اشتقت إلى نفسي، نعم اشتقت إلى ذلك الشاب الذي أحب تراب بلده، بل عشقه. وأحب من يسكنونه، فتماهى فيهم وتألم معهم، فثار على كل قانون لا ينصفهم، ولا يعطيهم حياة يستحقونها.
نعم اشتقت فأنا منذ مئتين وثمانين يوما لم أر وجه ذلك الشاب.
وأظن أنه هرم خلال هذه الأيام.
هناك محكوم بالإعدام متنفذ داخل السجن، هرولت إليه وطلبت منه قطعة زجاج مقابل علبة سجائر وأخرجت كل ما في جيوبي، وبعد أن أكدت له بأنني لن أنتحر مثل البقية.
رتبت نفسي، وسرحت شعري بيدي، بعدما بللته بقليل من الماء،
ومسحت وجهي بذيل قميصي.
توقف الزمن، فالثواني صارت ساعات طوال قبل أن أسمع أخيرا صوت الجرس الذي يعلن بدء الفسحة اليومية.
خرج الجميع لكنني تعللت بصداع مدمر فتركت قابعا في ركني المعتاد، تقدم نحوي السجين بعد تأكده بمغادرة جميع السجناء الغرفة وضع يده في جيب سرواله المرقع واخرج قطعة خبز كان قد وضع فيها مسبقا قطعة الزجاج
ثم انصرف مع ابتسامة كلها استهزاء فما الذي يفيدني النظر الى وجهي …..
رأيت وجها لم أعرفه، نظرت خلفي خلت أحدا يقف ورائي، لم أجد سوى الحائط، عدت إلى قطعة الزجاج، وبدأت أتمعن في ملامح هذا الوجه، شعرت بقلبي ينقبض، وكأن يدا تعصره، وأشحت بوجهي.
ثم سمعت هدير المتظاهرين وهم يهتفون: لا للظلم، لا للأحكام العرفية
ثم ضاعت أصواتهم مع الأصوات القادمة من الخارج.
عدت إلى الزجاج، كانت الدموع تملأ ذلك الوجه، ابتسمت له: لا بأس، سنعتاد على بعضنا.
وبدأت أحفظ تقاطيعه. فهو من سيرافقني حتى النهاية.
نعم هناك جرحان وتشوه بسيط في الشفة اليمنى، واعوجاج في جفن العين اليسرى، وهالات سود حول العينين
إذن أنت الآن وجهي.
رفعت رأسي رأيتها تتأملني باستنكار، ثم هزت رأسها أسفا، وغادرت.
خبأت قطعة الزجاج في رغيف الخبز مثلما جاءت وأخذت نفسا عميقا، وابتسمت: أنا بخير
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
عاد الحمام الزاجل إلى صاحبه من جديد، اغتبط الأسير فشكل بأوراق سجائره رسالة وكتب حروفا بدماء جرحه، فطار الحمام من بين قضبان زنزانته الانفرادية وشكل طريقا إلى ديار صاحبه المغتصبة. في وسط السماء الداكنة بغبار البارود انقّضت الغربان المارقة على الحمام فصرع وسقطت الرسالة بين أكوام الجثث. أنزل علم البلاد وتهاوى وأحرق وأخذت مكانه نجمة سداسية تشم من خلالها الدمار والخراب، جفت النوافير تحت أنقاض
بيت فلسطيني وتبخرت معه ذكريات الصبا، امتلأت السماء الداكنة بالأطياف، الأشجار تهاوت وسقطت جثثا والحيوانات استقرت لحما في البطون الجائعة. دقت طبول الحرب وأشعلت نيران المدافع ولاح من بعيد جيش صنديد ثم نصبت مشانق أحفاد القردة والخنازير في الساحات حرية من جديد، هوية من جديد، كرامة من جديد، بفضل بندقية من حديد. رجع الحمام الزاجل يغرد و يبنى أعشاش السلام و عادت الأطياف إلى جنة الرحمان….
&&&&&&&&&&&&&&&&&&
شق صدره وأخرج قلبه من بين ضلوعه ثم غرسه تحت تراب القدس بلاده، تدفقت دماؤه وسالت داخل شرايين أرضه واختلطت بدماء أهله واجداده الطاهرة، سقى نبتته الفتية بمياه دمعه وعرقه، أنبتت العروق وتشعبت ثم أذكت دماء الأجداد، دماء الحفيد تستنهض همته للثأر لهم وله ولوطنه المسلوب المغتصب فأينع قلبه وأثمر قلوب ثوار يحملون بين ضلوعهم وفي أفئدتهم القضية يرهبون عدو الله وعدوهم ثورة حتى النصر المبين!