تلك الحياة حبلى بالأعاجيب!
فمالك أبو دنيا، الموظف الكبير بمصلحة الضرائب العقارية و المساحة، لم يكن يتخيل أن يزوره الملاك في تلك الليلة بالذات…كان قد انتهى لتوه من واجبه كعنتيلٍ مستعيناً ببعض المقويات، و كمية فوسفورٍ ضمنتها وجبة عشاءٍ فاخرٍ، و ثلاث زجاجاتٍ من جعةٍ مستوردةٍ، و حباتٍ من شيكولاتة سويسرية فاخرة، بين يقظةٍ ومنام، رآه يحط على الفراش…جثم فوق صدره تماماً، فاحتبست أنفاسه، و حشرج..فتح عينيه على اتساعهما مرتعباً، و شهق باحثاً عن هواء، بصعوبةٍ استطاع أن يجد صوته؛ فسأل، و عرقه يغرق الوسادة تحته، و بيجامته الحريرية الحمراء، بالخطوط الرفيعة المذهبة:
-ما…مام… مماذا؟!
-هيا
أجاب الملاك، بحسم
-هها…هيا إلى أين؟
حدجه الملاك بنظرةقاسيةٍ، و قال بصوتٍ ارتجف له قلب مالك:
-ستذهب معي
-الليلة؟!
هتف مالكٌ، برعب
-انتهت مهلتك
-هكذا فجأة؟!
-ليس للرحلة أسباب
قال الملاك، و هو يهم بوضع كفه النوراني على جبينه، تملك الفزع (مالك) و تلفت حوله باحثاً عن نجده، نظر لزوجته التي غطت في نومٍ عميقٍ، و صرخ
-أنجديني
لكنها حركت ذراعيها متمطيةً، و أدارت ظهرها له، موليةً وجهها نحو الحائط
-لنذهب الآن
قال الملاك، بأنامله جبين مالك، شعر الأخير بأطرافه تتجمد، و بشيءٍ كدبيب النمل يسري في أوصاله..يشلها تماماً عن الحركة، بدأت الأشياء من حوله تتلاشى تدريجيا، و بدوامةٍ، تدور به بسرعةٍ مطردةٍ، تزيد رويداً رويداً، و بنفسه يغيب تدريجياً عن الوعي
-انتظر
بلوعةٍ، و رجاء، و بكل ما تبقى لديه من جهدٍ واهنٍ، صرخ
-ما بك؟
سأل الملاك، و هو يرفع أصابعه عن جبينه، فشعر مالك كما لو أنه يهوى من حالقٍ، و رجع كل شيءٍ كما كان منذ قليل، بتضرعٍ هتف:
-أريد فرصة
-استنفذت كل فرصك
-فرصةٌ أخيرة
-لا
-على الأقل، ليس هكذا فجأة، و بدون سبب!
-أخبرتك أن الرحلة ليس لها أسباب
-لكن للبقاء أسبابٌ كثيرة
-لا وقت لدي لأضيعه
-لدي أبناء
بكى (مالكٌ) كطفل
-صغارٌ أبنائي، ليس لهم في الدنيا سواي، و أمهم تلك التي لا تحسن شيئاً سوى الطهي، و المضاجعة
أطرق الملاك، فتشجع (مالك) و علا عويله، هاتفاً بذل:
-يدك أقبلها…ساقاك، و رأسك، أعطني مهلة…مهلةٌ أصلح فيها من شأن أبنائي، و نفسي، هناك دائماً فرصةٌ أخيرةٌ لبائسٍ مثلي، أليس كذلك؟
أمسك الملاك أسفل ذقنه متفكراً، و صمت (مالك) و هو ينتفض، و يهتز، و يرمق الملاك بنظراتٍ خاطفةٍ، مترقبة
-ليكن…سأعطيك مهلة
قال الملاك، فتهللت أسارير مالك و صاح بفرح
-أشكرك سيدي الملاك، لن أنسى لك هذا الصنيع ما حييت
ارتسمت على وجهه ابتسامةٍ اتسعت، لتتحول إلى ضحكة من كتبت له حياةٌ أخرى بعد أن شارف على الهلاك، لكنها سرعان ما ذوت حين قال الملاك
-لثلاثة أيامٍ فقط
ردد مالكٌ و قد غشيته تعاسة:
-ثلاثة أيام
-نعم
همس مالك كمن يحدث نفسه:
-فقط؟!
حلق الملاك مبتعداً، و هو يقول:
-ثلاثة أيامٍ يا مالك، تذكر هذا
تابعه مالكٌ وهو يخترق سقف الغرفة، و يختفي، بينما صوته يتردد بين جنباتها:
-نلتقي بعدها هنا، في المكان ذاته، و الساعة ذاتها
- عبد الكريم حمزة عباس يكتبــ: نظرة على كتاب ( المرايا المقعرة – نحو نظرية نقدية عربية ) للدكتور عبد العزيز حمودة.
- إسراء الشيخ تنافس في معرض القاهرة الدولي للكتاب بروايتها الثالثة نقوش مخفية.
فتح (مالكٌ) عينيه فجأةً، و هب جالساً، تلفت حوله، و تحسس جسده عضواً عضواً، و هو يزدرد لعابه بصعوبة، جف حلقه تماماً، فأشعل نور المصباح على الطاولة بجواره..تناول كأس الماء البارد، و شرب حتى ارتوى، كان العرق غزيراً جداً، ملابسه مبتلةٌ كما لو أنه قد خرج بها للتو من مسبح، الحشية تحته و الوسادة، متشبعتين بالعرق، تلفت حوله مجدداً، و هو يراجع كل تفاصيل الغرفة و أثاثها، حدق في السقف كثيراً، ثم دار لزوجته، هزها عدة مراتٍ، فقالت بصوتٍ ناعس:
-ممممم، ماذا؟
-قومي
بصوتٍ مضطربٍ، قال، و هو يهزها بقوةٍ أكبر، اعتدلت جالسةً بكسل، تثاءبت، ثم قالت و هي تتمطى:
-ما بك يا مالك؟
ثم غمزت، و هي تقترب منه ضاحكةً، و تقول:
-ألا تشبع يا رجل؟
قبلت شفتيه، و هي تلتصق به، و تحيط عنقه بذراعيها، فأبعدهما بغلظة
-ألم تسمعي شيئاً؟
رمقته بدهشة:
-شيء؟ أي شيء؟
سكت، فأردفت:
-هل أيقظتني لتسأل إن كنت قد سمعت شيئاً؟
تشاغل عنها بمسح نظارته، قبل أن يضعها على عينيه، فمطت شفتيها، و قلبت كفيها مستغربةً، و عادت إلى النوم، سمع مالكٌ آذان الفجر، و تساءل:
أيعقل أنه حلم! كان حقيقياً جداً، لم يبد لي أبداً كحلم، حاول أن ينسى، فلم يستطع، تذكر مهلة الثلاثة أيامٍ؛ فقام إلى الحمام، اغتسل و توضأ، ثم صلى الفجر، ارتدى ملابسه، و ذهب إلى عمله، و هناك، أغلق على نفسه الباب، و أمر ألا يدخل عليه أحد
-حاضر
قالت سكرتيرته بدلالٍ، و غنج، و هي تنحني ليوقع بعض الأوراق، فاح عطرها مدغدغاً حواسه، و اندلق صدرها نافراً من قميصها ذي الأزرار المفتوحة، و حط على المكتب أمامه، كاد أن يهدهده بيديه كما اعتاد أن يفعل، لكنه تذكر فجأةً ما حدث ليلة أمس؛ فأشاح بوجهه، و أمرها أن تنصرف، أطاعت الأمر مندهشةً، و خلا بنفسه، أجرى بعض المكالمات الهاتفية مع رجال أعمال، و مسؤولين، ارتفع صوته غاضباً، و تحمل بصبرٍ توبيخ الكثيرين، رافضاً أن يتراجع عن موقفه، بعد انتهاء الدوام، مر على المقاول الكبير، و أعطاه مفاتيح الشقة الجديدة التي أهداها له، معتذراً. مر على معرض سيارات رجل الأعمال المعروف، ترك مفاتح السيارة، و رجع لبيته في سيارة أجره، حين جن الليل، لم ينم، ظل مستيقظاً طوال الوقت مترقباً، بعد منتصف الليل بقليل، أخذته سنةٌ من النوم، قام بعدها يتلفت
-كان حلماً بلا شك
- صابر مرزوق يكتبـــ: القاتل..(قصة قصيرة)
- صابر مرزوق يكتبــ: القط .. (القصة الفائزة بمسابقة د. نبيل فاروق)
ابتسم قبل أن يستوي راقداً، و يغط في نومٍ عميق، في اليوم الثاني، تبادل حديثاً ضاحكاً مع سكرتيرته، و تلقى الكثير من المكالمات، أجاب بطريقةٍ أقل حدةٍ، باحثاً بينه و بين نفسه عن مبررات، تلك الليلة، جلس متفكراً:
كدت أفسد حياتي بسبب حلم! أشعل لفافة تبغٍ، ثم تساءل:
أحقاً كان حلماً؟
في اليوم الثالث، أغلق باب مكتبه بالمفتاح من الداخل، بقي مع السكرتيرة وقتاً أطول من المعتاد ليعوص ما فانه في اليومين الماضيين. بعد الزوال مر على المقاول الكبير الذي أعطاه مفتاحاً جديداً لبيتٍ أكبر، و مكانٍ أرقى، و في معرض السيارات اختار واحدةً رباعية الدفع باهظة الثمن، من ماركةٍ عالمية. تلك الليلة، تناول وجبةً فسفوريةٍّ دسمة.. شرب زجاجةً كاملةً من (شمبانيا) فاخره..أدى واجبه الزوجي، تماماً كما يليق بفحلٍ ليلة جمعة، تمدد نائماً، وقد انتابته نشوةٌ غامرة، وقال لنفسه:
-كدت أفسد حياتي بسبب حلم!
قبل أن يغلق عينيه مستسلماً للنوم، حط الملاك، تبادلا نظرةً طويلةً.. تبدا الغضب في عيني الملاك، و على وجه مالك انطبع الأسى، بدأ كل شيءٍ في التلاشي..مرت تفاصيل حياته أمامه كشريطٍ سينمائي، قبل أن تبتلعه الدوامة إلى الأبد، فكر:
-تلك الحياة حبلى بالأعاجيب!
أعجبته بلاغة العبارة، و قرر أن يقولها لزوجته حين يطلع النهار، و لسكرتيرته الخبيرة حين يستبد بهما الشبق، و للسيد الوزير في الاجتماع القادم، غير أن زوجته حين أرادت أن توقظه صباحاً، وجدته مائل الرأس، مفتوح الفم، و خيطٌ من لعابٍ جافٍ ملتصقٌ بجانب شفته اليمنى، وعينيه جاحظتين، حزينتين، تحدقان في الفراغ …