدي مصائبه .. فعدت إليه أحمل مصيبة على يدي ..! مصيبة صغيرة كما كان يقول في تأفف ظاهر واصفا إياها ..عدت ثانية أمنع جينات أبي ـ التي تزأر في نفسي بين حين وحين ـ من الظهور خوفا من أن يسمع أحدهم زئيرها !
كان معاش زوجي الراحل كافيا لمعيشتي أنا وإبنتي .. لذا شعرت في بداية الأمر بالحرية المطلقة في أن أفعل ما أشاء مع من أشاء وقتما أشاء .. ولكني كتبت على نفسي أن أعيش حياتي القادمة لنفسي ولإبنتي ولذا قررت ألا أتزوج ثانية وما ساعدني على أتخاذ هذا القرار هو وفاة أبي ! وكأنما كانت جيناته في نفسي تتحين الفرصة للظهور وبوفاته وجدتها ..!
ما جعلني أراجع نفسي في هذا القرار أمران، أبنتي التي تحبو أمامي الآن على أربع، فهي تحتاج بالتأكيد إلي مشاعر الأب، كما أنني ما زلت في ريعان شبابي وفي قمة أنوثتي وأحتاج إلي رجل يدفعني بعيدا وبرفق عن وساوس شيطانية مخذية قد تجرف ذهني عن الطريق القويم .. لذا قررت أن أتروي كي أختار رجل لا أشعر معه بالغربة، رجلا يكون عن حق أبا لإبنتي وزوجا حنونا لي ..
وقلت في نفسي لن يفرض أحد على ـ بعد الآن ـ رجلا أتزوجه فأتعذب أنا وابنتي في كنفه بل سأتوخى الحذر وسأفرض عليه توخيا للحيطة أن أملك مصير حريتي في يدي وسأدون هذا في عقد زواجنا .
وجدته بعد فترة من البحث .. رقيق المشاعر، حنون، عطوف، ودود وبشوش وهادئ الطبع
تزوجنا بعد أن ضمنت شروطي في ورقة عقد القران ..
وكأن جينات أبي العنيفة والتي تسكن جنبات نفسي وخلايا عقلي رفضت أن تستمر في سكونها إلي الأبد وقررت التمرد الآن !
فوجدت نفسي بعد فترة وجيزة من الزواج أنفعل في وجهه لأتفه الأسباب، وركبني العناد والتحدي وتحولت لكرة لهب تحرقه كلما حاول التودد والتقرب إليَّ وباءت محاولاته في إرضائى بالفشل .. كان يقضي ليله أغلب أيام الإسبوع نائما في غرفة استقبال الضيوف ..!
استمرأت جينات أبي أن تراه يتعذب دون أن يتبرم .. فأطنبتُ في زيادة جرعة حرمانه مني وفرضتُ عليه سياجا من الحرمان في أن يكون له طفلا من صلبه يدعوه بحق أبي .. وافق ولم يعترض مكتفيا بحب ابنتي له ودعوتها له بأبي وكان يقول : هي ابنتي لا ريب !
يبدو أن صراع الوجود الذي كان بين جينات أبي وجينات أمي في نفسي قد بلغ ذروته حينما وجدت زوجي يحتضن أبنتي ذات السنوات الثلاث ويلاطفها في ود بالغ .. فرأيت بخيال عيني صورتي وأنا أبنة الثلاث سنوات وأنا أقترب من أبي .. فيتجهم في وجهي ويزجرني كأنه أسد على وشك أن يلتهم قطعة من اللحم ألقيت أمامه .. فلم أكترث .. اقتربت منه أرشد الأمان بين أحضانه فيأبي وينهرني ثم يدفعني في كتفيَّ بعيدا عنه .. سقطت على الأرض وأنا أبكي ومددت له يدي بالرجاء فيرفضها .. ينتتر منتصبا ويغادر المكان مسرعا دون أن يلتفت إليَّ ..!
حينما تراءت صورتي هذه أمام عيني .. صرختُ .. صرخت بأعلى صوت وسقطت مغشيا علي.
جاء الطبيب وقال : حالة إنهيار عصبي بسبب أنفعال شديد في موقف لم تستطع تحمله ..! نفي زوجي أن يكون قد حدث شيئ من هذا القبيل
رد الطبيب قائلا :
ـ النفس البشرية، سيدي، مليئة بالجروح الغائرة التي لا تندمل إلا بالحب ..
أفلح زوجي في أن يشفي جروحي بحبه لي وبغرامه بإبنتي .. وأصر على أن يدعو بذرة الحب التي أحملها منه في أحشائي على اسم أبي ليزيل ما تبقي من غبش في نفسي ..