من نزهةِ الموتِ القصيرةِ عائدٌ
صفرَ اليدين
وخنجرٌ في الذاكرةْ
،
الرؤيةُ اتسعتْ
فضاقَ الصَّمْتُ عنْ صمتي
وَشردهُ الكلامُ
،
وعائدٌ
أمضي إلى تيهٍ يطولُ
وأنتمي لشتاتِ أعضائي
وأزهو بانكساري
،
ها هنا مطرٌ
ورملٌ هادرٌ
ويمامتانِ
وعنكبوتٌ
تنسج الخيطَ الأخيرَ
على حدود الغارِ
،
من وجعٍ يُطِلُّ على خرابِ الروحِ
أقرأُ سِفرَ أشلائي عليّْ:
عارًا نجوتُ من الحياةِ
لأحتمي في عار موتٍ لايجيءُ
وأشتهي وردَ السياجِ على ضفاف الجوعِ
في وطنٍ
بلا وطنٍ
قابيل كان يفض من جسدي يديه
يدشن المنفى غرابٌ ناعقٌ
كان المدى صفرَ المسافة بين جلادٍ وسوطٍ
فانتبهتُ على ركامٍ ينزف اللحن الأخير إلى بعيدٍ
…
خرج الغزاةُ من السرابْ
دخل الغزاةُ إلى الكتبْ
الحربُ أولُها خرابْ
والحربُ آخرُها عربْ
…
،
وخُلِقْتُ صلصالًا كفخارٍ
من سورة الرحمنِ
أنزف نون قلبي والمُثَنَّى
ثم أعبرُ برزخًا
بينَ البحارِ مَرَجتُها
نحو الجِنان بأرض فاكهةٍ ونخلٍ
والسماءُ كوردةٍ تنشق عن غضبً
فلم أُسأَل
،
وإلى بعيد لا يعودُ رحلتُ في ليلين
من شبق المسافاتِ
انفرطتُ على بعيدٍ ساقطٍ
سقطَ البعيدُ
على رصاص قريبِهِ
سقطَ البعيدُ
هناك لا ماءٌ ولا زادٌ
لأعبرَ جسرَ رُعْبٍ قد يؤدي للوطن
،
أرقٌ هو الليل القليل بجعبتي
لكنَّه شلالُ وَصلٍ بالذي لم يبق من حلم الرماد وطعنتي
،
هي صبوة العشق الُمبَرِّح والهوى
أمشاجُ طمي مُثْقَلٍ بالنار والأسرار من عبقِ الحكاياتِ التليدةِ
في ضفاف التين والزيتون
من رؤيا تراتيل الشهيقِ
أُوَدِّع وردةً سقطتْ
لأهذي
كي أراوغ وردةً كانت تُبَرعِمُ نبضَها
وسط الحطامِ
،
أرى دمي يتسلق الزنزانةَ الأولى
يطاردني
ومن مَنْفَىً إلى مَنْفَى
أرى موتي قطيعا من سوادٍ
لا بياضَ لكي أرتب في سماء اللون أغنيتي
فأشرد
كان أسودَ قُدَّ من ليلٍ يطولُ بلا نجومٍ
كان ميراثُ الهزائمِ والبهائمِ يصطفيني ديدَنًا
لأكونَ حُلْكَتَهُ
مدى من أسودٍ لا ينتهي
…
تفاحتان إذن –
طعمُ الخطيئةِ من ندوب الذكريات
وحادث الطرد القديم
إلى اندحارُ الفجرِ في غبش المسافة بين روحي والترابِ
سُدىً
كلُّ الذي ملكتْ يداي وفطنتي
هذا أنا
ما زلتُ أهذي
أو أحاولُ أن أعودَ
فلا يعودُ سوى المقاهي والعدمْ
كلُّ الأحبة هاجروا
كلُّ الصِّحابِ تبددوا في رمل صحرائي
وشتتني صهيل الخيل في أرجاء خيبتنا
،
من هامش النسيانِ
أجترُّ الفراغَ
إلى زحامٍ من خواءِ
لا أحدْ
لا
لم يكن أحدٌ
ولا وعدٌ
وتُرِكْتُ وحدي
جُثَّتي تجثو على أرجائِها
أجترُّ لاءاتي
وما اقترفَ الفؤادُ من الضجرْ
أجترني
،
وأنا يتيمُ الأرضِ
أنبأني غرابُ البينِ
أن سماءها ضجت بصرخةِ مولدي
فتمنطقتْ كفنًا
وتمدد الجسدُ المدجَّجُ بالندى والناي
شاهِدَ قبري المفتوحِ
تنهشُه الضباعُ
…
ولا أحدْ
…
سقط الحمامُ من الهديلِ
ومزقته مواكبُ السلطانِ
والسجانُ كان أعد خاتمةً
ليست تليق بركبنا
،
السجنُ ملَّ سجينه
وتقيأتْ مدنٌ
نزيفَ الذكرياتِ
ولم نكنْ
سَقَطَت سنىُّ العمر
عند الكافِ
والنونُ استقالتْ مِنْ مصائِرِنا
لم نعترفْ:
هل كان يَفْجَأُنا رذاذُ الفجرِ
في أوج الغموض المُشتَهَى؟
هل كانت تحررنا بداياتُ الخريفِ من الشَّجن؟
…
كنا صغارًا –
مثلما كان النزيفُ مفاجئًا
كنا ننام على سرير الرعبِ
نبحث في بقايا حلمنا –
إن كان حلما
عن بقايانا
ولم نبحث لعصفورٍ عن العْشِّ المُسَيَّجِ بالحنانِ
ولم نمتْ
من سهم عشقٍ
أطلقته على المَدَى قوسٌ
فلا وترٌ هناكَ
ولا كمانُ
…
ولا أحد
…
كنَّا الطريدَ وصائدَه
لا ننتمي إلا إلى الشعرِ الرديءِ
وننحني لصنيعهِ
كُنَّا غبارًا يحتفي بالريحِ
نَصَّبَنا الضجيجُ ملوكَ أوهامٍ
فلم نُولدْ سوى لحظاتِ فتنتنا
وأَسْلَمَنَا الركامُ إلى ركامٍ
أدركتنا ساعةُ الموتِ الحثيثِ
ولم نرَه
…
تيهٌ إلى تيهٍ ومثليَ تائهُ
ودمٌ يتيهُ وقاتلٌ يتألهُ
جُهدُ الصبابةِ أن أكونَ كما أنا
روحٌ مُسَهَّدَةٌ وقلبٌ أبلهُ*
…
أنشودتانِ
ليلكةٌ تُمَرِّغُ في الحضور غِيابَها
وسماءُ أغنيةٍ تُخَضِّبُ بالدمِ القاني حدودَ القمحِ والحناءِ
من مطرٍ
وليلٍ صاخبٍ بالصمتِ
لا أحدٌ هناكَ
…
ولا هنا
…
مطرٌ
ونافذةٌ
وليلٌ مُسْدَلٌ غضبًا
،
زنزانتانِ:
الموتُ غولٌ
والحياةُ رديفُهُ
…
ماذا يَشُدُّ الروحَ للطين المراوغ؟
ينثرُ المِلحَ المُلِحَّ على جروحي؟
…
أرجوحتانِ
على نشيجٍ هائلٍ
قمرٌ يطلُّ على شظايا الذَّاتِ من شُبَّاكِ لوعتِهِ،
ونايٌّ يَسرِقُ الصفصافَ من شَجَن الضِّفافِ
أنا انحنيت إلى حنين ترابها
صدقت كلَّ مُسوخِها
…
اللحنُ صمتٌ مُبْهَمٌ
والنايُّ عنقاءٌ وتُغْرِبُ
ثُمَّ تُنْشِبُ
في القبورِ نَشِيجَهَا
،
أمضي وحيدًا
مثلما كانتْ بداياتي
فأُبصِرُني على النارِ الأَجيرَةِ
جمرةً من بَرْدِها وسَلامِها
…
خفقٌ
وأسقط حذو هاويتي حصارًا
لا أرى إلا عظامَ رميمها صخبًا
وأكفانًا لِأحياءٍ
ولا
لم أعترفْ
كان الدُجَى صَوتي
وقلبي كان بابًا
للمُتَيَّم والمُنَوَّمِ والُمَغِّيبِ والشريد
كان الوَباءُ مُقَدَّسا
كان الهلاكُ مُهَنْدَسًا
ليغيب أجملُنا
وَتَنْحَسِرَ المسافةُ بينَ جلادٍ وطاغيةٍ
فلا أحدٌ يقول الآن لا
…
مَلِكٌ هو المَلِكُ المُتَوَّجِ بالكذبْ
مَلِكٌ هو الملك المُزَيَّن بالنياشينِ الصديئةِ والرُّتبْ
مَلِكٌ وكل كلابه تلهو بنهش لحومنا ثم الغضبْ
…
والآن هذا الموتُ موتٌ
سامقٌ
لا يشتهي شيئا
ويأخذ ما يريدُ ولا يريدُ
وينتهي
كي يبتدي
يلهو بليلٍ واضحِ
ودَبِيْبُه زهرٌ
يحاول أن يُغطي بَطْشَ رائحةٍ تُلِحُّ
بلا غموضٍ أو عناءٍ
شاعرٌ
يلهو بِمُعْجَمِهِ
ليكتبَ ما يشاءُ
ومن يشاءُ
ولا يحنُّ إلى حنينٍ
ساخرٌ
لا يحمل اسمًا
مِنْ أَحِبَّتِهِ الخروجُ على الخروجِ
وسَيِّدٌ
لا ينحني
لا ينتشي بسؤالنا
…
سافَرْتُ من تيهي إلى طَلَلَ الغِنَاءِ
سَئِمتُ كلَّ قصائدِ الأوطانِ
من بلدٍ يَحِنُّ على الغريبِ
إلى غريبٍ لا يحنُّ إلى بلدْ
ناديتُ من بريتي:
أحتاجُ أنْ أحتاجَ
لا يحتاجني أحدٌ
أريدُ الموتَ
،
فربما في الموت مُتَّسَعٌ لأنسى
ما كَتَبْتُ وما كُتِبْتُ ومن أكونُ
وربما في الموت مُتَّسَعٌ
لِأُصلحَ ما تبقى من حياةٍ لم تكن لي
ناديتُ من بريتي:
يا موتُ
كن لسفينتي رُبَّانَها
ليلُ العماءاتِ استطالَ
ودَشَّنَتْهُ مواكِبُ الغُلمانِ والشُّطَّارِ
من شَبَقِ العمائمِ للزخارفِ
واتكاءٌ للخرابِ على الخرابِ
ومرمداتٌ للعيونِ
بلادةٌ
وأنا أشتاق مَجْمَرَةَ انتباهٍ تحتويني
،
خُصني بالموتِ يا موتي
وَكُنْ وَطَنًا
كي أرتمي في حضن أكفاني
وكن تاريخي المجنون
كي أعتاد قيدي والدمَ الآتي كشلالٍ
وأعرفَ من أنا
كن أنتَ أنتَ لكي أكونَ
وينتهي هذا الغناءُ الُمُرُّ
كُنْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تنويع على بيتي المتنبي
أَرَقٌ عَلى أَرَقٍ وَمِثلِيَ يَأرَقُ
وَجَوىً يَزيدُ وَعَبرَةٌ تَتَرَقرَقُ
جُهدُ الصَبابَةِ أَن تَكونَ كَما أَرى
عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلبٌ يَخفِقُ
Patriciat
Great job on this article! The author’s perspective was quite refreshing. I found myself thinking about it long after reading. What did you all find most compelling?