1
في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية
الممرضة
-آنسة عُليّا؟
–نعم.
-تفضلي الطبيب بانتظارك.
–حسناً.
عُليّا فتاة في العقد الثاني من عمرها، منذ فترة طويلة تُعاني من نوبة اكتئاب حاد؛ مِما أدى لمحاولات انتحار، كادت أن تٌودي بحياتها.
– عُليّا!
– مرحبا سيدي أنا عُليّا
الطبيب:
– أهلاً بكِ يا عزيزتي، هَل تشعُرين بأنكِ الآن أفضل؟
عُليّا بتردد:
– أظنُ ذلك يا سيدي الطبيب”.
الطبيب:
– يُمكنكِ أن تأخُذي راحتك بالحديث معي، استرخي فحسب، وخذي نفساً عميقاً.
بشكل مفاجئ، أجهشت عُليّا بالبُكاء، وكأنها كانت تحملُ بُؤس العالم في قلبها، مما دعل الطبيب ليمد يده لها بمنديل:
– هوني عليك يا عُليّا كُل مشكلة ولها حل، يجب أن تُساعدي نفسك أنتِ أولاً، لن تُجدي أي محاولة إن لم يكن لديكِ الإرادة القوية للتعافي.
عُليّا:
– أتمنى يا سيدي، لكن لا أشعر أن هُنالك ما يستحق في هذه الحياة.
الطبيب:
– استرخ قليلا، فقط تكلمي عندما تستطيعين، لا شيء يستدعي كل هذا البكاء.
عُليّا بصوت منخفض خائف:
– لقد عشتُ طفولة مشوهة، ومراهقة يملأها الخوف والصمت والاكتئاب، أظن أن شبابي سيضيع بينَ هذه وتِلك، ليُصبح الناتج في النهاية هذه الشخصية الضعيفة التي لا تقوى على مواجهة الحياة، ويظل الماضي يلاحقني في يقظتي ومنامي.
عندما يكبر الإنسان يا سيد ي قد لا يتذكر المرات التي ضَربه والداه فيها وهو مخطئ؛ ولكن سيتذكر كُل اللحظات التي ضُرب فيها بغير ذنب، أو لأجل خطأ لم يرتكِبه، تظل تلك الذكريات محفورة إلى الأبد ولا تنتهي، شبح يُلاحقه طول حياته، في كل مرة يشعر فيها أحدهم بأنه أكثر إقبالا على الحياة، تأتي ذكريات الطفولة المؤلمة لتنزع الطمأنينة ويُعاد شريط الذكريات أمام عينيه من جديد.
الطبيب:
– حقاً أشعرُ بالأسى لأجلكِ يا عُليّا.
يجب ألا يستهين الوالدان بمشاعر أطفالهم، وألا يقتلان ثقتهم بأنفسهم أو بِهما لأجلِ لحظة غضبٍ عابرة، أو لأجل مشاكل لا تعنيهم بشيء…ربما الذي جعلهم يتعاملون معي بهذه الطريقة هو شيء ليس لي فيه أي ذنب.
العُنف مع الأطفال يصنعُ مِنهم شخصيات ضعيفة، حقودة غير سَوِية، تتعطشُ للانتقام قبل التسامح. لم يكن العُنف أبدًا طريقة سليمة لتربية طفل طبيعي سليم.
عُليّا:
– أنت مُحِق سيدي الطبيب، العُنف ليس وسيلة للتَربية المث إلى ة، بل هو وسيلة هدم تربوي من الدرجة الأولى.
أذكر تلك الأيام التي كنتُ أتمنى ألا ينتهي دوامي بالمدرسة لكي لا أذهب إلى البيت، لأنني كُنت أخاف من أمي، وأتمنى دائماً أن لا أجدها عند عودتي، أذكر أنني طلبتُ يوما من صديقتي أن تُرافقني إلى بيتنا فقالت لي أنها لن تذهب معي، لأنها تخاف من أمي أيضا.
الطبيب :
– واصلي يا عزيزتي، أنا أُصغي إليكِ.
عُليّا “والدموع تنهمِر من عينيها”:
– حتى اللحظة أذكر إلى وم الذي أخبرتنا فيه أمي أنها تتمنى لو لم تُنجبني، وقالت أنها كانت ستكون أفضل من دوني، وأنني سبب شقائها… وبعد وقت قصير مرضتُ وتمنيا أن أغادر الحياة.
الطبيب : “مُتأثراً” :
– ربااااه! أحيانًا الحياة تقسو علينا بشدة، لكن يجب علينا أن نكون أقوياء لمواجهتها يا عُليّا
عُليّا:
– أنت مُحق سيدي.
الطبيب :
– يُمكنكِ أن تأخذي قسطاً من الراحة ونُكمل لاحقاً إن أردت.
عُليّا:
– لا!
هكذا أنا أفضل.
تنهد الطبيب:
– حسناً أيتُها الجميلة أكملي.
عُليّا:
– ذات يوم، بعد انتهاء الدوام بالمدرسة، وجدتُ عصفورا صغيرا، وقع من عُشه، وبقلب طفلة بريئة أشفقتُ عليه، فقررتُ أن أصحبه معي إلى المنزل لأُطعمه وأهتم به، ولكني كنت أعلم أن أبي لا يحب أي شيء يبعدني عن واجباتي ودراستي؛ فبعقل الطفلة فكرت أن أضعه عل سطح الجيران، واذهب كل فترة اضع له الحبوب والماء..
لم أقص على أبي وأمي قصة العصفور خوفاً أن يمنعاني من رعايته، ولكني لم أعلم أن ذلك العصفور سيكون سبب شقائي.
كل يوم في الصباح الباكر قبل أن يصحوا أبي وأمي من نومهما، أمشي على أطراف أقدامي، وافتح باب شقتنا بدون أن يصدر مني أي صوت خوفاً أن يشعروا بخروجي من المنزل، وفي يدي بعض الحبوب وماء للعصفور، أطلع بها على سطح الجيران كل يوم وأراعي العصفور وألعب معه، شعرت نحوه بحب كبير.
2
كان الطبيب يستمع باهتمام بينما يعبث بالقلم بين أصابعها وهو يطالع ملامح عُليّا التي تشنجت بشدة حينما وصلت لتلك النقطة من حكايتها..
في الوقت الذي كانت عُليّا تواظب على زيارة عصفورها الأثير في مكمنه، كان هناك من يراقبها من وراء ذلك الشباك بعيني الذئب الجائع الذي يتربص للفريسة حتى تحين الفرصة ..
– يراقبني من وراء زجاج نافذته ولم أعلم أني سأكون مثل ذلك العصفور يقع في يدي الصياد.
حتى أتى ذلك إلى وم..
كانت قد تسللت كعادتها لتلتقي عصفورها؛ فتحين الفرصة للقائها وجاء يتحدث ..
عينان واسعتين تحاولان بصعوبة إخفاء نهمهما..
– كانت يداه تتحسس جسدي الصغير، ونظراته كانت تخيفني، وبدأ يخرج من جيبه بعض الحلوى، وهو يحدثني بلطف.
وهيأ له عقله المريض أن هذا الجسد الصغير هو الذي سيطفئ نيران جوعه، فمد لي يده ليسحبها إلى غرفته، وبدون رحمه لم يرحم طفولتها وبدون النظر إلى براءتها ، استباح لنفسه جسدها لم يهمه براءتها وهي تسأله
– ماذا تفعل ياعمو؟
كان الألم رهيبًا، بينما تتجول شفتاه وأصابعه في نهم وعنف في كل أنحاء جسدها بلا تمييز.. نعومة جلدها الصبي تلهب غريزته..وآهات ألمها تدفع عقله وجسده المتوتر إلى حافة الجنون؛ فيضم جسدها مكبل بين يديه وتحت ثقل جسده ويتشبث به بمزيد من الاشتهاء والقسوة طلبا للمزيد.. البراكين تثور في عروقه، وقد وجدت الفوهة..
تفور الحمم من خاصرته، فتختلط آهاته بآهات ألمها التي تزداد قبل أن يستسلم جسدها، وتسقط فاقدة الوعي..
مرت ساعات أو سنوات.. أفاقت بعدها لتجد نفسها على الأرض وحيدة، بجسد شبه عار..
- مصطفى الحاج حسين يكتبــ: إجراءات…(قصة قصيرة).
- بدوي الدقادوسي يكتبــ: ليست الطبعة الأخيرة (قصة قصيرة).
زحفت الطفلة علي الأرض وحاولت أن تلملم ملابسها، وقدماها لا تقويان على الوقوف ،وصلت إلى منزلها بصعوبة مستعينة بالجدران تحت عبء الاعياء المتمكن من كل خلجة في جسدها.
رأتها امها وهي تسقط علي الأرض بمجرد دخولها من الباب، ولم يخطر ببالها ما حصل مع طفلتها، وظنت أنها مريضة بسبب لعبها في الشارع.
لأسبوع كامل لم تقو على مغادرة السرير، لم يكن هذا مثار قلق الوالدين فقط، على الجهة الأخرى كان هناك صدر رجل يموج قلقا من أن تتفوه الطفلة بما حدث على السطح، لكن ها هي الأيام تمر دون أن يحدث شيء..
3
تنزل الطفلة مرة أخرى للعب مع صديقاتها في الشارع..
وقف يراقبها من خلف زجاج النافذة تلعب مع أقرانها غير عابئة بالنيران التي تستعر في جسده كانت تطوف بذهنه تلك اللحظات،يسيل لعابه وتفور الحمم في خاصرته وهو يسترجع ملمسها، وصوت آهاتها المتألمة.. ورعشة جسدها الرقيق بين يديه.. حاول أن يهدأ؛ لكنه كان مثل المدمن الذي وجب ميعاد جرعته..
كلما تحركت وقفزت أو هرولت بين صديقاتها.. كانت تفاصيل جسدها تتعرى أمام مخيلته؛ فيسترجع طعمها وملمسها .. يسترجع انغراسه في صباها النضر.. وآهة انفلات حمله المغادر إلى خلاياها..
ما الضير في زيارة أخرى لربوع الجنة المحرمة؟
واستدراجها بالحلوى الكثيرة كما تعود، وبالفعل تبضع أولاً من البقالة، ثم أشار إلى ها لتأتيه، يحملها بحفاوة ويصعد بها بسرعه قبل أن يلمحه أحدهم.
فعل فعلته معها مراراً وتكراراً، الظمآن لا يشبع من البحر..والفوران في عروقه لا يهدأ..
– وفي يوم كالعادة استدرجني وكنت في كل مرة أستجيب له ولا أعرف ما يفعله بي، صارت عادة وطقسا كاللعب، ولكن هذه المرة غير كل مرة كانت تعبه وهزيلة ،ولكن في هذه المرة كان أكثر عنفا وكان يصل به الأمر أنه ضربني.
– ضربك؟!
لأنه لمح بطرف عينيه تلك العلامات على وجهها التي تشير إلى أنها حامل، كما ظلت ترمقه بنظرات متشككة لماذا يفعل هذا بها؟! وبعد كل هذا ذهبت إلى بيتها لتسقط على الأرض.
– صرخت أمي وجاء إلى ها الجيران عندما سمعوا صوت صراخ أمي، وذهب أبي إلى الطبيب ليأتي به إلى المنزل، وما أن سمع المجرم بالخبر حتى لاذ بالفرار، كانت الصاعقة عندما سمعت أمي الطبيب وهو يقول ابنتكم حامل؛ صرخت امي صرخة لن أنساها، أما أبي المسكين، فقد ارتفع ضغط دمه وأصيب بجلطة في الحال وأصبح قعيد كرسي متحرك، ولا يتحدث.
كيف له أن يتحمل ابنته الوحيدة صاحبة الإحدى عشر عاما حامل؟
البنت الوحيدة التي راهن عليها بكل آماله لم يعرف أن هذا يصبح مصيرها. ظل هذا الحال أيام وأنا لا أعرف شيئا، كان البيت يغيم عليه الوجوم والترقب.. الأب.. الأم.. حتى الجدران والأثاث..لم يعد شيء أبدا كما كان..
وفي صباح يوم ما ينكسر الصمت بصوت أم تنادي ابنتها ..
– إذا بها تضربني فجأة لأسقط وتقف بقدميها علي ظهري.. كانت في حالة هستيرية وعلى وجهها نظرات مخيفة عجز ذهني عن استيعابها..غبت عن الوعي.. كل ما أذكره هو صراخها الباكي وهي تقول ليتني لم انجبك ..ليتني لم أنجبك ..
4
تغيب عُليّا عن الوعي، وكان آخر ما شعرت به آلام شديدة تعتصر أحشائها، قبل أن يتدفق الدم بين فخذيها بعنف..
أمام الطبيب تختلج ملامح عُليّا وتعتريها رعشة باردة، تجتاح جسدها..
– أعرف بعدها بأيام قليلة، كنت سأصبح أم وأنا سن الحادية عشر، لم تنسي امي يوما ما حدث ولم تعاملني بعدها أبدا بحب، وهكذا أصبحت كئيبة صامته لا اصاحب أحدا ولا أكلم أحد وعندما امر أمام ابي وهو علي كرسيه المتحرك لا أتحمل نظراته المليئة بالعتاب. لم أعد أنا البنت المدللة، بل أصبحت الفتاة الحاقدة على كل الناس وخصوصاً الرجال..مر عامان ، لم استطع ان انادي أمي بكلمة ماما ، ولا أستطيع أن أشرح لابي أني لم أكن أعرف شيئا وأن الأمر خارجا عن إرادتي وإدراكي ، ولم أرد أن أكون وصمة عار في حياته..لم تعد الحياة كما كانت..جدران بيتنا كانت تنطلي بصمت حزين ..حتى ذلك اليوم..
بعد يوم دراسي معتاد، وبينما هي عائدة إلى منزلها، وجدته ماثلا أمامها..كان هو..هو..بشحمه ولحمه.. وشعرات صدره الكث تطل في وحشية وزهو من بين أزرار قميصه أو هكذا كانت تراها في تلك اللحظة. عيناه الواسعتان بحجم بئر من الجوع والنهم تلتهمان ملامحها..
اشتاق الذئب فريسته الشهية..
تفاصيل جسدها لعامين لم تفارق ذهنه ..
والآن..انظر..جسدها يفور بأنوثة أشهى مما كان؟؟
– طلب مني بكلمات معسولة أن أذهب معه..كلمات أكبر وأحلى من الحلوى ولم يلتفت أن البنت الصغيرة تعلمت الدرس ، ولا إلى ملامحي التي كبرت قبل الأوان.
بسرعة -حسدت عُليّا نفسها عليها فيما بعد- استفاقت من صدمتها، واستجمعت شذرات نفسها..
– استجبت له ولكن في داخلي كنت أخفي نواياي عنه.
اصطحبها إلى مسكنه الجديد بعيدا عن محل سكنها..كانت طوال الطريق تنظر له باشمئزاز وكراهية، أعماه ظمأه لجسدها عن إدراكهما.
– دخلت منزله وما إن أغلق الباب حتى هجم علي ملصقا ظهري بالجدا، وبدأ يتحسس جسدي، كان يتلوى من النشوة والمتعة كالمحموم، وأصابعه تزحف على صدري، بينما تلتهم قبلاته شفتي وعنقي.. تركته ينزع عني ملابسي، نازعا معها كل ما تبقى في من إنسانية، تاركا الحقد وشهوة الانتقام.. كان يتلوى مقاوما اللذة فوق جسدي وكنت أتلوى تحت عبء كراهيتي وصورة أبي المقعد ونظرات أمي المنكسرة، عيناها تزداد انكسارا وكراهية لي كلما ترامت إلى مسامعها همسات الجيران..
تحجرت الدموع في عيني عُليّا، واختلجت ملامحها أمام الطبيب، الذي بدت وكأنما قد نست وجوده تماما..
– خدشت صدره بأظافري الصغيرة ليتغضن وجهه بألم أخفاه، ويندفع يقبض على كفي الأيمن ليشعرني بقوته كتهديدٍ ضمني منه، تأوهت للآلام الطاعنة بذلك الكف، وإذا بي بسكين ملقاة على الأرض، يلتقطها كفي الصغير لأطعنه في رقبته وأنا أصرخ..صرخات أودعت فيها كل ما كان طوال عامين من المعاناة..طعنة..وطعنة..وطعنة..
تهدج صوتها بشدة وهي تصيح بهستيرية والعرق يتصبب من كل مسامها.. تطعن الهواء بسكين غير مرئي..
– طعنة من أجل أبي.. طعنة من أجل شرفي..وطعنة أخري وهذه من أجل امي، وظللت أوجه له الطعنات بلا عدد.. طعنات في كل أنحاء جسده النجس.. وبعد أن تأكدت أن روحه فارقت الحياة دخلت وغسلت يدي ونظفت ملابسي.. رجعت إلى بيتي وكأن شيئاً لم يكن، حتى الشرطة لم تستدل علي الفاعل، عشت حياتي بشكل طبيعي. صرت أخرى، وكأنما انتهت مأساتي، وتبخرت مع آخر أنفاسه.
5
مرت الأعوام.. يولد الحزن كبيرا، ثم يتضاءل، وما تلبث الحياة تعود إلى وتيرتها، لا تقف عجلات الزمن عن الدوران عند حدث أو أحد، تحاول عُليّا النسيان، تركز جهدها على دراستها، وتمضي في تعليمها، لتلتحق بالجامعة.. تروي للطبيب بين الابتسامات والدموع ذكرياتها عن حياتها الجامعية، ثم تكتسي ملامحها بالجدية حين تصل في قصتها لحادثة هامة..
– وفي يوم و بينما أنا عائدة من الجامعة، وكان شتاء قارصا والأمطار غزيرة لا تتوقف، تعطل الباص، ونزلت في منتصف الطريق؛ لأكمل الطريق سيرا .
كانت تسير وحدها في شوارع شبه خالية بسبب هطول المطر..
ظلام مُدلَهم، سماء بلا نجوم، الطرقات خالية من البشر، وكأن الطبيعة أجمعت على دمس تلك الليلة، أغلقوا سكان الحي منازلهم هروبًا من هبوب الرياح الباردة، لا يُسمع سوى نباح الكلاب المعتاد.
– تواثبت دقات قلبي وكأنه سيُقتلع ، اصطكاك أسناني، رجفة يديّ، خوف، قلق، نغزات صدري وضيق أنفاسي، أتصبّب عرقًا رغم برودة الجو وبرودة قدمي المبتلتين ، شُل عقلي وهو يحاول التركيز لما قد تناهى لسمعي لوهلة، أهي ذات الأصوات فعلا؟ هل أكذبُ الصوت الذي يرن في أذني،أم أدعي الصمم لما أتأكِدُ سماعه؟! خطوات الأقدام التي تقترب تارة ثم تبتعد تارة أخرى، أظنّها الرياح تتلاعب بمشاعري، ربّما أنها عقدت معهم اتفاقًا لعزف الوجل بقلبي.
ظللت متسمّرة بتعويذة الخوف برهة من الزمن، إنعقد لساني عن الكلام فجأة، أخذت أُتمتم بصعوبة بعض من الآيات أو الأذكار، لا أدري، لكنّه كل ما تعثّر به لساني لحظتها، إزدادتْ يدايّ ارتعاشًا كأن بي داء صرع.
وددتُ لو أحرّكهما صوب أذنيّ؛ لأقطع عنهما صوت الرعب الذي يؤول بالاقتراب، وأن أتكوّر على نفسي فأختبئ بي كما أفعل كلّ مرة في غرفتي، ولكنّ هذه المرة تختلف شيء ما يمنعني، وكأن جبلًا يجثم على صدري.
أصوات الأقدام أخذت تقترب أكثر فأكثر، ومع كل خطوة اقتراب، يخفق قلبي خفقانًا، كأن الرعب يطلب إذنًا للدخول…
غمغمت في داخلي أن لا مرحبًا بك، فحُل عقد لساني، فهممْتُ جالسة بفزع وأنا أصرخ بلا وعي: لااا لااا، لا تقترب.
استدرت لأنظر للمجهول الذي يلاحقني، شبحا رجلين يتحركان في الظلام، خلف خطواتي. ظللت اهرول بلا وعي. كل ما كنت أفكر فيه كيف أهرب منهما، وظللت أجري كثيرا لا أدري كيف أو إلى أين! وفجأة لا اعرف من اين ظهر هذا الملاك ليدافع عني،لم اعرف لماذا فعل كل هذا؟! كل ما كنت أشعر به هو الخوف وانزويت في زاوية بجانب الشارع اضع يدي على اذني
اسمع صوت عراك ولكني خفت الالتفات. كان كل ما في جسدي يرتعش..
وفجأة انتهي الصوت وهرب النذلان. وهنا تلاقت عيناي به، وقف أمامي يتأملني صامتا بنظرات فزع وقلق.
همس:
– لا تخافي..لقد ذهبا.
شعرت بأشفاقه علي عندما سمع صوتي المشبّع بالخوف، دون التركيز لِكَن كلماته التي انتشلتني من حالة الرعب والهوان الذي مسّني، كأنه غيث بعد أيام عجاف.
أحاطني بذراعيّه وكأنني أستغيث أن أخبئني داخلهما، خارت قوايّ الكاذبة أخيرًا وأطلقتُ العنان لينابيع مقلتيّ، فأخذتُ أبكي بنحِيب مسموع تبِعتهُ أصوات أنفاسي الحارة كرياح الخماسين، ضمني لصدره بحنوّ وهو يمسح على رأسي وتنفثُ فيه قائل: “بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم” ثم أخذ يطمئنني ألا بأس “اعتبريه مجرد كابوس، وانا هوصلك لحد باب بيتك.”
لم تساله عن اسمه، ولم تستطع ان تشكره، لاذت بصمت شارد طوال الطريق. مضى بها في الطرقات المظلمة حتى وصلا إلا منزلها، وظل واقفا يراقبها حتى دلفت من الباب.
– بعد هذه الليلة، شعرت اني تغيرت وكل يوم، وأنا أتهَيّأ للنوّم يُطالِعُني شُعاع القمر عبْر النافذة، لأري فيه وجهه شُعاعٌ اقْتربَ جمالهِ من جمال نور عيْني، وكأنه يرتطِمُ بوجْهي نسمات هواء عليل، سألت نفسي لماذا افكر في هذا الشاب كثيراً؟ ولم أجد الإجابة.
- مصطفى الحاج حسين يكتبــ: القصيدة الميّتة…(قصة قصيرة).
- بدوي الدقادوسي يكتبــ: ليست الطبعة الأخيرة (قصة قصيرة).
ارتشفت من كوب الماء أمامها، بدت أكثر هدوءً حينما وصلت لهذه النقطة، ولكن الدموع كانت لازالت تغرق وجهها..
– ذهبت إلى الجامعة بعد يومين من تلك الليلة السوداء، وقد شاع في قاعة المحاضرات أن استاذ جديد سيشرح لنا المحاضرة جلست وحيدة، منزوية، لا أحدث أحد ، وإذا بشاب طويل جذاب يرتدي بدلة أنيقة ، دخل قاعة المحاضرات التف حوله الجميع، وتلاقت عنده نظرات الفتيات، بفضل وسامته.رفعت نظري لأري سبب تلك الضوضاء والتهليل والصياح ، لقد كان هو؟
عقد الطبيب حاجبيه..
– هو؟
– نعم منقذي في تلك الليلة.شعرت بالخجل ونظرت أمامي وكاني لا أعرفه ولكن شيئاً غريباً كان يفزعني، ويعكر صفوي ، أن كل البنات التفوا حوله، ولكني رأيته يرمقني بنظراته، وكذبت نفسي وقلت هذا ما تهيئه لي عواطفي.
6
عادت يومها إلى المنزل ولأول مرة، منذ سنوات، تقف أمام مرآتها، وترمق ابتسامة تملأ وجهها.. فستانها كان في عينيها براقا كإطلالة صباح.. كانت جميلة كأميرة.. طاف في عقلي صورة كالحلم لفستان أبيض مليء بالنقوش.. ولكن هل للأميرات ماض مخجل كماضيها؟
– عاد وجهي العابس ، وتذكرت ذكرياتي وابتسمت ابتسامة ساخرة، وتمتمت مع نفسي لا يحق لي أن احلم بذاك الفستان ونزلت دموعي وكأنها تذكرني أنني غير كل البنات.
كل يوم تذهب الى الجامعة لحضوري محاضراته، وتجلس علي مقعدها، دون أن تجرؤ على النظر إليه، تتصارع في دماغها أفكار حول الرغبة والرهبة
– ودائما رأسي مدلاة إلى الأسفل وكأني خلقت بإعاقة الرأس المنحنية ، وعندما أرفع راسي قليلا؛ لأسترق النظر بطرف عيني؛ أجده أو أشعر أنه ينظر إلي بعيون تفيض بالأسئلة.
وفي يوم كنت في كافتيريا الجامعة ، وكنت اشرب عصير ، وإذا به يجلس جانبي
ويسألني مبتسما :
– انت مش فكراني؟
نظرت إليه وكل خلجة في كياني تعاني من التوتر، أومأت له، وقلت
– تسعني الفرصة لكي اشكرك
اتسعت ابتسامته ..
– لا شكر على واجب بس انا عايز أسألك سؤال
– تفضل..
متشجعا أردف:
– أولا، وقبل اي سؤال، أنا اسمي حازم.
بلا وعي حقيقي، قاطعته..
– أعرف .ايه السؤال يا استاذ حازم؟
– لماذا انت وحيدة وليس لك أصدقاء يا عُليّا؟
قلت له:
– وتعرف اسمي!
رد علي بلغة مرحة
– نسيتِ اني استاذك واعرف كل حاجه عنك.
يومها رجعت إلى منزلها عُليّا بقلب ينتفض بما يشبه الفرح، ولأول مرة منذ زمن بعيد وقعت منها نظرة إلى وجه أبيها ..بدا لها وقد جاوز المائة عام
اقتربت منه وأمسكت بيده وقبلتها وإذا بدمعه يتسقط علي خديه..دموعه الساخنة..
– شعرت بشدة حرارتها وكأنها جمرة من نار نزلت علي لتذكرني بأنني السبب لما يعانيه أم هي دمعة حنين من أبي لي، ولأول مرة احتضنته وحين ذاك نزلت دموعي دون توقف وكأنها سحابة انفجرت بسيول من المطر
كانت أمي تراقبنا من بعيد دون أن تنطق ببنت شفة. انتابني شعور رهيب تمنيت أن تمد لي يدها
وارتمي في حضنها، ولكن ما كان منها سوى أن دخلت غرفتها..
دخلت غرفتي كالعادة.
نمت على سريري- ولأول مرة – بارتياح كبير
نمت واستغرقت في النوم، والأحلام الجميلة تراودني، وفجأة استيقظت مفزوعة
الذكريات توقظني من مَنامي..
انتفضت روحي، استفاق عقلِي من عالمٍ الاحلام مُتخبطٍة، اقتلعتُ جُزءًا مِن ذاك الألم بيَدي دُون رَحمة، نثرتُ بقاياه خَلفي، فبَين حَنايا ذلك الجَسد المُتمدد بَصيصُ مِن أمل، ورَغبه في عالمٍ مِن الفَرح.
فلترحلي يا بقايا مِن سَراب،
في اليوم التالي ارتديت ملابسي ولأول مرة، اهتم بمظهري وأستغرق وقتا طويلاً أمام المرآة
ذهبت إلى الجامعة وكانت محاضراتي في ذلك اليوم متأخرة واعتاد حازم بين المحاضرات أن يتكلم معي ويأتي ليراني في الاستراحة
بصراحة شديدة كنت أرتاح عندما أراه، وعندما أتحدث معه أشعر بالسكينة، وفي هذا اليوم دعاني للعشاء؛ ترددت قليلاً، ثم وافقت، وقلبي يموج بالسعادة
وجاء موعد العشاء وذهبت إلى المكان الذي اتفقنا
عليه، وجدته في انتظاري
جلستُ بجانِبه أتأملُ النُجوم، كُان يتحدثُ عن جمال الطبيعة وأشياءٍ علمِية، لم استمع لتفاصيل أحاديثه ولكن كل ما أتذكره أنى حاولتُ الحفاظ على ثبات نفسي ، ولكِن الحقيقة أننِي لم استطع أن أخفي فرحتي بوجودي معه ، وتلعثمت الكلمات في فمي وكأني نسيت كل شيء عن الأبجدِيةِ و الحُروف و لكِني تعلمتُها مِنه، حاءٌ و باء و فِيها تُلخصُ الحياة، ثُم في لحظةِ هدوءٍ، لمحت نظرته الحنونة ودفئ مشاعره، ورغم صمت الكلام بيني وبينه ، كانت تتكلم أعيننا
وقبل أن ينتهي لقائنا، وجدته يسألني:
– تتزوجيني؟
هبط الصمت كياني،وتلعثمت مرة أخري ولكن هذه المرة كان الارتباك أقصى من احتمالي. نظرت إليه في حيرة وسألته:
– لماذا انا ؟
رد قائلاً:
– أنا أحبك يا عُليّا، أراكِ في كل مكان وفي كل فتاة أراها بعيني.كلما نظرت إلى السماء تذكرت لون عينيكِ الجميلتين.
احمرت وجنتاي خجلاً من شدة سعادتي بكلماته ولكني لم أميز شعوري حينها
بين الرفض والقبول بين السعادة والحزن كنت انسانه متناقضة أبتسم ثم أبكي ..
نظر لي وقال :
– معاك كل الوقت لتفكري بالأمر.
رجعت إلى منزلي وكنت في غاية السعادة، أطلعت أبي وأمي على الأمر، ولأول مرة منذ سنوات تهللت ملامحهما بالفرحة,,
وبعد يومين، جاء حازم ليطلبني للزواج، ولم أر في حياتي مثل هذه الفرحة
حتي الجيران تعالت زغاريدهم ومن فرط الفرحة لم أصدق نفسي لدرجة أنني سكبت علي
راسي ماء باردا خوفاً أن أكون في حلم ، ولكن ما أدهشني أن حازم كان متعجل جدا يريد الزواج خلال اسبوع واحد. ورفض كل محاولات التأجيل..و وافق والداي أمام اصراره
وبعد أن غادر حازم منزلنا، دخلت غرفتي بدون كلمة واحدة، وظل الفكر يلاحقني هل أصارح حازم بالماضي ؟
تشتت عقلي من كثرة التفكير ألف سؤال وسؤال.. أخاف أن أفقده بعد أن تعلق به قلبي .
وظل هذا الحال أكثر من خمس أيام وكان التفكير خلالها يكاد أن يقتلني ..
بقي يومان على أن أكون زوجته..
وبعد تفكير طويل قررت أن اصارحه بكل شيء ولكن شجاعتي تخذلني فأنا لا أستطيع أن أواجهه، وبقيت أعاني موجات الخوف والتردد التي تعصف بنفسي، حتى حل ما كنت أترقب..
جاء يوم العرس..
في الصباح استجمعت شجاعتي وفتحت هاتفي وبدأت اكتب له رسالة أحكي فيها عن ماضي البائس، ضغطت على زر الارسال باصبع ترتعش من التوتر.. غرقت بعدها في ظنون وعذاب لا ينتهي..عيناي – طوال الوقت كانت معلقة بالشاشة..
وبعد ساعة سمعت صوت رنة رسالة فتحتها
وجدته ارسل لي رسالة
حبيبتي قرأت رسالتك. كوني بخير انا معك للنهاية !
فرحت واطمئن قلبي
ساعاتٌ قليلةٌ فقط تفصلني عن أجمل لحظات عمري، كم إنتظرت الوقت لأرى هذه اللحظة، نعم إنها ليلةُ عمري، الليلة التي سأكون أنا ونصفي الآخر شخصاً واحد، سنصبح ك إلى دِ الواحدة…
وقفتُ أمام مرآتي لأرى ابتسامتي التي لم تغادر شفتي منذ البارحة، رأيتُ فستاني الأبيض كان يلمعُ كإطلالة الصباحِ، تكسوه بعضُ النقوشِ والزخارف، أحنيتُ رأسي قليلاً لألمح ساعتي الفضية المفضلة؛ رأيتُ بها الوقت وابتسمت.
لم تمر ساعات إلا وقد خرجتُ لإتمامِ مراسمْ العُرس، كنتُ متشوقة لرؤيته. وصلتْ وكان المدعوون يملأون المكان، حين رأيته كانت ملامحه لا تفَسر، كماءٍ انسكب على رسمةٍ لم تجف بعد.
بدأ عقلي يثرثر بالأسئلة، لما كل هذا الحزن؟ و اليوم حفل زِفافِنا.
اقتربنا من بعض لوضع المحابس لكلينا، كان دوري هو الأول ألبسته المحبس، وحين جاء دوره؛ تلاعب قليلاً وأسقط الخاتم من يده؛ التقطه من الأرض، وفجأة إذ به ينطقُ ويقول: أنا آسف ولكنني لا أستطيع الإكمال معكِ.
ذُهل المدعوون؛ أما أنا فقد أحسستُ بإحساسٍ غريب كأن حركتي قد شُلتْ، ولساني فقد نطقه، ودموعي جفت، وعضلاتي ثقُلَتْ، لم أحس بشيءٍ بعدها ولكن أود قول سرٍ صغير، اليوم أنا جثةٌ هامدة تغطيها الأجهزة ، يعطوني جلسات الكهرباء في المشفي للأمراض النفسية وكل صعقة كهرباء لا تعيدني لعقلي بل تعيدني لذكرياتي تذكرني بصعقات الحياة التي عشتها .
7
تنهد الطبيب واعتدل في جلسته..
– حسنا، ولكنك الآن يا عُليّا، تحسنت..كل هذا من الماضي..أعرف أنها مأساة، ولكن ها أنت قد انتهت فترة علاجك.
توترت ملامحها..- والآن ليس أمامي سوى أن أكتب لك على خروج، لتستأنفي حياتك..
جرت يداه على ورقة أمامه..
– فقط بعض الأدوية عند الحاجة، و..
مدت يدها عُليّا لتوقف يده عن الكتابة.. كانت يدها باردة وترتعش، وصوتها المتهدج ينطق بجدية ما تقول..
– ليس لدي حياة خارج هذا المكان، وسأفعل أي شيء لأظل هنا..
تأمل ملامحها مشدوها، كانت حقا تقصد كل حرف..
أحمد طنطاوي يكتب: العصاري الممطرة (قصة قصيرة). - Kinzy Publishing Agency
[…] نجوى رضوان تكتبــ: عُليَّا (قصة قصيرة). […]
نعيمة كراس تكتبــ: ما لا نهاية (قصة قصيرة). - Kinzy Publishing Agency
[…] نجوى رضوان تكتبــ: عُليَّا (قصة قصيرة). […]