انتبه إلى نظراتها المرسلة إليه، نظرات حارّة فيهن مناداة وصخب، تلفّت حوله استطلع وجوه الرّكاب، فتيقّن أنّ نظراتها لا تقصد سواه.. فأخذ يبادلها النظرات من مكانه.
كانت جالسة على المقعد، لا تفصله عنها سوى بضعة مقاعد، وشعر بأنّها تبتسم له، فأراد أن يردّ على ابتسامتها، حتّى يجعلها تفهم أنّه فهم مغزى نظراتها وابتساماتها، وأراد أن يتقدّم نحوها، لكنّ الزّحام الشّديد منعه من التّحرك، رجال ونساء وأطفال وأمتعة، تقف متراصة في طريقه.. فقرّر أن ينتظر الفرصة السّانحة، حتّى يهرع إلى كرسيها، ويقف بالقرب منها يتبادل النّظرات معها عن كثب، ويطلب منها النّزول.
تلمّس جيبه، وقال في سرّهِ:
– النقود تكفي.. أستطيع أن أدعوها إلى أيّ مكان تختاره.
وعاد ليتمعّن بها من جديد، فوجدها كببرة عليه، فهو يصلح أن يكون من سنّ أولادها:
– لو كانت أصغر من هذا السّن، لكنتُ أخذتها إلى السّينما، وهناك عندما تنطفئ الأنوار يبدأ عملي.
هكذا كان يفكّر، وفجأة داهمه إحساس بأنّه يعرف هذه المرأة!!.. فوجهها ليس غريباً عليه.. وأخذ يتذكّر.
ولكن فكرة انبثقت في رأسه، جعلته ينسى حكاية شكلها المألوف:
– نعم.. ماذا لو أخذتها إلى العمارة، التي أعمل بها مع والدي؟.. أغافل الحارس، وأتسلّل بحذر برفقتها إلى الملجأ.
لا.. لا.. المكان غير مناسب، فالملجأ مليء الأحجار والأتربة
والأفظع من كلّ هذا، أنّ العمال لا يقضون حاجاتهم إلّا في هذا المكان، البعيد عن الأنطار.
إذاً.. أين ينبغي عليه أن يأخذ هذه المرأة، التي لم تحوّل نطراتها عنه، طوال الطريق؟.
هل يعرض على الحارس (حسن) أن يسمح له بغرفته بعض الوقت؟.. (فحسن) يملك فراشاً على الأقل، وإن كان هذا الفراش حقيراً ووسخاً، سيحتمل روائح الغرفة الكريهة بعض الوقت ، وإلّا إلى أين سيذهبان؟.. لا مكان آخر يمكنه أخذها إليه.
– فكرة أن أذهب معها إلى بيتها مرفوضة بالتأكيد، لأنّي أخاف من مكائد جنس حوّاء، فربما كان لهذه المرأة هدف آخر من اصطحابها لي..نحن اليوم في مدينة(حلب) وفي (حلب) لا أمان، وخاصة من النساء.. لن أذهب معها إن عرضت عليّ ،حتّى وإن اضطررتُ لتركها، فإن شاءت ذهبت معي، وإلّا فهي حرّة.
وتساءل إن كان (حسن) يقبل أن يعطيه غرفته بعض الوقت؟.. أليس من الجائز أن يخبر والده، ويسبب له فضيحة ليست في الخاطر؟.
– سأقنعه.. سأدفع له نقوداً، وإن أراد، فلا مانع عندي أن يشاركني على صاحبتي، ماذا سأخسر؟. إن سمحت له،أن يشاركني عليها!!..هل هي زوجتي
؟.. هي مجرد عاهرة لا أكثر، ولكن.. سأشترط عليه، أن لا يلمسها قبلي، لأنّي أنا الذي اصطدتها، في البداية سأتمسّك بموقفي، حتى إن وجدته مصمّماً، على أن يسبقني، وهو سيفعل بالتأكيد، لأنّه أكبر منّي في العمر، وهو خنزير وأنا أعرفه حق المعرفة، أقول إن صمّم، فلن يكون بوسعي أن أفعل معه شيئاً، لأنّي اليوم بحاجته، ثمّ ماذا يضير إن كنتُ صاحب الدور الثاني؟!.. المهم لن أدع هذه الصّيدة تفلت منّي.
وتذكر (سامح) ابن عمه، الذي لا تعجبه فوضى (رضوان)، فقال:
– فالتنعم أنت يا(سامح) في دراستك، التي جعلتك لا تعرف من الدنيا شيئاً غيرها، فهنيئاً لك بكتبك، وهنيئاً لأمّك (أمُّ عص) بهده الدراسة التي فرضتها على والدي، يوم وافقت على الزواج منه.. أمّا أنا فهنيئاً لي بهذه المرأة،
التي أشبعتني نظرات وابتسامات.
وكان كلّما أكّد بوجهها، تضاعف شعوره بأنّها ليست غريبة عنه، ولكنّه لا يذكر أين ومتى رآها؟!.
وتوقفت الحافلة، عند موقف
(باب الحديد) وعلى الفور نهضت المرأة تريد النزول، فأسرع (رضوان) ليهبط من الباب الثاني، قبل أن يفقدها.
قفز فوق الرصيف، تلفّت حوله يبحث عنها، فوجدها على بعد خطوات، تقف وتنظر إليه، تحرّك نحوها، شاعراً باضطراب شديد، فهو لأوّل مرة في حياته، يتعرّض لمثل هذا الموقف.
وصل إليها وهو يرتعش، لذلك كان ينظر إلى الأرض، لأنّه شعر بعدم قدرته على النّظر في عينيها عن كثب…وفجأة
كلّمته:
– إلى أين كنت ذاهباً؟.
رفع رأسه قليلاً، هذا الصّوت ليس غريباً عليه!!.. وكانت دهشته كبيرة، غير متوقعة!!!!.. فصرخ مذعوراً، دون أن ينتبه، وقد اعتلى وجهه الخوف والشحوب:
– أنتِ..؟!؟!.. غير معقول!!!.
– ومن كنت تظنني طوال الطّريق؟!
رد بتلعثم وارتباك شديدين:
– ظننتكِ…ظننتكِ..
وتحجّر لسانه.. واختنقت عباراته..فما كان منه.. سوى أن يطلق ساقيه للهروب.. ركض.. تلفّت.. ارتطم بالمارة.. وأمه مندهشة..مماأصاب ابنها(رضوان)
وكانت تنادي خلفه:
– تعال يا بني.. ساعدني بشراء الخضار.