تأتي أهمية الموازنة كقضيةٍ نقديةٍ، من حقيقةٍ أن ما من قارئٍ للشعر إلا ويقوم بعملية المفاضلة والموازنة بين ما يقرؤه وبين ما تختزنه ذاكرته الأدبية، بالإضافة إلى كونها من القضايا الأدبية التي امتاز بها النقد العربي القديم، فأخذت مكاناً بارزاً فيه، وانطلاقاً من أهمية هذه القضية، يضع الدكتور حمود يونس كتابه “لموازنة في النقد العربي حتى القرن الخامس الهجري“، ويتسم الكتاب كغيره من الكتب التي تعنى بالنقد القديم، بأنه يحيط بجميع جوانب النقد العربي القديم، ويسلط الضوء عليها، ويقرؤها قراءةً مختلفةً عما أتى قبله، ليضع حلقةً في السلسلة التي تهدف إلى الكشف عن أهم مقولات النقد الأدبي عند العرب، بالإضافة إلى أنها دراسة مطولة زمنياً، أغنت أطراف القضية بالبحث والتدقيق مع الكشف عن التطور التاريخي الذي لحق قضية الموازنة الأدبية، إذ تشير المؤلفات النقدية القديمة، وكتب تأريخ الأدب العربي، إلى أن البدايات الأولى للنقد الأدبي عند العرب، نشأت كموازنات أدبية عفوية بين الشعراء، ولعلها كانت انعكاساً لظواهر العصبية في نظامهم الاجتماعي، إذ إنهم، كما نعلم، كانوا يتفاخرون بشعرائهم، ويتفاءلون بولادة الشاعر في قبائلهم. فأسواق الشعر كانت تعقد بها تلك المفاضلات، والمؤلفات النقدية القديمة، كانت تزخر بها، مثل كتب الطبقات، والمنتخبات. والموازنة بين الشعراء هو عمل لا يختص به نقاد الأدب فحسب، لأنه يمثل مرحلة بدائية من مراحل الحكم التقويمي الجمالي بين الشعراء، وهو غالباً ما يتبع الذوق الفردي، ويقوم به كل القراء. ويتحدث غير كتابٍ، عن الأحكام الجمالية التقويمية بين الشعراء، والتي قام بها أعلامٌ لا يجمعون صفات الناقد، كالحكومة التي أجراها النابغة بين الخنساء وحسان بن ثابت، فقد كان لنابغة بني ذبيان خيمة بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء، وينشدونه أشعارهم. والموازنة بين عبده بن الطبيب وامرئ القيس، التي حكمت فيها زوجة امرئ القيس لقصيدة عبده في وصف الخيل. غير أن هذه القضية قد تطورت مع تطور النقد العربي في الأزمنة الأدبية المتلاحقة.
وقد أذكت نار الموازنات تلك، قضايا ذات أهمية في النقد منها ظهور شعراء النقائض و ظهور الشعراء المجددين، وبزوغ المعارك النقدية، مثل المعركة التي دارت حول إرجاع الجودة للفظ أم للمعنى، وبين أنصار الطبع والصنعة، أو بين أصحاب عمود الشعر ومذهب البديع، وتعد الموازنة وهي جزء من منهج المفاضلة بين الشعراء، الشكل التطبيقي للنقد الذي يهدف إلى التقويم والحكم على أعمال النقاد، وما يميز هذه القضية أن أكثر النقاد في التاريخ العربي قد وازنوا بين الشعراء، وهذا ما أدى بموازناتهم التي كانت تعتمد معايير ذوقية، لأن تذهب باتجاه التعليل.
ومن أهم النقاد الذين قاموا بالموازنات في كتبهم النقدية أبو بكر الصولي في كتابيه أخبار أبي تمام وأخبار البحتري، وتلك الموازنة تضع أبا تمام على قمة الهرم الشعري في عصره. ويشكل الآمدي علامةً واضحةً في اهتمام النقاد بقضية الموازنة بين الشعراء، ولاسيما أن كتابه النقدي حمل اسم “الموازنة بين الطائيين“، ومن جانبٍ آخر، فقد حاول أن يضع منهجاً للموازنة بين أبي تمام والبحتري. وقد كان منهج الآمدي في موازنته بين أبي تمام معتمداً بشكلٍ رئيسيي، على تصنيف كل ما قالاه في معنى من المعاني، ثم إصدار الحكم. أما القاضي الجرجاني فهو يعتمد مبدأ المقايسة في مقارناته بين المتنبي وغيره من الشعراء.
- اتحاد كتاب وأدباء الإمارات يعيد إحياء جائزة غانم غباش للقصة القصيرة للكتاب الإماراتيين.
- سمية الإسماعيل تكتبـــ: قراءة لقصة (قطيع) لفريال قاصم.
وقد ابتدأ الدكتور حمود كتابه بدراسة المصطلح، مبيناً الفارق بين عدّة مصطلحات أشارت إلى معانٍ متقاربة، كالترجيح، والمفاضلة، والمقايسة، والمقارنة، وقد جعل كتابه في بابين، الباب الأول تحدث فيه عن المؤثرات الموضوعية والفنية في الموازنة، وقد اشتمل على أربعة فصول، جعل الفصل الأول منه لدراسة الأثر الديني والخلقي في الموازنة، أما الفصل الثاني فقد تضمن البحث في الموازنة وقضية إعجاز القرآن، مشيراً إلى الموازنات التي عقدت بين القرآن الكريم وبين النثر والشعر، وفي الفصل الثالث تحدث عن الأثر العقلي للموازنة، موضحاً ذلك بما جاء في نقد بعض النقاد مثل ابن طباطبا العلوي، والمبرد، والتوحيدي، والمرزوقي، وابن رشيق، وقد ترك الفصل الرابع للحديث عن الأثر الفني في الموازنة، فجاء شرحاً لمكونات النص الفنية من طباق وجناس وصحة تقسيم وتتميم وحسن الابتداء وحسن الخروج والترصيع والتصريع والتكرار، أما الباب الثاني من الكتاب فقد درس فيه المؤلف العلاقة بين الموازنة وقضايا النقد الأدبي القديم، فكان الفصل الأول بين الموازنة وعمود الشعر، والفصل الثاني بين الموازنة وقضية اللفظ والمعنى، والفصل الثالث بين الموازنة والسرقات الشعرية، أما الفصل الرابع فجعله للمقاييس النقدية في الموازنة، كالقدم والحداثة، والطبع والصنعة، والأغراض الشعرية، وسيرورة الشعر، والأبيات المقلدة، والسبق الزمني، والحسن والجودة … ثم يختصر كل ما جاء فيه مع نتائج بحثه في الخاتمة. فكتاب الموازنة في النقد العربي، يغني المكتبة الأدبية، عبر شموله أغلب قضايا النقد العربي القديم في صلتها مع الموازنات الأدبية، كما أنه يشكل مرجعاً هاماً للباحث فيه، إذ إنه يحلل الواقع النقدي والأدبي القديم، في فترة نشوئه مروراً بمرحلة تمايزه وافتراقه عن الدراسات البلاغية واللغوية، ثم وصوله مرحلة النضج.