شاهدت مشهداً للممثل ليوناردو دى كابريو وهو يختبر مجموعة من الموظفين المتقدمين لوظيفة فى شركته ( او هكذا فهمت فأنا لا أعرف الفيلم ولم أشاهده كاملاً) وهو يعطى قلماً لكل فرد فيهم ويقول له جملة ( بع لى هذا القلم) ليرى أيهم لديه فن البيع.
الكل تلعثم وهو يحاول إقناعه بشراء القلم ما عدا واحد فقط أسود البشرة ..تناول الرجل منه القلم وأعطاه منديلاً ورقياً وقال له ( من فضلك اكتب اسمك) ..رد عليه ( لا أملك قلماً)..هنا ناوله الرجل الأسود القلم وقال له ( إذاً أبيع لك هذا القلم فأنت تحتاجه الآن).
فكرة عبقرية وبسيطة تتلخص فى ( أنا أبيع لك ما تحتاجه الآن).
فكم يساوى ثمن شربة ماء لمسافر فتك به العطش فى الصحراء؟.
تذكرت مشهد الفيلم وأنا راكب فى القطار الداخلى متوجهاً الى محطة ( سيدى جابر )..القطار يعج بالباعة الجائلين..هذا يبيع إبر للخياطة وهذا يبيع حلويات وبسكويت وهذا وهذا ..وكلهم بأرخص الأسعار جداً.
- إسراء الشيخ تنافس في معرض القاهرة الدولي للكتاب بروايتها الثالثة نقوش مخفية.
- عبد الكريم حمزة عباس يكتبــ: ما هو مفهوم نقد النقد ؟
وهذه سياسة البيع داخل القطارات..بع كميات كبيرة من بضاعة يحتاج اليها كل بيت وكل فرد بثمن رخيص .
لكن لفت نظرى بائع واحد فقط متميز ومميز جداً.
هذا البائع يبيع مجلة العربي داخل القطار.
يقف فى منتصف كل عربة وينادى على المجلة بخمسة جنيهات.
لا يستجيب له أحد..بل لا يلتفت له أحد.
ثم يبدأ بقراءة عناوين الأبواب عله يجد مهتماً.
أيضاً بلا جدوى ..لا ينظر له أحد على الإطلاق.
وفى النهاية يطوى المجلات تحت إبطهمتمتاً بكلمات تعبر عن الحال المعدم ويسير ببطء وانهزام الى العربة التالية.
قلت إن هذا البائع متميز ومميز.
متميز فى أنه مثقف..طريقة نطقه لعناوين الأبواب تدل على مستوى تعليم لا بأس به ..مخارج الحروف عنده سليماً.برغم ملابسه الرثة المهترئة التى لم تغسل منذ قرون والتى تدل على أنه جامع قمامة.
لكنه مميز بالغباء!.
نعم بالغباء..
لأنه لم يفهم أن ركاب القطار ثمانين فى المائة منهم راكب بدون تذكرة والتى ثمنها ثلاث جنيهات فقط.
يهربون من الكومسارى طوال الطريق ..
راكب القطار على استعداد لشراء أساتك بيضاء للبنطولات وحجر بطارية للريموت وإبر خياطة بالخمسة جنيهات ..ومن المستحيل أن يصرف هذا المبلغ الفاحش فى شراء مجلة العربى التى لا يقرأها أحد من هذا الجيل.
سيظل هذا البائع فقيراً معدوماً لا يجد ثمن ساندوتش الفول لو استمر على حاله الذى أراه فيه كل يوم تقريباً داخل القطار.
عليه أن يرى مشهد الرجل الأسود ويتعلم منه وإلا سيتحول الى مومياء من العصر الحجرى ماتت جائعة .
على نفس الحال هناك محل صغير قديم فى منطقة بحرى ..منطقتى التى ترعرعت فيها ..صاحبه مصر على أن إصلاح بوابير الجاز التى انقرضت كالديناصورات مهنة مقدسة.
يفتح الدكان صباحاً..هناك نماذج من بوابير الجاز متناثرة هنا وهناك .
لكن لا يوجد زبائن.
هو نفسه قد ينقرض يوماً قبل أن يفهم أن العصر اختلف ..وأن النساء الآن تستعمل البوتاجاز ذاتى الاشتعال .
يحتاج مخه الى بنطة لحام قصدير كى يستوعب المعلومة .
ثم يثير إعجابى بائع الأندومى الذى يقف أمام مدرسة ابنتى.
هذا البائع المناسب فى المكان المناسب.
عربة صغيرة نظيفة جداً ومزركشة الألوان يبيع فيها أكواب الأندومى جاهزة الأكل للطالبات أثناء دخولهن وخروجهن من المدرسة.
الطالبات تتجمع على العربة كالنحل المتجمع على نقطة عسل .
وبجواره بائع الجيلاتى والفريسكا.
هؤلاء الباعة سيصبحون مليونيرات قريباً..فقط لأنهم فهموا أن هذا المكان يحتاج الى مثل هذه البضاعة فى هذا التوقيت.
ترى هل أجد بائع القطار يوماً يبيع إحدى رواياتى داخل القطار؟.
وقتها سينظر الناس للأرض والسقف والفراغ دون أن يعيروا البائع أو الرواية اهتماماً وهم يتحسسون الخمسة جنيهات التى سيشترون بها أمشاط الشعر وإبر الخياطة بعد قليل..
فقط هم ينتظرون بائع الأساتك يمر من أمامهم ليجمع كل هذه النقود .