رواية السيوف السلطانية
( 2 )
في الحارات والأزقة القريبة يخرج أصحاب الدكاكين والتجار والعمال وأصحاب الحرف من منازلهم قاصدين أماكن عملهم ، وبعض مواكب الأمراء تمر بالقرب منهم بخيولهم وأسرجتها المكسوة بالديباج والمشغولة بخيوط الذهب والفضة وهى تصلصل وتخشخش ، بسبب زينة وكساوى الجياد وألجمتها التي يتدلى منها سلاسل نحاسية وفضية ، وأطواق الخرز المعقودة على رقابها والمربوط فيها تمائم لجلب الحظ ومنع الحسد والعين ، يتحاشونهم ويوسعون لهم الطريق مخافة أن تصدمهم الخيول وهى تشق طريقها لا تبالي بما يصادفها.
– ربنا يكفينا شركم ..
قال أحد التجار فى سره وهو يلتصق بالجدار وجاره ينظر إلى مواكب الأمراء الفارهة شزرا قائلا فى نفسه:
– داهية تأخذكم على الصبح !
الناس يعيشون في واد وهؤلاء الأمراء ومماليكهم يعيشون في واد آخر ! اجتماعهم بالسلطان فى القلعة حيث يسكن بعيدا ومعزولا عن الناس ، لا يأتى بخير أبدا ، نادرا ما تخرج المراسيم السلطانية بما يُصلح أحوال الناس ويخفف أعباءهم ، وبين الحين والآخر تنزل عليهم المكوس والجبايات على البضائع والسلع وعلى دكاكين البيع والشراء والمنازل نزول الصواعق.
أما الكارثة الأكبر فحين يتنازع الأمراء وهم كثيرا ما يفعلوا ويلبسون مع مماليكهم آلة السلاح ، يخوضون حروبهم الضارية فى الصحراء المواجهة للقلعة ، ساعتها يغلق تجار القاهرة حوانيتهم ويهرعون إلى بيوتهم ويبطل البيع والشراء ، وتتعطل أفران الخبز وتنعدم كافة أنواع الأقوات من لحوم وخضر وفاكهة ودقيق ، يقفل كل إنسان باب داره عليه وعلى عياله وحريمه ، ويقبع خائفا حتى تنجلى الغمة ، ومن داخل البيوت وعلى أسطحها يسمعون ويرون العسكر المنهزم وهم مثخنون بالجراح وخيولهم مصابة تنزف الدماء ، يفرون فرادى إلى أحياء القاهرة ، يشقون الطرق والحارات مسرعين ليجدوا مخبئا ، أو يهرب أحدهم ليتحصن في داره بالحسينية أو الجمالية التى تبعد مشوارا طويلا ، يستميت ليصل إليها قبل أن يُمسكوه ، يركض بفرسه والسيف فى يده داهسا كل من يصادفه أو يعترض طريقه ، والأخرون من الذين انتصروا يتعقبونهم ويكبسون عليهم الدور والحارات وشهوة القتل والانتقام مازالت تتملكهم ، ولو تصادف وجود إنسان من العوام ، رجل كان أو إمرأة أو شيخ أو طفل ، فى طريقهم فهو هالك لا محالة !
***
مر الأتابكي شيخون بفرسه من باب السر المختص بدخول كبار رجال الدولة ، وسار على الطريق الصاعد إلى مقر السلطان وحوله مماليكه ، ومن خلفه الأمراء المقدمين ألوف كل منهم بصحبة مماليكه ، نزلوا عن خيولهم أمام الإيوان وبقى المماليك جميعهم منتظرين في الساحة الواسعة التي أمامه ، صعد الأمراء السلم المؤدي إلى القاعة الكبيرة ذات الأعمدة وساروا إلى نهايتها وجلسوا على المقاعد المخصصة لهم عند باب الإيوان ، في انتظار الأذن للدخول على السلطان ، برغم أنهم أصحاب السلطة والمدبرون لأحوال البلد والمسيطرون على كل كبيرة وصغيرة لكن احترام مقام السلطان أمر واجب.
رمقهم السلطان الشاب البالغ ثمانية عشر عاما من العمر عند دخولهم وهو يخفي ما في نفسه من كره لهم جميعا ، مماليك أبيه ومشترواته ، كبار أمراء الدولة الذين يجثمون على صدره ويعدون عليه أنفاسه ، تركه ثقيلة مفروضة عليه كما فرضت على إخوته الذين جلسوا من قبله على تخت الملك ، لا يستطيع أن يقطع أمرا أو يصدر مرسوما إلا برأيهم وتحت وصايتهم ، خاصة كبيرهم شيخون ، كل الذين يقفون أمامه الآن كانوا من صغار المماليك عند وفاة أبيه الناصر محمد ، لكنهم ترقوا سريعا خلال سنوات حتى أصبحوا أمراء ألوف ومقدمين ، مات وقتل عدد كبير من الجيل الأكبر منهم الذين وصلوا للتقدمة والإمارة في زمن أبيه ، كلهم تقريبا ، لم يبق منهم أحد الآن ، وصعد هؤلاء الصغار مكانهم واستولوا على كل شىء ، يلتفون حوله ويسدون عليه كل منفذ ويغلون يده ، ولا يملك سوى أن يجاريهم ولا يعارضهم ، فقد تعلم من الدرس الذي تلقنه في المرة الأولى !
إنها المرة الثانية التي يتولى فيها السلطنة ، حاول أن يتخلص منهم عندما ترشد في سلطنته الأولى ، قبض على بعضهم وأرسلهم للسجن وعزل البعض الآخر من وظائفهم ، لم يتأمر ولم يخن ولم يقتل أحدا منهم ، لم يرد أن يلوث يديه بالدم ، لكنهم ركبوا عليه بالسلاح وحاصروا القلعة فعزل نفسه من الملك برغبته ، رفض أن يدفع بالمماليك السلطانية في حرب يعلم أنه سيخسرها وساعتها سيقتلونه لا محالة ، كما فعلوا مع أخويه الكامل شعبان والمظفر حاجي.
لديه الكثير من الأفكار والطموحات التي يريد أن يحققها ، يقرأ ويدرس كثيرا ولا يضيع وقته في اللهو وفيما لا يفيد ، تكونت عنده رؤية بعدما نظر في الكتب وتفكر ، لن يصلح حال السلطنة والبلاد والرعية طالما استمر جلب المماليك الترك ، لابد له من الاستعانة بالمصريين في الجيش ليحلوا محل الترك ، جيش من جنود وعسكر غير مماليك ، لكنه طريق طويل وشاق لا يمكنه المضي فيه إلا بعد سنوات ، قبل أي شىء لابد أن ينتظر حتى يفنى هذا الجيل من الأمراء القدامى الذين جاءوا في أيام أبيه ، عندها يحل محلهم مماليكه هو الذين سيكونون طوع يده ولا يخالفونه في أمر ، بعد ذلك يمكنه أن يتحكم ويفرض عليهم ما يشاء ، سيمنع جلب المماليك من بلاد الترك شيئا فشيئا ويستبدلهم بالمصريين من أولاد الناس وأولاد البلد ، ويجعل منهم العسكر والقواد والأمراء ، فتأمن البلاد شر الفتن والمخامرات وتنزاح عن الرعية قسوة المماليك الترك وتعسفهم ، حلم يتمنى أن يتحقق في يوم ما ، لكن ذلك اليوم مازال يمكث بعيدا في الغيب.
حلمه الآخر أن يبني مسجدا جامعا لم يبن مثله في الإسلام ، مسجد لا نظير له ولا يطاوله بناء على الأرض ، هؤلاء الأمراء الذين يجلسون أمامه بنظام محدد حسب رتبهم ووظائفهم لن يسمحوا له ببناء حائط ، برغم أن كل منهم أنشاء مسجدا ومدرسة ، شيخون قام ببناء عمارتين باذختين ومتقابلتين في شارع واحد لمسجد ومدرسة قبل سنوات في الصليبة حتى أطلق العامة اسمه على الشارع ، وصرغمتش انتهى منذ فترة وجيزة من بناء مسجده في طولون ، وطاز أنشأ عدة من المباني وقصرا عظيم البنيان قبل أن يخرج من مصر إلى الشام ، أما هو السلطان فلا يستطيع !