بيتنا يتنفس غضبا، ينشره بيننا، ننام ونصحو على إيقاعاته السمفونية، وقرع طبوله الحربية، ألفناه و طبع مع سحناتنا، غضب توارثناه وسنورثه ذريتنا..
أبي رجل ” ميخالي ” صفة لصقت بأسرتنا كعلامة تجارية مكشوفة، حتى تناسى جميعهم أسماءنا رغم أنهم دأبوا على ملء بطونهم، بلحوم أضحيات عقيقات كل واحد منا.
أضحى بيتنا وسيلة لتحديد إحداثيات المكان والزمان:
– من فضلك أين مكان المسجد الجديد؟
– على يمين بيت الميخالي !
– في أي يوم وقعت الحادثة؟
– يوم الخميس، بعد وصول الميخالي الكبير من المسجد بدقائق..
ما العيب بمهنة أبي؟ أليس هو من يجمع أدرانكم؟ أناس جاحدون، ناقمون..
نحن لم نخترع الغضب، بل نظراتهم البغيضة لنا، هي التي دفعتنا له دفعا ! أتذكر بحلم طفولي، المهاترات المتواصلة، لوالدي مع أخي الأكبر، يلومه على عودته الذميمة من ديار المهجر، واكتفائه بالعمل في شركة النظافة :
– لو بقيت بأوروبا، لتحققت كل أحلامنا ! لضمنت مستقبلا أرحم لنا جميعا، لكنك ألفت ” التمخيل “، على الأقل أوساخهم نعمة، ذات قيمة مقارنة بفضلات هؤلاء الأوباش!
لأول مرة، منذ سنوات عديدة ينكسر شريط التوثر والغضب، بصوت والدي الصاخب، فلا يجيبه مكتفيا بنظرة نادمة، تستشف منها تعابير الخطيئة والندم، مكتفيا بإطلالات من وجهه الشاحب وعينيه الحمراوتين، مرتبكا، عازفا عن التصعيد في مواجهة شاب يفوقه طولا وفتوة.
– لقد سئمت حياة الذل والخنوع، يعايروننا بجريرة، أنت صاحبها ! جميع رفاقك، الذين قرروا العودة لهذه البلاد، شاعت مبانيهم وتجاراتهم، وتضخمت أرصدتهم البنكية، وأنت ستورث لنا هذا ! ( يلتفت جهة المفتاح الخشبي الكبير المعلق وسط الصالة) ..
– سوف أترك عالمكم، سأرحل، لقد قررت قطع البحر سباحة، لعالم يضمني ويضمن كرامتي، لا أحتاج إليك، ولا أظن أنك قادر على منحي مبلغ التوصيلة لأغادر على متن قارب مطاطي ، لأنك ببساطة لا يهمك مستقبل هذه الأفواه ( مشيرا لنا نحن إخوته الأربعة الصغار)..
تحاول أمي التوسط بينهما، لطرد لعنة الغضب التي استشرت بين المقل، وسط أصوات النحيب المتعالي، لكن ضربة العكاز لم تمهلها، فأجهزت على حركة عضدها الأيمن، تزامنت مع طقطقة عظام منكسرة، فأصدرت صرخة مدوية، وبعدها ساد صمت رهيب لبرهة، تلاشت معها خطوات أخي الى اليوم…
ولم تنفع توسلات الجارات لأمي، بمعايدة المستوصف، كتمت آلامها وتأوهاتها، راقدة بسرير الوحدة، إلا من نظرات حزينة، ترمق بها زوجها كلما عاد من العمل.
كبرت أنا، وكبرت مآسينا، فأصبح والدي ذلك الحمل الوديع بعد وفاة والدتي، حل الصمت مكان الغضب، واستشرى الندم في شرايينه، أقعده نفس السرير، متوسلا اللحظة المواتية للحاق بشريكة عمره..
قبيل صعود روحه لقطار الموت المحتم، أشار إلي بفتح صندوق شبابه :
صندوق علاه غبار الأماني، لا يحتوي إلا على قطعة من جريدة محلية باللغة الإيطالية، تظهر طيف شاب يشبهه، بشعر أسود منسدل، وشارب كث، مبتسما وهو يتسلم مفتاحا خشبيا كبيرا، من شخص ببذلة سوداء، وربطه عنق حمراء. ووراءه أشخاص متأنقون يصفقون… وقد كتب ببند عريض كلمات قام أستاذ اللغات بالكلية التي أرتادها، بترجمتها حرفيا :
( تشرف عمدة مدينة صامبدوريا السيد ” ر.ك” بتسليم مفتاح المدينة لعامل النظافة المغربي
“أ. ح” عرفانا له لأمانته، بمساعدة المدينة بتقديم حقيبة الأموال المسروقة التي عثر عليها في إحدى الحاويات. وقد توعدت المافيا بملاحقته…).
* الميخالي : كلمة بالعامية المغربية تطلق على الشخص الذي ينبش بالنفايات.