قرّرت أن أكتب قصة قصيرة. منذ سنوات وأنا أفكر في هذا المشروع، وكلّما هممّت أبعدتني مشاكل الحياة، وحين تعاودني الرّغبة في الكتابة، أجد أفكاري قد تغيّرت، أو تطوّرت، أوفقدتُ
إيماني بها. فأعود من جديد، إلى دوامة البحث عن موضوع . سأفاجئ الجّميع.. أصدقائي ومعارفي يعرفون أنّي شاعر فقط .. سيندهشون:
– كيف تحولت إلى كاتب قصة؟!.. هل اعترفت بفشلك في الشعر أخيراً؟
أنا لم أفشل في الشعر. أنا شاعر حتى العظم.. منذ بدايتي الشعرية أطلقت على نفسي لقب “ربّ الشّعر”.
وأنا مطّلع ومتعمق في علم النفس، ولهذا لا أرى في ذلك غروراً أو نرجسية أو شيئاً من جنون العظمة، والمبدع الموضوعي لا يجد حرجاً في الإعلان عن نفسه إذ لابدّ لكلّ مبدع حقيقي من أن يعرف مقدار قيمة أعماله.. إنّه النّاقد الأول لنفسه.. وبما أنّي أعي كلّ هذا، فأنا ربّ الشعر.
ومن يشكّ في شاعريتي، عليه أن يقرأ قصائدي، عندي أكثر من ألف قصيدة.. كتاباتي غزيرة.. وهذا دليل كبير على أصالة موهبتي.
أكتب أكثر من.عشرة قصائد، حتى يتمكّن غيري من كتابة قصيدة قصيرة!
- رواية ملح السراب للكاتب السوري مصطفى الحاج حسين – الفصل الخامس عشر والأخير.
- عبد الكريم حمزة عباس يكتبـــ: أهمية بناء السرد في القصة القصيرة.
من أجل كلّ ذلك يحسدني أصدقائي.. ويحاولون بفعل الغيرة والحسد، أن يحطّوا من قيمة أشعاري، مدّعين أنّ الغزارة عدو للإبداع. إنهم يفقدوني رشدي في كلّ مرة أقرأ لهم فيها شعري.
صحيح أنهم يكتبون القصة والشعر
، لكنهم غير مثقفين.. جهلة.. وأنا غير معجب بما يكتبون..لكن، وحفاظاً على الصداقة، ولأنّهم معجبون بشعري،
أمتدح كتاباتهم السّخيفة بعض الشّيء.
أقول في نفسي:
– ماخسارتي لو جاملتهم..إنّهم مبتدئون
.. ثمّ مابهمني إن كانوا فاشلين؟؟ أنا سعيد لأنّ كتاباتهم تافهة، أرى نفسي ذا موهبة عظيمة، حين أقارن شعري بما يكتبون.. وأقول:
– لو أنّي انتقدتهم ، لعلمتهم كتابة الشعر
، ولربّما سبقوني.
في هذه المسألة أنا أناني.. نعم أناني ولا أخجل.. كلّ العباقرة أنانيون، ولا ألام إن أردت أن أكون شاعراً كبيراً وحدي.. أأحفر قبري بيدي؟! دعهم يتخبطون، عندها لن يجد الناس غيري يعترفون به ويمجدونه.
لسوف يحتلّ اسمي الصفحات الأولى
، في جميع الجرائد والمجلات، ولسوف أتفاوض مع إحدى دور النشر الواسعة الانتشار، وأتفق معها على نشر أعمالي الكاملة، من شعر وقصة ورواية، ومسرحية، ونقد أدبي، وسياسي،
ومسلسلات، وخواطر، وتأملات، والمقابلات التي أجريت معي.. وأخيراً كتاب ضخم من عشرة أجزاء، عن ذكرياتي وتجاربي الأدبية المتعددة. ولسوف تترجم جميع أعمالي الإبداعية، إلى كافة لغات العالم الحية والمنقرضة، ولابدّ لي أن أنال كلّ الجّوائز الأدبية العربية والعالمية، وستقام لي التّماثيل.. وتوزّع على مداخل المدن، وفي السّاحات العامة، والحدائق والمدارس والجّامعات والمعاهد.. وستعلن الدولة عن جوائز قيمة ”باسمي” تشجيعاً للأدباء، في كلّ زمان ومكان، سأكون مدرسة لجيلي وللأجيال القادمة، لي مدرستي الخاصة، ومذهبي الخاص، ورؤاي.. سيعتبرني البعض أديب الفلاسفة، وآخرون مفكر الأدباء،وفي هذه الأحوال سأكون غنياً جداً.. وسيكف والدي عن لومي.. ولن يقول لي بعد اليوم:
– الشعر لا يطعم خبزاً.
وأيضاً سيضطر إتحاد الكتاب العرب لقبولي عضواً فعالاً.. وربما صرت في المستقبل أميناً عاماً له، أو رئيس تحرير مجلة، وحينها لن أستمر في مجاملة أصدقائي. لأنّ عملية النشر مسؤولية كببرة، وبطبيعة الحال لن أسمح بنشر أعمال تافهة.. سأكون حاسماً معهم، وسأكتب في زاوية “إلى القراء”:
– أيها الأصدقاء، أعمالكم غير صالحة للنشر، لضع المستوى.. سيشتموني كما شتمتُ محرر جريدة، اعتذر عن نشر قصائدي، لقد كنت محقاً في شتمه، لأنّ قصيدتي جميلة بالفعل، وأنا هنا لست منحازاً مع نفسي، ولكنٌ أصدقائي مخطئون إن شتموني، فما ذنبي إذا كانت أعمالهم تافهة، وفي ذات الصفحة، سأنشر قصيدة مطولة لنفسي، ليتعلموا كيف تكون الكتابة وسأنشر دراسة نقدية عميقة ومطولة عن قصيدتي، أكتبها أنا بنفسي، وأنشرها باسم مستعار، لأنّ نقاد هذه الأيام لا بعجبوني أيضاً.
ومع هذا، ورغم ثقتي المطلقة بموهبتي الشعرية، فأنا مصمم على كتابة القصة. عندي مواضيع كثيرة، وفي غاية الأهمية، تصلح لأروع القصص، ولن يقدر أحد سواي أن يكتب عنها.. لقد عشتها.. وخبرتها.. فأنا صاحب تجارب واسعة بكلّ المجالات، أختلف تماماً عن أصدقائي الكتّاب، ولا أتصوّر أن يكون أحداً منهم مثلي يملك مثل هذه التجارب الواسعة، فإذا كان الواحد من أصدقائي قد أحبّ مرّة أو مرتين، فأنا أحببت أكثر من خمسين مرّة.. وإن كانت له علاقة غرامية مع أنثى، فأنا لي عشرات العلاقات، وإن كان واحدهم توظّف مرّة أو أكثر في التّدريس، فأنا والحمد لله، توظّفت في عشرات الوظائف، وعلى كافة
المستويات، من المهن إلى العامل العادي، إلى الإدارة ثمّ التجارة الحرّة.
وإذا كانوا يحلمون بدخول السجن مرة واحدة، حتى يدّعون أنّهم أصحاب تجربة.. فأنا، والحمد لله، دخلته مرات عديدة.. لكنني لم أدخله بتهمة سياسية
، كنت حريصاً على أن لا أشوّه اسمي عند الحكومة.
لقد تصوّرت أن يقوم أحد من أصدقائي
كتّاب القصّة بالكتابة عن تجاربي، ولكن.. وفيما يبدو لي، فإنّ أصحاب المواهب الصّغيرة، يبحثون عن
المواضيع التي تناسب مقاساتهم.
خطر لي أن أباحث أحدهم، علّه يستفيد مما مرّ بي.. ولكنني أحجمت.. نعم.. لما لا أكتب عن نفسي بنفسي؟! .. وهل سيقدّر فعلي إن أسديت له هذه الخدمة؟.. لا.. بل وسيدّعي أنه مبتكر الموضوع، أو أنّه جرّبه بنفسه.
ألم يفعل أصدقائي الشعراء ذلك؟
.. أحدهم زارني وصادف أن كنت في حالة شعرية لا توصف.. وعلى الورقة البيضاء أمامي عنوان لقصيدة جديدة سطرته بانتظار الوحي.
دخل، فوقع بصره على الورقة، ولم يلبث أن غادرني لأرى بعد أيام، قصيدة له في إحدى المجلات، عنوانها” بانتظار
حبببتي أجلس القرفصاء”، الملطوش من عنواني” أنا وحبيبتي نجلس القرفصاء تحت المطر”.
لهذا لن إطلع أحداً من أصدقائي،
على مواضيعي الرائعة.. سأباغتهم بقصتي وهي مكتوبة، وكتابةالقصّة بالنسبة للشاعر سهلة للغاية، لا تحتاج إلى حالة ولا إلى انفعال.. كتابتها تستطاع في كلّ حين، لأن الشاعر موهوب من الدرجة الأولى، وكاتب القصة موهوب من الدرجة الثانية.. سيحتجّ القاصّون ويسخرون، لكن هذا لا يهم، فأنا هكذا أعتقد.
إذن:
– كلّ شيء متوفر لديّ.. التّجربة، والثقافة والموهبة – ذات الدّرجة الأولى – فلم لا أكتب القصّة؟!.. فعن الثقافة لا أحد يجاريني فيها من أصدقائي، رغم أنّهم أساتذة وطلاب جامعة، وأنا لا أحمل وثيقة الإبتدائي، صحيح أنني أخطيء في النحو وقواعد الإملاء.. وصحيح أنني ألجأ، اليهم كي يصلحوا لي أخطائي، ويشكّلوا لي كتاباتي.. وصحيح أنّ خطي رديء للغاية. ولكن هذا لا يهم.. طالما أنّي أكتب أشياء جميلة.. أنا مثقف جداً..لأنني أقرأ كثيراً
..فإن كانوا يدرسون في الجامعةعشرة
كتب خلال سنة..فأنا أقرأ خمسين كتاباً خلال هذه السنة.. ورغم أنّي بعت كتبي مرّات عديدة لهم بسبب ديوني المتراكمة.. وبسبب تورّطي مع امرأة مطلّقة، وكان علينا التخلّص من الجّنين
، الذي بدأ يتكون في أحشائها.. بعتهم كتبي ودفعت ثمنها للطببب.. غير أنّي أستعير منهم الكتب بكثرة، ومع ذلك ما زلت أملك الكثير من الكتب الماركسيّة
.. لم أبعها بسبب رخص ثمنها، وبسبب
توفّرها في المكتبات في كلّ حين.
سأكتب القصّة.. وأعرف أنّهم سيحرجونني..وكم يحرجون المبدعين؟! سيقولون:
– طالما أنّك شاعر، وطالما أنّك تدّعي الموهبة من الدّرجة الأولى..لماذا تتنازل
وتكتب القصّة؟!.
سأقول لهؤلاء:
– العيب ليس فيّ.. العيب في الشّعر نفسه.. إنّه لا يستوعب تجربتي..إنّه فنّ التّجريد والصّورة والرّمز والإيحاء والتّكثيف وركزوا على التّكثيف.. وأنا مليء بالمواضيع والحوادث الحيّة والملحميّة.. أنا أريد أن أطرح مواضيع هامة وسهلة، والنّاس يفضّلون القصّة على الشّعر.. حتّى أنّ زوجتي تحبّ القصّة أكثر من الشّعر.. هكذا تقول لي، وهاذا مايحزّ في نفسي صراحة… لذلك قررت أن أكتب قصّة.. ولكنني حائر.. نعم حائر، حتّى الآن وأتساءل:
– ماذا سأكتب في قصّتي الأولى؟!.