نشأت في الأسر..
لا أذكر قبيل سجني كيف وأين كنت؟، وكأن جميع ذكرياتي تم محوها، كل ما أدركه أن سجني هو عالمي -بيتي ووطني-، أحاط سجاني عالمي بجدار شفاف أطَّلع منه على العالم الخارجي الذي قلما أراه، فالشمس في عالمي لا تأتي إلا قليلًا، وكلما أشرَقت ومض معها أملي، في كل مرة يتسلل ضوءها إلى حجرتي؛ أرى هذا العالم الذي حلمت بالخروج إليه، أسمع طرقات سجاني فوق جداري وكأنه يحادثني، هل يستأذنني؟، أهو عاجز عن فتح سجني؟، طالما راودتني أسئلة عدة…
خلقت جميلة، رشيقة، لدي حس فني، في كل مرة يدق بابي تدب دماء الأمل بعروقي، أنهض من موضعي فيتمايل جسدي راقصًا على أنغام لحن خلاب طالما دغدغ أوصال قلبي الهائم في سماء الحرية البعيدة، أدور في دائرتي الصغيرة، أتطلع إلى العالم الخارجي، أُشبع عينيّ من الضوء الذي افتقده، أنصت لهمسٍ وكفوفٍ تصفق؛ فيزداد دبيب أملي، هل سأحظى بحريتي اليوم؟، أتمنى لو سمح لي سجاني برؤيته كما يراني، هل تعلق بي لدرجة أن أودعني في زنزانته..
لا أتوقف عن الرقص ولا أمل منه، حتى تمطر سماء زنزانتي تارة مطرًا خفيفًا وتارة أخرى ثلجًا رقيقًا، يمر الوقت حتى تغيب الشمس وأعود إلى حياة الظلام التي اعتدتها دون أن أفقد أملى، سيأتي اليوم الذي أغادر فيه سجني، وأتنفس هذا الهواء الحر الذي سيثلج صدري، وضعت خطط عدة من اجل إطلاق سراحي، جميعها باءت بالفشل..
تمر الساعات والأيام، أحيانًا يعود سجاني، وكثيرًا ما ينساني أمدًا بعيدًا، أشتاق للحن حريتي، أشتاق لشمس العالم الخارجي، في كل مرة تعود يعود معها أملي، مرت السنون وأنا في نفس موضعي؛ ذهب شغفي، وفقدت أملي..
ذات يوم جاءتني طرقات سجاني؛ خانتني ساقيّ؛ فلم أنهض، لقد هرمت وضاع شبابي في هذا العالم، لم يلتمس لي سجاني عذرًا، شعرت بغضبه، وأيقنته مع هذا الزلزال الذي ضرب مسكني، تدحرج جسدي يمينًا ويسارًا، كدت أسقط ألف مرة، تساقط الثلج بغزارة، برقت السماء لأول مرة قبل أن يسدل الظلام ستائره، ويعلو صوت الصمت، ومعه شعرت بدنو أجلي؛ فاستسلمت..
مرت ساعات طوال وأنا على حالي، ومن جديد ضربت عالمي تلك الهزة العنيفة أدركت معها أنها النهاية، ارتجت الجدران حتى تكسرت، شلالات نزفت من السماء والأرض، أخذت أتأرجح بين المياه محاولة التشبث بأي شيء دون جدوى، ضربة قوية قذفت بي إلى العالم الخارجي الذي طالما حلمت به، أشرقت الشمس دون سماء، تسللت يد العبث وانتشلتني، تأرجحت بين أناملها، يد تُشبه يدي كثيرًا رجّتني بعنف؛ فاهتز العالم، طنين هائل دمر أذني، أين شمسي؟، أين لحني؟، أين عالمي الصغير؟!
سقطت…
شعرت بجسدي يتأرجح في الهواء؛ تركتني تلك اليد، حتى هي تخلت عني، رفت عينيّ؛ أبصرت السماء، لأول مرة أرى شعاع الشمس وهو يبذخ في الأفق؛ اللحظة الأجمل بحياتي الطويلة القصيرة..
قوة شديدة جذبتني لأسفل -إلى الأرض- نعم هي أرض حقيقية تكسرت فوقها أضلعي، وأدركت معها حقيقة عالمي الذي عشت به كدمية داخل بلورة.