رغم أن كتاب “نظرية التلقي” تأليف روبيرت هولب وترجمة الدكتور عزالدين إسماعيل، ما يزال الكتاب الأهم لكل القراء والباحثين في هذه النظرية، إلا أنه لم يعد الكتاب الوحيد المترجم إلى اللغة العربية، من الكتب التي تعمل على إضاءة أهم الجوانب في نظرية التلقي، وتبين آليات القراءة، القائمة على جدلية العلاقة بين القارئ والنص.
فقد تلا ذلك الكتاب مجموعة من الترجمات لأهم المؤلفات المتعلقة بتلك النظرية النقدية، والمدونة بأقلام أهم الأعلام المنظرين لها من أساتذة مدرسة كونستانس الألمانية، وغيرهم من النقاد؛ وأهمها كتاب (فعل القراءة، لفولفغانج إيزر، ترجمة عبد الوهاب علوب)، وكتاب (جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص، لهانز روبيرت ياوس، ترجمة رشيد بن حدو)، وكتاب (في نظرية التلقي، وهو مجموعة مقالات لجان ستاروبنسكي، ايف شفريل، دانييل هنري باجو، ترجمة د. غسان السيد)، وكتاب (بحوث في القراءات والتلقي، لفيرناند هالين، فرانك شوبرفيجن، ميشيل أوتان، ترجمة محمد خير البقاعي)، بالإضافة إلى بعض الكتب والبحوث المؤلفة باللغة العربية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، كتاب (الأصول المعرفية لنظرية التلقي، لناظم عودة خضر)، وكتاب (قراءة النص وجمالية التلقي، لمحمود عباس عبد الواحد، وهو دراسة مقارنة).
وقد نشأت نظرية التلقي، في النصف الثاني من القرن الماضي في ألمانيا، على يد كتَّاب مدرسة كونستانس النقدية، بزعامة هانز روبيرت ياوس، وفولفغانج أيزر، وقد أتت تلك النظرية، كنتيجة طبيعة للتطور الناتج عن اهتمام النقد الغربي، المضطرد بأطراف العملية الإبداعية (المبدع، النص، المتلقي). ولكن هذه المرة كان التركيز على المتلقي، كمحور أساسي في تلك العملية، من حيث أنه الأساس والغاية لها، وعليه تقوم مسؤولية إكمالها، بالوعي والفهم، وكشف المعنى بالتفسير والتأويل والبحث عنه في المكتوب والمسكوت عنه في النص، بالإضافة إلى الفعل الجمالي المتمم بتذوقه للنص. ويبدأ القارئ فعله في العملية الأدبية، حسب النظرية، ابتداءً من اللحظة التي يبدأ فيها المبدع في الكتابة، إذ يمارس دوره، كنشاط معرفي وثقافي تراكمي، نتيجة آفاق الانتظار المتكونة في الحمهور المتلقي، ويسمى عندئذٍ (القارئ الضمني). ثم يتجلى في النص، من خلال غائية الوجود، فالنص الأدبي رسالة موجهة، تمارس وظيفة إيصالية، بما تمتلكه اللغة من طاقة إبلاغية في شفراتها. ويتجلى الحضور الأهم المتلقي، في قراءته للنص، والتي تكتمل خلالها العملية، وهنا يبدأ الدور الإيجابي للمتلقي في مشاركته في إنتاج النص، مع تنوع عمليات الفهم والتفسير، أو ما يسمى تعدد القراءات. والقراءة هنا هي عملية تفاعل بين القارئ والنص، يبحث القارئ فيها عن المسكوت عنه، والخبيء المتواري، خلف مكوناته، عن طريق فك الشفرات، وملء الفراغات بالمعنى. وآلية التلقي مختلفة من قارئٍ لآخر، فهي عملية ذهنية مركبة، يضع إيزر وياوس أهم قواعدها، وأهم مصطلحاتها، (القارئ الضمني، أفق التوقع، كسر أفق التوقع، ملء الفراغات، وجهة النظر الجوّالة، الإستراتيجيات) وتستقي نظرية التلقي أسسها من مكونات سابقة، أهمها، الفلسفة الظاهراتية (هوسرل وإنجاردن)، ومدرسة الشكلانيين الروس، وبنيوية براغ، والهرمنيوطيقيا (هانز جورج جادامر)، والمدرسة السوسيولوجية في النقد.
وقد خرج النقد الحديث عن المقولات البلاغية القديمة، وأصبحت، حتى المناهج التي تعنى بالنص بشكل أساسي، تعطي أهمية لشروط الإنتاج وأدوات التلقي، وهذا ما مهّد لظهور فرضيات القراءة بشكلٍ مضطرد. فبعد أن أصبحت ثلاثية (المرسل- الرسالة- المرسل إليه)، أو (المبدع- النص- المتلقي) مسيطرةً، كعلامةٍ دالَّةٍ في عملية النقد، ومنارةً توجّه بوصلته، نشطت فرضيات القراءة. وهنا يجب أن يبرز العامل الأيديولوجي الذي قاد إلى اهتمام النقد بالعمل الفردي، والذاتي لمواجهة النص الفني والأدبي، وذلك أن طغيان الاستبداد النقدي، الذي غاص في مكونات النص، من جانبٍ، والاستبداد المعرفي الذي ينظر إلى كل عمليات الإنتاج من جانب اجتماعي جماعي، بأدوات جاهزة موجهة باتجاه نفعي، مغفلاً ذاتية الفرد؛ أدّيا إلى ظهور هذه النظرية وقوامها الأساسي البحث عن مكانة الفرد في عمليات التذوق والفهم.
إن اهتمام نظرية التلقي، بالمتلقي كأهم عنصر بين عناصر العمل الإبداعي، يكمل ذلك العمل، تتجه إلى وضع النصوص في سياقها التاريخي، في كل زمنٍ يختلف قراؤه، وتتنوع مداركه وأدواته، وتذهب بعيداً عن الأحادية في تفسير الشفرات الداخلية وآليات البناء النّصية، لتجعلها عملية تفاعل مع القارئ، وترفض التفسير الطبقي الذي يعبر عن نظرة ضيقة، تحيد بالأدب عن جوهره وتضعه في لبوس نفعي وغائية ثورية؛ إنما تضع القارئ من جديد في مكانه، مستخدماً العمليات الذهنية والذوقية، المحدودة بتاريخ القراءة.
كل ذلك يوطَّئ للحديث عن كتاب (القارئ في النص، تحرير سوزان روبين سليمان و إنجي كروسمان، ترجمة د. حسن ناظم، علي حاكم صالح)، وهو كتاب يكمل ما سبقه لأنه يؤكد على دور القارئ كحدث وفعل ثقافي ومعرفي في النص، وهنا القارئ يحيل إلى الجمهور من جانب، وإلى القارئ- بالمعنى المعرفي وليس القارئ الحقيقي- وهو الذي يحدد الخطوط التي توجه العمل الأدبي.
والكتاب، هو مجموعة من المقالات المؤلفة حديثاً لتوضيح الفكرة وتعضَّد فهم آليات التلقي، والدور الذي يقوم به القارئ في العملية الإبداعية، ويشكل مرجعيِّةً مهمةً لكل باحث في التلقي ودور القارئ. وتأتي أهمية الكتاب من عدة جوانب، أهمها:
إن كتاب المقالات يمتدون على رقعة فكرية، وجغرافية، واسعة، فهم يمثلون “جمهرة من النقود البلاغية، والسيميائية، والبنيوية، والظاهراتية، والتحليلنفسية، والاجتماعية والتاريخية، وحيوية هذه الجمهرة تؤكد على أن الأبعاد المختلفة للتحليل والتأويل ممكنة، من خلال تداخل الرؤى النقدية، في عمليتي التذوق والفهم. والمقالات التي تلي المدخل نظمت بطريقة تتجه إلى الخاص باطراد، مبتدئةً من البيانات النظرية الواسعة عن قراءات الأعمال الفردية التي تنتمي إلى آداب قومية مختلفة، وأنواع أدبية، وحقب مختلفة. ومع ذلك، فقد وضعت حتى المقالات الأكثر تخصصاً ضمن إطارٍ نظريٍ، أما المقالات العامة فقد نوهت على نحو راسخ بالأعمال الخاصة”.
الجانب الآخر يتمثل في التنوع الذي تتأسس عليه المقالات، فهي تبدأ بالجانب التنظيري التأسيسي الذي يوضح للقارئ- غبر المطَّلع على أسس النظرية- أهم مكوناتها، ومنها: مقالة التفاعل بين النص والقارئ لفولفغانج أيزر، ومقدمات لنظرية في التلقي لجوناثان كلر، بالإضافة إلى المقدمة الطويلة لسوزان روبين سليمان والمعنونة بـ (تنوعات النقد الموجه إلى الجمهور). وتكمل الدراسات التطبيقية، في الكتاب، محاور الدرس النظري، ومن تلك الدراسات، نظرية في قراءة الرواية الجديدة وتطبيقها: رواية روب غرييه: طوبولوجيا مدينة وهمية، لفيكي مستاكو.
ومن أهم ما يجعل الكتاب مرجعاً مهماً في هذا السياق، هو أنه يقدم نظرات تتعلق بالقارئ في النص، تصدر عن منهجيات نقدية مختلفة، كالنقد الاجتماعي (نحو علم اجتماع للقراءة لجاك لنهاردن). والنقد البنيوي (القراءة بناء لتزفيتان تودوروف). والنظرية الأنثروبولوجية (جدلية الاستعارة: مقالة أنثروبولوجية في التاويل لبيير ماراندا). ودراسة في أشكال فنية غير أدبية (نحو نظرية لقراءة الفنون البصرية، لوحة بوسان: الرعاة الاكاديون للويس مارين). ونجد من الأهمية أن نذكر دراسة جديدة في هذا السياق وهي (الأدب الإباحي المثلي: باريه ولويولا والرواية لميشيل بيوجور).
- اتحاد كتاب وأدباء الإمارات يعيد إحياء جائزة غانم غباش للقصة القصيرة للكتاب الإماراتيين.
- سمية الإسماعيل تكتبـــ: قراءة لقصة (قطيع) لفريال قاصم.
” فالمجلد يرمي أساساً إلى سبر أغوار التساؤلات الأساسية التي تدور حول منزلة- المنزلة السيميائية، والاجتماعية، والتأويلية- الجمهور فيما يتعلق بالنص الفني. فالنقد الموجه للجمهور ليس حقلاً واحداً، وإنما هو حقول عدَّة، وليس طريقاً مفرداً أو سالكاً إلى حدّ بعيد، وإنما هو تشابك وفير، ومسالك متشعبة تغطي منطقةً واسعةً من المشهد النقدي. وما يوحد هذه المقالات بالإضافة إلى الاهتمام المشترك، هو سمتها الاستكشافية، أي رغبة المؤلفين في المغامرة في مناطق قلما سلكت”.
ويشكل الكتاب مرجعاً جديداً، وربما يكون الأهم، بسبب ما أتى فيه من التنوع، مما يعزز فهم الباحث لموقع القارئ في النص، ويضيف رؤىً جديدةً تتعلق بالتلقي، وتوجه البحث في القراءة نحو التداخل، من خلال استلهام مجموعة متنوعة من النظرات النقدية المنهجية.
يضاف إلى ذلك ثبتاً مهماً لأهم المصطلحات النقدية المستخدمة، باللغة العربية والإنكليزية، وهذا ما يرفد الجهد المبذول في ترجمة الكتاب، وتقديمه للقارئ. وقد احتوى الكتاب، بالإضافة إلى المدخل الذي كتبته سوزان روبين سليمان، على ست عشرة مقالة، جاءت في خمسمئةٍ وعشر صفحات.
التحرير:
– سوزان روبين سليمان: ولدت في بودابست سنة 1939. حصلت على شهادتي الماجستير والدكتوراه من جامعة هارفرد، وهي أستاذة بالجامعة نفسها، تدرس الثقافة الفرنسية والأدب المقارن، صدر لها:
* الروايات السلطوية: الرواية الأيديولوجية نوعاً أدبياً، والمنفى والإبداع.
* حررت كتاباً بعنوان جسد المرأة في الثقافة الغربية.
* صدر لها في عام2006 كتاباً بعنوان أزمات الذاكرة والحرب العالمية الثانية.
– إنجي كروسمان: كاتبة وناقدة وأستاذة النظرية الأدبية في الجامعات الأمريكية.
الترجمة:
– حسن ناظم: أكاديمي من العراق (ناقد ومترجم)، متخصص في النظرية الأدبية والأدب العربي الحديث. صدر له:
* مفاهيم الشعرية: دراسة في الأصول والمناهج والمفاهيم.
* البنى الأسلوبية: دراسة في “أنشودة المطر” للسياب.
* أنسنة الشعر: مدخل إلى حداثة أخرى.
– علي حاكم صالح: أكاديمي من العراق (ناقد ومترجم).