في ليلة سوداء من ليالي الصيف الحارقة ،السماء كثيفة بالغيوم ومرصعة بالنجوم ،يتجه يحيى إلى بيته بعد الساعة الحادية عشر وقد أكل التعب عظامه، ليسمع صوت غريب أشبه ببكاء طفلة صغيرة ،فيتوقف برهة ويرى يمنة ويسرى ثم يستمر بالتحرك اتجاه الصوت، ليلمح من بعيد حقيبة كلما اقترب منها تضاعف الصدى ،ليرى مالم يكن بالحسبان ،فتاة صغيرة لم تبلغ العام من العمر ،عيناها لؤلئ أزرق وشعرها بلون السنابل الممتلئة التي تغطي المكان، وجهها أكمل من القمر ،فحملها بين يديه فهدأت من بكائها ،وهرول مسرعا يسابق نسمات الرياح إلي زوجته التي كانت بانتظاره…فتحت الباب ومنذ أبصرتها مارفت عيناها من النظر ،ليهب عليها زوجها الخبر كالعاصفة، كانت إمرأة معتزة بنفسها كالنجوم رغم الهموم تمشي بتبختر بضعفها الهائل وكتفيها الهزيلتين، عيناها السوداء تضيئ كالشموع وشعرها المنسدل حتى خصرها ،حقا إنه جمال رائع. لمست وجه الفتاة خمسة ثواني فقط أخذتها إلي سفر طويل ،كانت تحدق بها بين لحظة وأخرى بحذر شديد بخوف ودهشة فهي امرأة عاقر لم يكن من نصيبها أن تحضن أطفالها ،فربما من قدرها أن تعوضها هذه الصغيرة ذلك بابتسامتها الخفيفة ،وعيناها الساحرتان كزوج من الطيور النادرة، ليوقظها من أحلام يقظتها صوت يحيى :أمينة علينا أن نبحث عن أهلها، فتقاطعه كيف نعيدها لمن رماها ولم يكترث لحياتها أو موتها ؟لنربيها لعلها تنهي وحشتنا ووحدتنا ، سنسميها آية ونكون لها نعم الأم والأب ،ليجيبها بغضب لا يمكن فحالتنا المادية لا تساعدنا وماذا لو أتي يوم ووجدتها عائلتها؟ ماذا سنفعل حينها؟ لذلك الميتم مآلها، فأخذت تبكي فزوجها صعب المراس ولايمكن التغيير في قراره، إلا أنه لم يستطع النوم تلك الليلة فصوتها سكن في جوفه مسائلا نفسه هل يوجد هدوء في هدوء؟ ليبشر زوجته في الصباح الباكر آية مكانها بجانبك فلعل الله استجاب لدعائك.
يوما بعد يوم ،عام بعد عام، يزداد تعلقهما بها ،وتزداد هي تعلقا بتلك الحياة البسيطة تجري في الحقول الخضراء وتراقب سيلان الماء في النهر ،ليأتي ذلك اليوم وتصلهم أخبار بأن عائلة غنية تبحث عن ابنتهم الضائعة قبل 7سنوات ،خطفها أعداء والدها أشهر محامي في البلد، ليقف الوالدان في صمت وقلوبهم تحترق فملامحها البريئة أعادت بهجتهم وتعبهم تخفيه ابتسامتها اللطيفة، ليسيطر القلب على العقل ويقررا عدم البوح لأحد عن أهلها ،وتمر الأيام وكعادتها آية تلعب أمام النهر لتنزلق قدمها ويجرفها التيار ،أسرعت صديقتها لإخبارهم ،ليجتمع الناس وتعلوا الأصوات ،إنها تتنفس لكنها فاقدة للوعي ويتم أخذها للمشفى ليتفاجؤوا بتوقف عمل كليتاها في وقت قريب وتحتاج إلى عملية زرع ،لتصيح أمينة هل يأتي الفراق بعد اللقاء بعدما جمعنا القدر رغم اتساع الزمان ؟،ليقعوا في الأمر الواقع ويخبرون أهلها فحياتها بين أيديهم ، فأحيانا القرارات القاسية هي السبيل الوحيد لواقع أفضل وترحل الفتاة مع والديها ولكنها كانت تبحث عن وجهي أمينة ويحيى في وجوه العابرين ،ذهبت هي وضحكاتها تعيش معهم وذكرياتها تواسيهم، على أمل اللقاء من جديد .فالفتيات هن العفاف والحسن ،هن الحب والطمأنينة…