التقطت بعصاها آخر رغيف خبزٍ من فم الفرن، تلقيه في “المشنة” وتغطى الخبز بشالٍ أبيضٍ نظيفٍ، ووجها متوهج من أثر النيران المشتعلة فصار كتفاحة شهية تسيل اللعابْ.
وألقت بضفيرتها الذهبية خلف ظهرها، ونهضت لترتب الدجاج المذبوح والبط وبعض قطع الجبن والخبز والسكر. حملته فوق رأسها، ومضت إلى الخارج، تتبعها نظرات النسوة اللائي يملأن الدار، حسدا وغيرة، فهي أقربهن إلى قلب سيدة الدار وأجملهن، بيضاء، متوسطة الطول، تقاطيعها دقيقة، أنيقة، جميلة، واسمها كذلك جميل: “حُسْن مالك”.
_إلى أين العزم إن شاء الله.
_أطلقت ضحكتها المدوية، فاهتزت جدران الدار: زيارة.
_آه لبنتك، مبروك ما جاءها.
_عقبى لكم.
وانطلقتْ، تمشي كنخلة شامخة، يتهادى الرمان أمامها مختالا، وترفع ثوبها بيدها دلالا، ودخلت إحدى الدور المجاورة.
_العواف
_يعافيكِ يا غالية.
_وضعت ما بيدها، ومرقت إلى “المنظرة”: كيف حالك يا “قمر”؟.
_بخير يا “حسن مالك”.
_الولد رضع؟.
_آه، بس رضاعته هذه المرة غريبة.
أطلقت ضحكة أخرى من ضحكاتها، فتوقفت في الأفق طيور السماء.
_أنت محدثة نعمة.
_لا والنبي يا “حسن مالك”، كأنه يريد أن يأكل صدري.
_يا بنت عيب عليكِ.
_والخاتمة الشريفة يا أمي كأنه رجلٌ كبيرٌ، وأنت تعلمين…
قطب وجه المرأة قليلا، منذ متي هذا؟.
_من بعد الشروق بقليل.
_قولي لي يا امرأة: هل تركت الولد وحده وخرجتِ؟.
_ذهبت إلى الخلاء، وعدت سريعا.
_وهل كان وحده؟.
_وما في ذلك؟.
_وما في ذلك يا ابنة المرأة، يا واطئة، ألم أقل لكِ ألا تتركيه، أريني الولد.
_ها هو عندك، وأشارت نحو يمينها.
أمسكت “حسن مالك” الولد، وكشفت وجهه، وصرخت، دقت على صدرها، يا نهار ليس له شمس، يوم أبيكِ أسود يا بنت الكلب.
وصفعتها عدة مرات على وجهها.
_ماذا يا ولية، هل جننتِ؟.
_أينعم جننت يا ابنة الخرؤ. ابنك تم تبديله يا حيلة أمك، أخذوه تحت الأرض وأعطوك هذا مكانه، فهم ينتهزون دوما الفرصة في الأربعين يوما الأولي. فإذا كان الطفل جميلا وتركه أهله وحده أخذوه يا ناصحة، وتركوا واحدا منهم مكانه، يومان أو ثلاثة، ثم يتصنع الموت ليعود لأهله.
_ماذا تقولين؟.
_انظري يا روح أمك؟ تأملي تلك التقاطيع الغامقة، وذلك الشارب الأخضر.
_يا ويلي.
_ويلك، وويلك مني كبير، قومي. أحضري لي سكين، وعلبة ثقاب.
_ماذا ستفعلين؟.
_لا شأن لك يا ناصحة. اخرجي ولا تعودي إلا حين أناديكِ.
خلت حسنمالك بالطفل.
خلعت عنه ملا بسه، بدأ في البكاء.
لا يا ناصح، أنا لم أفعل شيئا بعد، اصبر على رزقك، ولا تتصنع الطفولة، ولا تظنن أني امرأة وتخوفني، فأنا بألف رجل، وعليك أن ترتعد من وجودي.
أوقدت عود الكبريت وقربته من كف يده، وهي تقبض عليها بقوة: انظر واسمع جيدا حالا تنادي أهلك ليحضروا لي ابن ابنتي وإلا أحرقتك.
واشتد عواء الرضيع.
اقترب الثقاب بالفعل من يده. أحرقت كفه.
علا النحيب في سماء الحجرة، ودقت النسوة الباب المغلق.
افتحي يا حسن.
ماذا تفعلي يا مجنونة.
انظر يا روح أمك. لن ينجدك أحد من يدي، إما تأتيني بابن ابنتي وإلا قطعت رأسك الآن ودفنتك، وطفل بطفل.
واقتربت السكين من رقبة الرضيع، لامس نصلها الحاد شريانه.
_يا ولية افتحي الله يخرب بيتك.
صنع النصل جرحاً.
_الرحمة.
_أخيرا نطقت. أريد ابننا.
_اتركيني وسأحضره.
أطلقت ضحكتها فتبدت لمن في الخارج في كمال الجنون.
أتركك.لِمَ؟ أتظنني مجنونة؟. وصرخت هاته الآن. وغرست النصل قليلا في عنقه.
_اللعنة عليكِ وعلى هذا الطفل.
_بل اللعنة عليك أنت والموت. أريد ابننا.
_ها هو ذا خلفك، اتركيني.
التفتت فطالعها الوجه الحسن الريان.
أطلقت ضحكة ثانية .
اذهب إلى غير رجعة يا روح أمك، وقل لهم ابن بنت “حسن مالك” لا أحد يأخذه.
وانكسر باب الغرفة.
وشهقت النسوة.
وصُعقت قمر.