You Create, We Appreciate

السيوف السلطانية: ننشر الجزء الخامس من رواية الكاتب الكبير: محمد العون.

السيوف السلطانية: ننشر الجزء الخامس من رواية الكاتب الكبير: محمد العون.

رواية السيوف السلطانية

(5 )

الروائي محمد العون
الروائي محمد العون

عند بلوغه سن الرابعة عشر كان قد انهى تعليمه فى كُتاب المدرسة ، وصار أمامه مثل كل رفقائه طريقان إما أن يذهب إلى مدرسة من المدارس الملحقة بالجوامع الكبرى ، مثل الجامع الطولوني أو جامع عمرو بن العاص أو الجامع الأزهر ، ليواصل دراسته في علوم الدين حتى يصبح شيخا أو قاضيا ، أو يكتفي بما تعلمه ويتجه إلى العمل.

اعتاد الذهاب إلى الدكان بعد تجاوزه العاشرة من عمره ، بعدما ينتهي يوم الدراسة يمر على والده حيث يعمل ، شدد عليه أبوه في ذلك ، بدلا من اللعب في الطرقات وإضاعة الوقت فيما لا يفيد ، أطاع أمر أبيه على مضض خوفا من العقاب ، لكنه بمرور الوقت أحب الدكان وأثارت فضوله القوارير والأواني والأكياس والأجوالة التي تحوي البضاعة ، أخذ يتعرف على الأصناف الكثيرة التي بدت في أول الأمر فوق الحصر ، أخذ يسأل وأبوه يجيبه وهو لا يخفي فرحه بشغف ابنه وفضوله وإقباله على تعلم مهنته.

لاحظ أن الكثير من الناس يأتون ليشتروا عقاقيرا معينة يتعالجون بها ، أو يشتكون ما يعانونه من أنواع المرض ليصف لهم الأب تركيبة العشب النافعة لهم ، سأل عن ذلك متحيرا ، فرد أبوه بصوت خافت وبتمهل كأنه يبوح له بأحد أسرار المهنة :

– العطار هو طبيب الفقراء والغلابة الذين لا يستطيعون دفع أجر الطبيب ! وحتى مساتير الناس يلجأون لنا لنعطيهم تراكيب الأدوية وخلطات الأعشاب الشافية من الدكان ! لا يستعينون بالأطباء إلا عند شدة الحاجة !

لم يتردد في اختيار طريقه ، اكتفى بما تعلمه مدركا أن طريق الدراسة في مدارس الجوامع وعر ويحتاج لطول صبر وعكوف على الكتب ، وهو الأمر الذي لا يطيقه بطبيعته المنطلقة وحركته النشيطة التي لا تعرف السكون ، كما أنه لا يشعر في قرارة نفسه أنه مهيأ للعمل شيخا أو قاضيا ، وفعل مثله جلال الدين الذي اختار العمل ناسخا واشتغل في الوقت نفسه مع الشيخ إسماعيل الذي يمت له بصلة قرابة في دكانه لتجارة الورق ، لكن أحمد صديقهما خالفهما فقد ذهب من فوره إلى المدرسة الطيبرسية التي أنشأها الأمير علاء الدين طيبرس قبل سنوات قليلة بجوار الجامع الأزهر ، وخصصها لتدريس المذهب الشافعي ، كان قد أعد نفسه منذ الصغر لطريق العلم ، أتم حفظ القرآن وهو في الثانية عشرة من عمره وظل يجتهد في دروسه حتى حقق مراده والتحق بمدرسة الأزهر.

اتجه أيوب للعمل عند أحد تجار العطارة من معارف والده ، محل صغير لكن صاحبه خبير في أصناف العطارة وتركيبها وعمل الوصفات الطبية الشافية ، أوصاه أبوه منذ يومه الأول في العمل أن يتعلم ويتشرب أسرار الصنعة.

– عمك يعقوب أحسن عطار في البلد يعمل خلطة عطارة يعالج بها الناس ، كل داء له علاج عنده ، الأطباء يستعينون به ليصنع لهم ما يحتاجونه من أدوية ، أنا أوصيته عليك ، لكن أريدك أن تكون مطيعا ومؤدبا معه حتى يثق فيك وتتعلم منه وتعرف سر كل عشبة وفوائدها ، عم يعقوب هذا أستاذنا وكلنا تعلمنا منه ، لكن عليك بالصبر معه ، إياك أن تتعجل ..

وجد الرجل الذي يقارب السبعين من عمره كتوما ولا يبوح بعلمه وأسرار مهنته إلا بشق الأنفس ، قضى العام الأول يبيع لزبائن الدكان ويذهب إلى المطحنة ليأتي بأكياس البهارات والعطارة المطحونة ، أما المعصرة التي يجلبون منها الزيوت فكانت بعيدة لكن زميله الأكبر منه سنا والأقدم عهدا بالعمل عند عم يعقوب كان المختص بهذا المشوار ، يذهب صباحا بالصناديق التي تحوي القوارير الفارغة ، محملة على حمارين ، ويعود بها عند العصر ممتلئة.

الأطباء يطلبون من الدكان احتياجاتهم من العقاقير ، يرسلون مساعديهم وقد يأتون بأنفسهم ليقفوا مع عم يعقوب ويتابعونه وهو يصنع التراكيب واللبخات والدهانات والمعاجين المعالجة ، وأحيانا أخرى يأتي رجال من أتباع الأمراء أو كبار أعيان التجار وينفردون بعم يعقوب في غرفته الضيقة بالدكان ، يأتون من أجل الحريم أو جواري القصر عادة ، لا يستطيع الطبيب أن يرى إحداهن أو أن يدخل الحرملك فيكشف ملابسها ويتحسس جسدها ليعرف علتها ، يصفون له الأعراض وما تعاني منه المرأة لينهمك هو بعدها في صنع الدواء المطلوب ، في أحيان نادرة كان يذهب مع الأطباء لزيارة أحد الأمراء ، أغلب الظن أن الأمير ساعتها يطلب حضوره بنفسه لزيوع صيته وثقتهم في علمه.

لم يجد في نفسه رغبة بالتعلم من أستاذه ، زهد فيما لديه من علم يضن به ، لكن التجارة استهوته ، البيع والشراء والربح بالنسبة له كانت مجالا أوسع وأكثر رحابة من صنع وصفات العلاج ، اكتفى بما توفر له من العلم المتاح للعطار الحاذق الذي يتقن مهنته بغير أن يتوغل في مسارات وأسرار عم يعقوب الوعرة ! ومع ذلك لم يمنعه هذا من التطلع إلى المعرفة والرغبة في الفهم بقراءة كتب العطارة والأدوية ، رأى عددا من تلك الكتب في غرفة يعقوب داخل الدكان ، لكن الرجل لم يكن يحب أن يطلع عليها أحد من العاملين في دكانه ، هذه الكتب التي يعكف على قرائتها ويكاد يحفظها ويستمد منها علمه بالأمراض والعقاقير ، خاصة كتاب داود بن أبي نصر المعروف بكوهين الإسرائيلي ، ذائع الصيت والمشهور بين الناس بكتاب داود العطار ، منهاج الدكان ودستور الأعيان في أعمال وتراكيب الأدوية النافعة للأبدان ، وكتاب ابن سينا القانون في الطب والكتيب الذي يتضمن رسالته عن صناعة الأدوية ..

تكلم مع أبيه في إحدى المرات عن هذه الكتب وأخبره برغبته في الحصول على نسخ منها ، لكن الأب قال بأسف إنها غالية ويصعب عليه تحمل أثمانها ، ثم أضاف مطمئنا وهو يهز رأسه :

– على كل حال يمكن استعارة بعضها وقرائتها ، هذا متاح في عملنا وأمر شائع بين العطارين.

– أتمنى ذلك يا أبي.

– سآتي لك بكتاب داود العطار ، سوف تتعلم منه فهو كتاب قيم وعظيم الفائدة.

Related Posts
Leave a Reply

Your email address will not be published.Required fields are marked *

Instagram
Telegram
WhatsApp