بعد إلحاح شديد من أحد أصدقائي الذين يرأسون تحرير مجلة أدبية مرموقة وافقت على عرضه بكتابة مقال أسبوعي على حائط المجلة، فهو صديقي منذ الصغر ويعرف جيدا ثقافتي الواسعة وقدراتي الأدبية واللغوية.
في الحقيقة وجدت العرض مغريا ليس ماديا فقط ولكنه فرصة لكسر روتين تلك الحياة المملة التي أحياها في شقتي المتواضعة القابعة في منطقة نائية حيث الهدوء القاتل الذي لا يقطعه سوى نقيق الضفادع المزعج وتلك الصراعات الدائرة في رأسي ولا تتوقف أبدا.
انتهيت تقريبا من كتابة المقال وتبقى تنظيمه ومراجعته ثم تزييله باسمي، وأخذت أفكر ماذا أكتب؟
هل الأستاذ أم الكاتب أم الأديب أم أزيله باسمى مجردا من أي كنية أو لقب.
أحسست برغبة عارمة في الخروج من هذا الكهف الذي لم أغادره منذ أسابيع طوال ، حلقت لحيتي الكَثّة ثم ارتديت ملابسي في عُجالة ومضيت إلى أحد النوادي التي تعودت ارتيادها وكانت لي طاولتي المفضلة في ركن قَصيّ هادئ متواريا عن أعين الناس وصخبهم وهاربا من تلك الأدخنة المتصاعدة التي تزكم أنفي.
أخرجت أوراقي وأقلامي ثم أخذت أتأمل المكان وأراقب تحركات رواد النادي، فهذه أسرة تتناول غداءها في سعادة ، وتلك طاولة عليها مجموعة من الشباب يمسكون بهواتفهم ويصيحون بأصوات مزعجة، وهؤلاء الأطفال يمرحون ويتشاجرون ثم يعاودون اللعب مرة أخرى ، وهذا رجل عجوز منهمك في تصفح جريدته، وهذا وهذه … هي الحياة بكل صخبها وهدوئها وحُسنها وقُبحها، حياة مكتملة الأركان تعج بالحيوية والنشاط، حياة أفتقدها كثيرا.
- “عابر” رواية فلسطينية للكاتبة لما الحاج على منصة ريدا الثقافية
- فاروق يونس يكتبــ: ماذا يحدث لي؟ (قصة قصيرة جدا)
قطع تأملاتي صوت النادل إبراهيم :
– حمدا لله على سلامتك يا أستاذ بلال … افتقدناك.
– الله يسلمك يا إبراهيم
– تريدها زيادة كالعادة؟
– نعم ، وليتك تُعجّل بها.
عُدت إلى تأملاتي أسرح بخواطري إلى حالتي المتردية فقد تجاوزت الأربعين بقليل لكني مازلت أحتفظ ببقايا شباب ووسامة لم تعمل فيهما يد الزمن، تزوجت مرتين وفشلت في كلتيهما، فأقسمت ألا أتزوج مرة أخرى؛ فقد أورثتني الزيجتان عُقدا نفسية مازلتُ أعاني من آثارها.
قطع إبراهيم خلوتي مرة أخرى:
– تفضل يا أستاذ بلال قهوة معمولة بمزاج عالٍ.
– شكرا يا هيما.
ارتشفت رشفة وأتبعتها بأخرى فاعتدل مزاجي قليلا ثم جال بصري للناحية المقابلة فوجدت القمر نزل من عليائه وتجسد في ثوب فتاة تجلس في هدوء منشغلة في ترتيب بعض الأشياء والمهمات على طاولتها ثم عدت إلى أوراقي وانتهيت من تنظيم مقالتي ومراجعتها وتبقى مشكلة الاسم، وبينما أنا في حيرتي أعدتُ النظر إلى الناحية المقابلة حيث تجلس الفتاة، وبدون مقدمات وجّهتْ نظرها إليّ مبتسمة، ارتبكتُ وظننتها توزع ابتسامتها لشخص آخر لكني متأكد من عدم وجود أحد بجواري، خلعت نظارة القراءة وارتديت أخرى حتى أراها بوضوح، داعبتني نظراتها بحنان أفتقده ثم انفرجت شفتاها عن ابتسامة عريضة أنستني الهموم التي علقت بجدار حياتي، انفتحتْ شهيتي للحياة، فقد أعادت إلي تلك الصغيرة ثقتي بنفسي وضخت الدماء الفتية في عروقي الجافة اليابسة.
فجأة وجدتها تتجه ناحيتي فزادت نبضات قلبي وكلما اقتربت أكثر ازدادت التبضات سرعة حتى أحسست أن قلبي سينخلع من مكانه، وعندما أتت بمحاذاتي سقطت منها سماعة الهاتف فأسرعت بالتقاطها وناولتها إياها.
لم أدرِ كم مرّ من الوقت وأنا أُحدّق في وجهها؟
لكني انتبهت لجملتها التي يبدو أنها كررتها كثيرا : شكرا يا عمو
نزلت عليّ الكلمة كالصاعقة فلم أنطقْ بعدها ببنت شِفّة.
مرت أمامي كنسمة عطرة عابرة في ربيع أخضر الملامح متجهة إلى طاولة يجلس عليها شاب لم أشعر بوجوده.
لملمتُ أوراقي ورحلت في صمت ثم ألقيت نظرة أخيرة عليهما فرأيتهما مندمجين يتبادلان الحديث والابتسامات ويده تحتضن يدها في حرارة كادت تحرق قلبي، ولّيت مدبرا وعلتْ وجهي ابتسامة ساخرة قائلا : لقد ألهمتني تلك الصغيرة ما سوف أُزيّل به مقالي.