المُلاحظُ لدهشتهِ وتفاعلِ ذهنهِ مع ما يجولُ بخاطرهِ لا يرتابُ في أنّ ما يدورُ برأسهِ هو من قصصِ المبدعين التراجيدية التي لا تكاد تنطوي منها صفحةً إلّا وقد أخذت حظها من عينيه… يقرأ قليلا ثم يعتصرُ جبينهُ مروراً بإماطةِ بعض ما تحدّر من نوافذِ الرؤى ومُجرياتِ الأحزان، تُبدي طموحاتهِ ضجراً واسعاً لما تبدّى لها من إسهابٍهِ في إنكارِ ذاته، تعترك أفكاره ما بين هاتفٍ يأمرُ بمواصلة طريق الإحسان مُبدياً أفضاله ومتعللاً بقواعد القيمِ التي نشأ عليها، وآخر يزجره مُتساءلاً: إلى متى تصبر على مُعاداةِ الأقرانِ وجرأتهم عليك؟.. أوقفوا لك مصالحك مرات ومرات، داسوا كرامتك تاراتٍ وتارات، حتى أصبحوا لا يعبأون بك بل لا يعتبرونك شيء…نذيرٌ من هاتفه يطرق ُ باب أذنيه مُعتدياً على أسرابِ أفكارهِ المتناحرة… أولئك بعضُ أقرانه يتصلون… يستهزءون… هل ستترك صديقك طاهر للسجن ونحن نعرفُ أن تهمتهُ ملفقة… يتناوبون على الهاتف في سُخريةٍ فجةٍ منه وكيف أنهم يلقبونهُ بالنكرةٍ الذي لا وزن له ولا قيمة.. أغلق الهاتف أمام تنمراتهم واستخفافهم به ثم أجرى اتصالا آخر، ثم استرخى في مجلسه ملياً وإذا بهم يتصلون عليه مرةً أخرى: نحن في الشارع عند بيتك يا سبع.. ها ها ها .. كانوا يتناقلون الهاتف حتى يفرغ كلٌ منهم ما عنده من كيل وبينما هم كذلك إذ اقتنصت أُذنه عبارتين حين سمع أحدهم ضاحكاً يقول: هو لم يستفزه أننا أوقعنا بينه وبين خطيبته بل لم يستفزه أننا تسببنا في فصله من عمله الأول، عندها استشاط غضباً ثم نزل إليهم فارغ اليدين إلا من حِكمة لا تفارقه وبأسٍ لا يعلمه أحدٌ منهم… وقف أمامهم قائلاً:
ماذا تريدون مني؟ لقد تجاوزتُ عن كثيرٍ من حماقاتِكم لماذا تريدون انحداري من حكمةِ المتعلمين إلى جهلِ السفهاءِ والمجرمين؟ أخبروني ماذا تريدون؟
منذ قدمنا إلى الحارة وأنتم تدبرونَ لي المكائدَ وأتجاوز ثم أتجاوز ثم أصفخُ حتى أوحى لكم غفراني بأنني ضعيفٌ ولا حيلةَ لدى سوى ما كنتُ أظهره لكم من حسن معاملة، حقيقةً أنتم لا تعلمون عن حياتي الأولى شيئأ، لكن اليوم وقد سمعت ما سمعتُ من حديثكم في الهاتفِ فقد وجب عليّ أن أفعل ما تكرهون.. أو ما تجروني إليه جرّا.. تغامزوا وتضاحكوا قليلاً ثم استفزه أحدهم: ونحن في شوقٍ لما ستفعل بنا واستطرق… أنت ضعيف لم تستطع رد لطمتي لك منذ أعوام تولت … أجابهُ حسناً امدد يدك الآن حتى أسلّمها لك هديةً ليدك الأخرى ففعل.. وإذا به يصدُّ يده ويعتصرها عاطباً إيّاها دون كسر ويفي بوعده مُسلماً إياها ليده الأخرى ثم يشتبكُ مع خمستِهم وما هي إلا لحظاتٍ حتى اسقطهَم أرضاً وبينما هم في ذهولٍ لما أوقعه بهم إذ يتدلّى طاهرُ من سيارة الأجرة محاولاً تهدئة الوضع فالتفت إليه قائلا حمداً لله على سلامتك يا طاهر، هل أخرجك من السجن بضمان محل الإقامةِ (سرٌ غامض)؟ نظر إليه طاهرُ بدهشة وقال: فعلاً إنّ الضابط أخبرني أن الذي أخرجني سرٌ غامض!! فأجابه أنا منْ أخرجك وهؤلاء الأوغاد هم منْ أدخلوك ولكن لا تقلق فدليلُ براءتك في هاتفي فقد دعاني الفضول لتسجيل آخر مكالمة لهم معي وهم يعترفون بتلفيق القضية
فهنيئاً لك البراءة مقدماً يا طاهر
فأجابه طاهرُ كفاً بكفٍ وهنيئاً لك انتصارك على هؤلاءِ الجُبناء؛ فهيّا بنا إلى القسمِ لنحررَ ضدهم محضرَ الاعتداء ونقدمُ دليلَ براءتي للمحامي.