أيا معشر العشاق بالله خبّروا
إذا حلّ عشق بالفتى كيف يصنع؟
قرأتْ هذا البيت، وبدأتْ الأسئلة تتعاظم في خلدها؛ ماهيّة العشق؟ أَوَ ليس هو نوراً إلٰهيّاً؟ كيف يعرفه مخلوق من طين؟ أَوَ ليس من مفاهيم ما فوق العقل؟ كيف يدركه من تقف معرفته أدنى من حدود عقله؟
مجدّداً، أسئلة دون إجابة وتستوطن الحيرة أكثر. الحياة معطيات كثيرة لا تُفهم ولا نستقي الحكمة منها إلّا بالتجربة. أدركتْ ذلك بعد أن أمضت عمراً تدفنُ رأسها بين الكتب. كما اعتادت في أيّام الشتاء الباردة، تلك التي تكشف المرء أمام نفسه، فيرى روحه في صلابة جذوع الشجر وقلبه في غياب اخضرارها، يشرد عن ذاته حتّى يسقط المطر فيغدو طفلا حاز على عناق بعد بكاء. تجعله العواصف في دوّامة مع عقله وهو يردد: من أنا؟ من أنا؟
هي لا تحتمي من المطر، بل تنتظره بفارغ الصبر ومطلق الشوق؛ للمطر عندها فلسفة خاصّة فتقول فيه: عندما تعانق حبات المطر الأرض لا يخطر في ذهني غير مشهد أم تعانق ابنها البكر بعد صبر دام عمراً كاملاً بتوقيت قلبها.
كيف يمكن لفعل طبيعيّ كهذا أن يرسم الابتسامة على شفاهنا؟ ابتسامة صادقة… لا بدّ من أنّه سرّ إلٰهيّ، أتوق لمعرفته.
في طريقها إلى البيت التقت بشيخ متّكئ على الحائط بعينين مغمضتين وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة.
– السلام عليكم، أتحتاج شيئاً عمي؟
– وعليك السلام والرحمة والاطمئنان، شيئا مثل ماذا؟
– لا أعلم، ماء ربّما أو أنّك تبحث عن شيء محدد؟
– أَوَ يضيع من في قلبه الله يا ابنتي؟
شردت في إجابته كثيراً، ثمّ قالت:
– وكيف يصل ذاك الشعور إلى قلب الإنسان؟
تأمّل بريق عينيها مطوّلا، دهشتها ولهفتها لمعرفة الإجابة ثم قال:
– الطريق لذلك شاقّ يا ابنتي، يحتاج صبراً وجهاداً عظيما مع النفس…
– مستعدّة لخوضه مهما كلفني ذلك.
– إنْ صَدَقَ عزمك فسيلهمك الله السبيل.
تحامل على نفسه، ونهض وعيناه تحكيان قصصاً عجيبة. تمنتْ لو كانت تجيد قراءة ما وراء نظرات العيون.
عادت إلى المنزل والدهشة مع قليل حيرة ينتابها؛ وكيف يصل الإنسان إلى صدق العزم؟
يوم ماطر آخر ونظرة حائرة تبدي عن رغبة جامحة في أن تجد من يجيبُ على ثمن أسئلتها حتّى وعلى نفس الممرّ وجدت الشيخ يُتمتم كعادته. اقتربت منه أكثر، وقبل أن تنطق قال:
– يقول المتصوّف سلطان العارفين ابن عربي: (كلّما اتّسع المعنى ضاقت العبارة). أَوَ أنتِ بحاجة إلى إجابة أبلغ وأشمل من هذه؟
– أَوَ أفهم من قولك أنّ كلّ تلك المجلدات والكتب التي أمضى العلماء والمؤرّخون أعواماً في كتابتها ليفسّروا بها للناس شأن الحياة وديدنها لا تفي حقّ المعنى؟
– بل أقصد أنّ فهمك أنتِ لهذا الكون وسيرورته، نواميس الحياة وتقلّباتها، النفس البشرية وغموضها، مقادير القضاء وحكمتها لا يحتاج كتبا وتفسيرات مطوّلة. يحتاج أن تنصتي بهدوء تامّ إلى حديث قلبك. واعلمي يا بُنيّتي أنّ في العيون آفاقَ وأسرارَ ومعانٍ جليلة، وفي تأمّل الروح المفاتيح التي تقودكِ إلى أسرار الكون. أَوَ تحسبين أنّك جرم صغير وفيكِ حقّا قد انطوى العالم الأكبر؟
عاد يُتمتم، لكن هذه المرّة سمعت جيّدا ما كان يقوله؛
والله ما طلعت شمس ولا غربتْ
إلّا وحبّك مقرون بأنفاسي
ولا خلوت إلى قوم أحدّثهم
إلّا وأنت حديثي بين جُلّاسي
ولا ذكرتُك محزوناً ولا فرحاً
إلّا وأنت بقلبي بين وسواسي
(قصيدة للحلاج )
– لطالما ظننتُ أنّ مطلق الإيمان حبّ، أظنّني أصبت.
ابتسم لها، وأشار بيده إلى مكان بجانبه، موحيات إليها بالجلوس. نظر في عينيها مباشرة وقال:
– منتهى الإيمان حبّ يا ابنتي، أمّا مُطْلَقُهُ فهو العشق، تلك المرتبة السامية التي يسعى إليها الصوفي سعي الفطرة للإسلام. أَوَ تعلمين حديث روحي عندما أسمع المؤذن يقول: حي على الفلاح.. الصلاة خير من النوم؟
– وما يكون حديث الروح يا شيخي غير قولها: حيّ على الحقيقة.. الحبّ هو سرّ الكون
ابتسم ابتسامة عميقة حتّى ظهرت أسنانه كأنها لؤلؤ مكنون، ومسح بيده اليمنى على رأسها ثمّ قال: {سَنُقْرئُكَ فَلَا تَنْسَى}.