لا يبدو هذا الكتاب، كما يشي به العنوان للوهلة الأولى، كتاباً في النقد الأدبي أو في الدراسات الجمالية والفنية، وإنما كتابٌ بأصالة الدراسات الفكرية التي تنتمي إلى عالم الاقتصاد والمجتمع. فهو يبحث عن موقع الجمهور، وربما عن القيمة التي يشكلها في المعادلة التي يسيطر الإعلام ووسائل الاتصال وتقنيات نقل المعلومات والبيانات، على أحد طرفيها. عن طريق محاولة الإجابة عن عدَّة أسئلة، تبين الملامح الأساسية للبحث.
يمهد الكاتب للبحث، بتقريب فكرة الغزو الثقافي والتكنولوجي، وتشبيهه بغزو الوندال والقوط، وإعطاء تصورات عن مستقبل أدواته بين اللزوم الاقتصادي، واستلاب المتلقي، ويؤكد أن التنافس في إقناع المتلقي هو أساس تطور هذه الوسائل، فتتحول الجريدة، مثلاً، إلى رزمةٍ من المعلومات الموثوقة، ومصدراً تعاقديا لمجموعةٍ من الصحفيين والمثقفين ورسامي الكاريكاتير، بعد أن كانت حبراً على ورقٍ.
- د. مراد حسن فطوم يكتب: القارئ في النص مقالات في الجمهور والتأويل.
- د. مراد حسن فطوم يكتبـــ: الموازنة في النقد العربي.
ثم يوطئ للبحث، في المقدمة، بإجراء مقاربةٍ بين بعض المصطلحات، والتعابير، كمصطلح (المجتمع ما بعد الصناعي) و(عصر المعلومات)، ويعدد العناصر الأساسية للمجتمع ما بعد الصناعي، ويحدد سماته، ويوضح أن هذه الدراسة استمرارٌ لجهودٍ أسبق في محاولة فهم الديناميكية المعقدة للاتصالات بين النخب السياسية وجمهور المواطنين، والبطل في هذا العمل هو تكنولوجيا الاتصالات.
كما يسلط الضوء على النتائج الاجتماعية لوسائل الإعلام الجديدة. ويوضح أن منهج البحث المناسب يعتمد على البحث عن نظريةٍ تتعلق بالكيفية التي تؤثر بها مؤسسات الاتصالات على الحياة السياسية والاجتماعية ويرى أن هذه النظرية موجودةٌ، وهي تنتمي إلى الخمسينيات والستينيات، وهي نظرية المجتمع الجماهيري.
يقسم الكاتب بحثه إلى ستة فصول وهي:
– نظريتان من ثورة الاتصالات.
– منطق التكامل الإلكتروني.
– سيكولوجيا استعمال وسائل الإعلام.
– تمزيق الجمهور المتلقي.
– الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام.
– مستقبل الجمهور المتلقي.
في البداية يقدم الكاتب لمرحلة ما بعد الحرب الثانية، ولتصورات علماء الاجتماع الذين كانوا يحاولون فهم أدوار وسائل الاتصالات، في الحفاظ على مجتمعاتٍ كبيرةٍ متنوعةٍ، فقد أدت جهود الحرب الثانية إلى تكنولوجيا هائلةٍ في مجال الصواريخ، والطاقة الذرية، واللاسلكي ذو التردد العالي، والحواسيب الإلكترونية، وتلك التقنيات كانت ستلعب أدواراً هامةً في تحديد سمة العقود التالية. ويشير إلى أن الكتاب يناقش تأثير تلك الثورة في تقنيات الاتصالات على الحياة العامة والثقافية والسياسية، ثم يعرض لرأيين متعارضين عن المستقبل التكنولوجي، وهما الرأيان اللذان طُرحا عند نهاية الحرب الثانية، هذان الرأيان يكادان يكملان بعضهما بعضاً.
– نظرية المجتمع الجماهيري وأخطار الدعاية، التي يناقشها من خلال رواية جورج أورويل(1984) عن التكنولوجيا المستقبلية وقدرة النظام الاجتماعي المضبوط من قبل الحكومة على فرض نمطٍ واحدٍ من التفكير على كل المواطنين، إذ يتميز المجتمع الجماهيري بالتجانس بين جمهور المواطنين وضعف الحياة الجماعية والعلاقات المتبادلة.
– النظرية الديمقراطية والوعد بتعددية سياسية، ويناقشها من خلال تصور فانفر بوش عن ال(ميمكس) Memex، وهي رؤيةٌ متفائلةٌ صاغها عام 1945 عما سيتمخض بعد أبعين سنةً فيما نعرفه بالكومبيوتر الشخصي، بحيث يمكن الوصول بسرعةٍ إلى أيّة مكتبةٍ عن طريق هذه الأداة، التي تمثل امتداداً للعقل الإنساني، ويناقش دور الاتصالات في نشوء دولة التعددية الديمقراطية الحديثة، عن طريق وفرة المعلومات وتنوعها والمشاركة العامة في العملية السياسية، على جملةٍ من البحوث في السياسات المقارنة والتطور السياسي. والنتيجة هي أن مستقبل الجمهور المتلقي سيكون في نقطةٍ ما بين تصور أورويل عن العبودية، وتصور بوش الذي ركز على الإمكانية التحررية للتقنيات الجديدة، أي ثورة صناعية ثانية لها من الأهمية ما للثورة الأولى. ولتحديد هذه النقطة يجب تفحّص القوى الاجتماعية والتكنولوجية التي تشكل نقطة التوتر.
هذا الكتاب يركز بشكل خاص على ثلاثة قوى؛ القوة الأولى المسماة(ثورة الاتصالات) تمثل اندفاعة المعلومات الجديدة وتقنيات الاتصال، هذا ما يطرحه الفصل الثاني بشكلٍ أساسيٍ؛ إن الكومبيوتر الشخصي، وأنظمة الاتصال الإلكترونية المتطورة، تحمل إمكانية إعطاء الأفراد قوى لم يسبق لها مثيل في الوصول إلى المعلومات ومعالجتها.
القوة الثانية هي الثقافة الموروثة في سلوك الاتصالات الجماهيرية والسيكولوجية والاجتماعية المرتبطة باستعمال وسائل الإعلام، وهذه القوة هي موضوع الفصل الثالث، وتعمل بشكلٍ معاكسٍ للاندفاعة التحررية الكامنة في التكنولوجيا الجديدة؛ فحالما تعمل تقنيات المعلومات الناشئة على جعل الأشكال الجديدة من التربية والتفسير والمشاركة العامة ممكنةً، تقوم العادات الراسخة المتعلقة باستعمال وسائل الإعلام بما فيها من سلبيةٍ وخمولٍ بكبح هذه الإمكانية.
القوة الثالثة هي الاقتصاد والسياسة لصناعة وسائل الاتصال الجماهيري في أمريكا، وهذا ما سيتم تحليله في الفصلين الرابع والخامس، هذا أيضاً يحدد اندفاعة التكنولوجيا بأشكالٍ جوهريةٍ وهذه القوة تمثل مركَّباً من التقاليد التشريعية وديناميكيات الاقتصاد المتعلقة ببيع المعلومات والتسلية من أجل الربح.
أما منطق التكامل الإلكتروني، فيستعرض الخصائص الأساسية للوسائل الجديدة، من خلال دراسة تأثير الحجم المتزايد للمعلومات المتدفقة ثم يبدأ بتحليل الكيفية التي يحتمل أن تتفاعل بها كل أداة جديدة مع القوى الدافعة نحو وبعيداً عن السيطرة المركزية المتزايدة.
وفي سيكولوجيا استعمال وسائل الإعلام، يصل إلى أن المشاهد سلبي وإيجابي في آن واحدٍ، فالعقل يبدو وكأنه يأخذ المعلومات والأفكار والانطباعات الجديدة ثم يقوِّمها ويفسرها على ضوء قالبٍ معرفيٍّ مسبقٍ، ومعلوماتٍ متراكمةٍ من خبرات الماضي. أما البحوث المتراكمة على مدى عقودٍ تؤكد أن الفرد العادي من الجمهور يعطي قليلاً من الانتباه نسبياً، ويتذكر جزءاً صغيراً فقط، وأنه لا يحتمل أدنى زيادة من تدفق المعلومات، أو الخيارات المتوفرة من الوسائل أو الرسائل.
أما فصل تمزيق الجمهور المتلقي فهو مبنيٌّ على فرضية تنوع الاهتمامات والأذواق وهكذا يصاب الجمهور بالإحباط نتيجة عمليات التوحيد والمجانسة التي تقوم بها القنوات الإلكترونية الناقلة للنص المكتوب والصور المرئية، كما يعتقد أنها تخدم في نهاية الأمر صناعة وسائل الإعلام.
في فصل الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام يؤكد أن الاستثمارات الكبيرة تميل إلى إنتاج وتوزيع المعلومات أكثر من معظم السلع الاستهلاكية الأخرى، وهذا الفصل يتابع إستراتيجية تحليل القوى التي يحتمل أن تشكل وسائل الإعلام الجديدة من خلال تركيز الضوء على الخصائص البنيوية لنظام الوسائل الإعلامية الأمريكية الراهنة.
وفي الفصل الأخير يرى مستقبل الجمهور المتلقي من خلال تموضعه بين ثنائية الطاغوت التكنولوجي المتمثل بوسائل الإعلام، فمن جهة تفرض هذه التقنيات تهديداً مشؤوماً للخصوصية الفردية وتقدم أداةً مغريةً لاستقلال عامة الجمهور الذي لاحول له ولا قوة، ومن جهة أخرى يعطي فرصاً لم يسبق أن وجد لها مثيلٌ للمشاركة الإلكترونية، التعليم والاتصال.
فالكتاب إذن هو دراسةٌ لمستقبل الجمهور المتشظي، تحت أتون تقنيات الاتصال، من قنوات متعددة سريعة الوصول، وشبكاتٍ بتفوقٍ يكمل الدماغ الإنساني في وفرة المعلومات وسرعة معالجتها، إضافةً للوسائل التقليدية، وهو كتاب هام فيما يقدمه من طرائق لتحليل هذه المعطيات، التي تثير تساؤلاتٍ شديدة الأهمية في الوقت الراهن.
والنتيجة الخالصة كما يقول مؤلف الكتاب، هي أنه على الرغم من أن وسائل الجديدة توفر إمكانية نشوء أشكالٍ جديدةٍ من الاتصال الثقافي والسياسي، فالأرجح أنها لن تستعمل بهذه الطريقة بشكلٍ رئيسيٍ. ومثل هذه القصص ليست جديدةً في تاريخ التكنولوجيا، ولكن مادامت ثورة الاتصالات في حالة تقدم، فمن الهام بشكلٍ خاصٍ أن نحاول فهم الكيفية التي تحتمل أن تؤثر فيها ديناميكيات التكنولوجيا والمجتمع على حياتنا، وبالتالي كيف يمكن أن نحاول التأثير عليها.
الكتاب جاء في مئتين وسبعٍ وسبعين صفحةً وهو من منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية عام 1996.