كتب دانتي مـــــرةً ((يقوم القصد الأول للفاعل في كل فعل على كشف صورته الخاصة به، على أنه اللوحة الذاتية للفاعل، لكن ديدرو بعد أربعة قرون وفي مؤلفه “جاك القدري، كان أكثر شكًّا، إذ أن بطل روايته لم يستطع أبداً أن يتعرف ذاته في فعله))2
يطرح هذا المقطع الذي استعاده كونديرا في أغلب أعماله الأدبية سؤالاً حول أهمية الفعل الإنساني في الأدب والفلسفة، والمسألة التي تثار في هذا الخصوص تتعلق بالفعل كجانب مرئي من السلوك (الأنطولوجيا) وأن يكون تعبيراً عمّا في الذهن (الأبستمولوجيا) وارتباط ذلك بالعلاقة بين الذوات (العلوم الاجتماعية).
وفي هذا الخصوص تُطرح مسألتان: تتعلق الأولى بالمشكلة التي يتركها الفهم الذي يتبناه كل من التوجه السلوكي ونقيضه التأويلي للفعل الإنساني؛ وفي الهوة التي تنشأ بين الجسد والذهن وبين الفعل المادي والجانب المعنوي؛ والتي تنجم عن هذا الفهم.
إن ما يترتب على تفسير الفعل سيمتد للمجال الاجتماعي فيصبح من المستحيل إقامة علاقة أو أي نوع من التواصل بين الذوات (البينذاتية)؛ ويرى كثيرون أن هذه الهوّة التي عجزت الفلسفة الحديثة عن تجاوزها تضرب بجذورها في ثنائية ديكارت التي لم تستطع المحاولات اللاحقة في الفلسفة الحديثة تجاوزها، وبالخصوص ((عندما فصل وتحت تأثير علم الطبيعة (الغاليلي) طبيعته الجسمية عن الوعي حيث قال بجوهرين أحدهما ممتد والآخر مفكر)) 3
لهذا وغيره يأتي كتاب ((انطولوجيا الفعل ومشكلة البينذاتية)) للمفكر العربي رجا بهلول لجسر هذه الهوة والفكاك من (الأنا وحديـــــّة) ولأمِ العلاقة بين ما هو جسدي -طبيعي وقابل للملاحظة والدراسة العلمية في أفعال الإنسان، وما هو معنوي –ذهني.
وهو يخوض نقاشًا واسعًا مع النظريات والتوجهات السلوكية والتأويلية في رؤيتها للفعل الإنساني كتتمة لمشروعه الفلسفي، وتصوره لمسائل الهوية والتماثل حول الذهن والانفعالات وقضايا البين ذاتية التي بدأها في أعمال سابقة. انطلاقـــــًا من طموح مخلص لتجاوز الريبية التي تسببت بها ثنائية ديكارت عبر مناقشة مضاعفاتها السلبية في التوجهات اللاّحقة.
- لٌما الحاج تكتبــــ: أنا لا أخافُ الظلام.
- الأستاذ حامد حبيب يكتبــ: الاستعارةُ الأصليَّةُ والاستعارةُ التَّبَعيَّة
وعلى مدار سبعة فصول يتطرق الكاتب للمشكلات المعرفيّة التي تسببت بها القسمة الجائرة وأثرها في التواصل الإنساني والاجتماعي. لذلك يتعلق السؤال الأساسي الذي يُطرح في الفصول الثلاثة الأولى (أحداث الطبيعة وأفعال الإنسان-القصدية والأفعال-نظرية التفهم ومشكلة البينذاتية)
حول مدى مقدرة التوجه السلوكي والتأويلي على تجاوز الثنائيــّة الحادّة في نظرتها للإنسان وللفعل الإنسانيّ، وهو يتفحّص الإشكاليات التي يثيرها كل من التوجه السببي الذي يختزل الأفعال والرغبات لمجرد علاقات سببية لا تختلف عن العلاقة التي تحكم مجرى الكون. “هذا التفسير للظواهر الطبيعية الذي نقله الفلاسفة التحليليون بحرفيته إلى العلاقة بين الفعل والقصديــــــة”1
ويناقش المشاكل التي يثيرها هذا التفسير السببي الذي تتناه المدرسة السلوكية والوظائفية وما تترتب عليها من معوقات ابستمولوجية وانطولوجية، أدت في النهاية للموقف الريبيّ الذي برز بوضوح عند فتغنشتاين. ويرى المؤلف أنه على الرغم من رفض فتغنشتاين ربط رودلف كارناب بين السلوك والحالة الداخلية لقناعته أنه هناك حالات يتوقف عندها وهي حالات ((عدم اليقين التي تواجهنا أحيانا عندما نكون بصدد الحكم على وجود حالة داخلية محددة في الآخر وعدم وجودها-فإن فتغنشتاين فد انتهى إلى الريبية النابعة من التوترات في فكره، وهذا الموقف الريبي يقوم في جوهره على أن الإنسان يمكنه أن يمثل شعوراً ما دون أن يعني ذلك أنه يعيشه في أعماقه))سيتسبب هذا برأي رجا بهلول أن بارتفاع الجدار بين الأنا والآخر لأن فرضية الريبين حول إمكانية الإنسان على أن يخدعنا أو يتظاهر فلا نعرف نواياه؛ انتهت إلى جعل الداخل صندوقـــًا مغلقًا، وانتهت بــــفتغنشتاين إلى رفض الاستبطان؛ ما استتبع عجز اللغة والنظر لها بكونها لعبة اجتماعية. بموجب ذلك لا يبقى سوى السلوك الخارجي. وهنا بالذات يتمثل عجز السلوكية عن ايجاد تفسير خارج الغائية التقليدية وبقائها عالقة في مصيدة الفكر الثنوي. ويرى المؤلف أن اللغة حاسمة في هذا المجال بحيث تكشف عن الوعي الإنساني وهي برأيه تتجاوز الألعاب اللغوية التي يتحدث عنها فتغنشتاين نحو شكل أصيل من الوعي يتم فيه التعبير عن الرغبات والأهداف؛ ليس من خلال السعي الدؤوب لتحقيقها ((الأمر الذي نجده عند أقل الحيوانات تطوراً فحسب وإنما من خلال اللغة))6
إن الاقتراح الأساس في هذا الكتاب هو فهم الفعل الإنساني من خارج بوابات الرؤية الكلاسيكية، وانطلاقًا من فكرة الكتاب الرافضة تجزئة الفعل الإنساني، يتطرق الكاتب إلى المشكلات التي يثيرها مبدأ التفهم عند الـتأويلية ممثلة بــدلتاي وقصور هذا المبدأ الذي يجعل وجود الآخر افتراضًا، وبرأيه فإن التفهُّم الذي تدعو له التأويلية سيثير كثيراً من العقباتٍ الأبستمولوجية وسينتهي إلى المعرفة غير المباشرة التي تجعل الآخر مجرد فرضية.
يكتب رجا بهلول: إن قياس شعور الآخر بناء على تجربتنا يعني الاعتراف بوجود ذوات مقابلة يصبح كما لو كان فرضية/نظرية، نتوصل إليها عن طريق قياس الغائب (ذات الآخر) على الشاهد ((ذات الإنسان نفسه)) 7
هذا الفهم سيوقع التأويلية في أنا واحدية من طراز جديد، وهذا يعني أن تواصلاً بين الذوات لن تقوم له قائمة، فمنهج التفهم كما طرحه دلتاي جعل وجود الآخر استنتاجًا محضًا، يكتب رجا بهلول: ((لو كان وجود الآخر استنتاجًا محضًا، أو صورة أرسمها وأنا أنظر إلى ذاتي من الداخل، لما كان في إمكان الآخر أن يكون سوى نسخة عني))8
إن السؤال الأساس: هل من إمكانيّة لمعرفة أحوال الآخر الداخلية؟
سيحاول الكاتب أن يجد حلاً يقوم على تأسيس الفعل “انطولوجيًّا من خلال التخلي عن تحليله لعنصرين ورافضًا للفصل بين ماهو جسدي وفيزيقي وبين ماهو ذهني. (وهذا ما كرسه ديكارت) وتفسير السلوك تفسيراً سببًّا، (وهذ ما كرسه أرسطو). ورؤية هذا الكتاب تتوخى تضيّق المسافة بين البرانيّ والجوانيّ عبر نحتِ تصوٍر خاص للفعل الإنسانيّ. يجعل منه جنسًا من نوع وهو يطلب إلى قارئه التوقف عن النظر إلى سلوك الإنسان، كما لو أنه حركات مادية بحته فحسب لا روح فيها.
بل النظر إلى القصدية وكأنها روح الفعل ((أي الشروع في روحنة الجسد))9
لذا سيتمحور نقاشه في الفصول الأربعة الآتية (انطولوجيا الفعل، ابستمولوجيا الفعل، حدود المعرفة والقابلية للخطأ، تجاوز الإرث الديكارتي) حول ردم الثنويــــــــّة ولتجاوز الإرث الديكارتيّ، والقسمة الجائرة بين النفس والجسد، وبين الفعل والقصد. ويظهر تأثره بوجهة نظر كل من إليزابيت آنسكوم10، وأنطوان فورد الذي ينظر إلى العلاقة بين الحدث والفعل من خلال مفهوم الجنس والنوع أو العام والخاص، هذه الوحدة تعني أن المعرفة تحدث من دون واسطة، وتصبح القصدية والحركات الماديــــّـة شيئًا واحداً يمثُلُ أمام التجرية الحسيّة المباشرة.
يعرض الكتاب للنظريات المتصلة بهذا الخصوص، والحلول المقترحة، وأحداها رؤية دريتسكي11 الذي يقدم محاولة مخلصة لحل هذا المشكل، بإقناعنا بإمكانية معرفتنا أحوال الآخر الداخلية، فالحزن حالة نفسية لا ترى، ولكنه كالهواء نعرف هبوبه من أثره، وبإمكاني أن أعرف أنك حزين من مشاهدتي دموعك. وهنا، فإن هذه المعرفة غير مباشرة. لكن هذه النظرية لا تلقى قبولاً من الكاتب، فاستنتاج وجود الآخر –برأيه-لا يقل فداحةً عن نظرية التفهم، وفي الحالين كلتيهما نحن أمام معطيات سلوكية، بينما تصبح الرغبات والأهداف مماثلة لتجربتنا الشخصية، وتتحول إلى فرض يتجزأ بموجبه الفعل إلى جانبين مستقلين جواني (هو افتراض) والبرانيّ. لذلك يقرر العمل أنطولوجيًّا من خلال التخلي عن تحليل الفعل لعنصرين، واستبداله بفكرة وحدة داخلية للفعل، ويخطو خطوة جديدة باتجاه وضع رؤية متجددة لفكرة القصدية في تأثر واضح برؤية آنسكوم مع تقديم رؤيته الخاصة التي تبتغي أن تحافظ على السلوكية بشكل مضعف، وتترك مجالاً للذاتيّة لتتنفس من دون أن نقع في أنا واحديّة ديكارت من جديد.
فيصبح الفعل متضمنًا النيـــــّة، والتأكيد على هوية الفعل أو بتعبير الكاتب: ((بوسعنا أن نقسم الأحداث إلى أفعال إنسانية وأحداث طبيعية، ثم نقسم أفعال الإنسان إلى قصديــــــّة وغير قصديـــــــّة، مثلما نقسم المعادن إلى ذهب وغير ذهب)) 12
إن أبرز ما قدمه الكتاب في محاولته ونقاشه لمشكلة البينذاتية هو تفحص الرؤية للفعل الإنساني في المدراس الفلسفية المختلفة، وسعيه لإيضاح الجانب الثنوي غير الواعي في كل من هذه التوجهات؛ وبحثه عن هوية للفعل الإنساني يتأسس فيها الأخير أنطولوجيًا عبر التحقق في الوجود، وأبستمولوجيًّا عبر جعله نشاطًا معرفيًّا، وردم الهوة بين الطبيعي والاجتماعي، وفي صلب هذا كله إعادة التواصل الإنساني من خلال تبيان حقيقة المشاركة مع الغير، وإمكانية وجود قانون يفسر العلاقات التي تربط الأنا بالعالم، والأنا بالغير، يمكننا أن نعثر هنا على مفهومات جديدة تتعلق بالتواصل المباشر والقبول والتفهم الذي لا يرتبط كما في التأويلية بتفهم الذات والقفز منها إلى الآخر بل يقوم في أساسه على هوية الفعل الموحدة وغير القابلة للتجزئة.
ومن خلال جعل القصديّة فعلاً متحققًّا وحسيًّا في وقت واحد لتجاوز ريبية فتغنشتاين التي تمنع المعرفة وتقيم جداراً بين الذوات.
وبذا يمكن البدء من السلوك لفهم الروح؛ تكتب آنسكوم ((ليس في مقدور الروحانية إلقاء الضوء على السلوك بل العكس قد يكون هو الصواب، أي مفهوم السلوك هو ما يلقي الضوء على مفهوم الروح”13
يرى الكاتب أن هذه النظرية تعدُّ متقدمة مقارنة بدريتسكي الذي جعل معرفتنا بالآخر (معرفة استنتاجية)، والذي حوَّل وجود الآخر إلى وجود محض نظري واستنتاجي، وعلى النقيض فإن ما تقوم به آنسكوم ((قذف المحتويات الذهنية إلى الخارج، حيث يمكن للجميع مشاهدتها بأم عينهم))14
لكن مكدوايل15 يضع المعرفة في نطاق الحس السليم وهو مثل دريتسكي يقرُّ ((إن الرغبات والمقاصد نفسها لا ترى بالعين لكن هذا لا يعني أننا لا ندركها عبر المعرفة المباشرة غير الاستنتاجية))16
وهنا تنحاز وجهة النظر في هذا الكتاب إلى الإدراك المباشر رداً على النزعة الريبية، وتلقى رؤية مكدوايل قبولاً لدى الكاتب الذي يرى أن ما يتميز به الأخير من دريتسكي وأصحاب النظرية التفهمية في العلوم الاجتماعية أنه ((ينظر إلى معرفتنا بالآخر والحالات الداخلية للآخر من منطلق أنها معرفة مباشرة)) 17
وهنا يؤكد الباحث أن المعرفة المباشرة وغير المباشرة هي صنفان من المعرفة، لكن ثمة فرق بينهما، إن الشعور بحجاب بين العارف ومعرفته كمن يستدل على مرور الإعصار من خلال الدمار الذي يخلِّفه، ((إن هناك فرقــــًا لا يمكن تجاهله بين رؤية العصافير ورؤية اعشاشها، وإن رؤية العصافير وليس رؤية أعشاشها هي ما يشكل المعرفة الحقيقية بوجود العصافير))18. إن القابلية للخطأ ممكنة، لكن هذا الكتاب يريد ألا تتحول إلى ريبيــــّة تمنع التواصل بين الذوات لذا سوف يناقش في الفصل السادس (حدود المعرفة والقابلية للخطأ) فمادامت المعرفة المباشرة لذات الآخر أمراً ممكنًا نظريــــــًا ومقبولاً منطقيًّا فإن ذات الآخر كتاب مفتوح أمامنا، لأن ((إدراكاتنا الحسية لا تتوقف عند حدود الحركات الجسمانية، بل تتعدى ذلك إلى المقاصد والأفكار))19.
إن الأسئلة في هذا الكتاب تتجاوز السؤال -حول قدرتنا على معرفة ما في ذهن الآخر الذي يستطيع أن يكتم غضبه أو يتظاهر بالسرور، وسؤال رايت الذي وضع الحواس موضع شك؛ إلى التفسير الروحي الذي يجعل الروح مقذوفة في الفعل، ويجعل محتويات الذهن مرئية في الفعل الذي نقوم به. وهو يتمسك بوجهة النظر التي تعيد إلى التجربة الحسيـــّة فاعليتها وتوجهها، فالإنسان العاديّ يوجد في العالم الطبيعي، وبشكل تلقائيّ إن قولنا ((إن التجربة الحسية مُعدَّة في الأساس وبالأصل وبطبيعتها، ليس للكشف عن نفسها، بل عما هو خارج عنها)) 20.
ونجاحنا في معرفة مقاصد الآخرين ((مسألة حظ إلى درجة معينة، لأنه لا يعتمد على مهاراتنا وطرقنا ومناهجنا في البحث والتقصي بل يعود إلى تعاون العالم معنا، إلى جميل يسديه العالم إلينا)) 21
لابدّ أن الآخر -بحسب هذه الرؤية -ضروري حتى في حالات معرفتنا أنفسنا، فهو يدخل بيننا وبينها والقول بالحس السليم يساعد على تقليل المسافة مع الآخر؛ وهنا تصبح القصديــّة والنيــّــــة ثمرتا تواصل إدراكي، ومن ثم يزول الفارق بين جواني وبراني، وبين القصد والسلوك، ويتحدان في معنى واحد، فجذور الجوانيّ هي في العالم وفي التجرية الحسيــــــّة، والإدراك بالتجربة الداخلية للذات الأخرى مباشر وتلقائي، أو بتعبير وليامسون22 الذي يختصر المسألة بتعبير واحد ((إن الاعتقادات والنوايا لا تصنع في البيت الداخلي بل ثمرة تواصل ادراكي مباشر مع العالم المحيط بنا))23 هذا الفهم للقصديـــــّة يجعل منها متجذِّرةً في العالم، بل إن الإنسان يعجز أحيانًا عن معرفة ما يدور في داخله، ومن ثم فلا شفافيّة مطلقة بين الإنسان وذاته. كتب وليامسون ((لا يمكن أن يكون مبدأ الشفافية صادقــــًا وفي بعض الأحيان لا يعرف الإنسان حالته الداخلية بل يخطئ في تفسير إحساسه وترجمته؛ فمن كان غير مكترث لنفسه يحسب الألم العظيم ألمًاً بسيطًا))24 إذن وفق هذا فإن معرفة الذات لنفسها موضع شك، ما يعني عدم وجود شفافيــــّة بين الإنسان وذاته ما يثير مسألة معرفية يختصرها وليامسون بقوله (( إن معرفة الذات بنفسها قابلة للخطأ، أو هي من النوع الذي يصيب أحيانـــــًا ويخطئ أحيانـــــًا أخرى، وهذا يعني العلاقة المعرفية بين الذات ونفسها لا تفضُلُ العلاقة المعرفية بين الذات والذوات الأخرى))25 وهنا نصل إلى تسوية بين الذوات (البينذاتيـــــّة)26 بشكلها الأعمق والدقيق وفي هذه الرؤية فإن الآخر واسطة لنفهم أنفسنا، ونعتمد على حضوره لنكشف ما احتجبَ في أعماقنا.
إن النظر إلى الحركات الجسمانية فقط التي تدرك من قبل الحواس، وجعل الجانب الجواني مجرد فرضية يعني قسمة جائرة بين الداخل والخارج، حيث كل منهما توجد مستقلة عن الأخرى، وبتعبير أدق ((ينُظر إلى الحركات الجسمانية، كما لو كانت في حد ذاتها، معدومة المعنى. وينظر إلى القصد كما لو كان شيئًا روحيًّــــا، لا يتجسد في شيء))27
وبعد درب طويل ناقش الكتاب فيه الفعل الإنساني أنطولوجيًّا وأبستمولوجيًّا، وتطرق فيه إلى المعرفة بين الذات والأخرى بتحليل النظريات الطبيعية نصل إلى الفهم الذي لا يرى القصدية شيئًا مضافــًا إلى الحدث ليرتقي إلى درجة الفعل فحسب، بل تغدو القصدية من صميمه، وهي مشتقة من العالم بل هي ثمرة من ثمار التجرية الحسيــّة المباشرة.
إن قصور السببّية وعجز مناهج التأويلية مرجعه أن كلاً منهما تجعل من الإنسان آلة أو افتراضاً، وتجعل وجود الآخر استنتاجّا ساذجّا مشتقًّا من وجوديّ الشخصيّ؛ ولم تسلم هذه النظريات من تجزئة الفعل البسيط الذي لا يقبل التحليل إلى عناصر، ولعل تأثير الثنائية الديكارتية التي انتهت إلى الريبية ليس خافيـــًّا في هذا المجال.
إن هذا الكتاب ومن خلال المسعيين الأنطولوجي والأبستمولوجي يحاول استعادة الوحدة الداخلية للفعل الإنساني، ولا يتم ذلك إلا بإعادة المنزلة للتجربة الحسية والمعرفة المباشرة.
وبذا فإن البدء يكون من السلوك، وهذا الأخير هو الأقرب إلى فهم آنسكوم وفيتغنشتاين حين كتبت آنسكوم ((إن روحانية الإنسان ليست هي ما يفسر السلوك بل السلوك يلقي ضوءًا على أحاديثنا حول الروح والنفس فكما أن السلوك نشاط الجسد فالقصد نشاط الروح))28
وعلى غرار مقولة أرسطو ((لو كانت العين جسداً لكان الإبصار روحها)) يكتب رجا بهلول: لو كان فعل الإنسان جسداً لكانت القصديـــــــّة روحه)) 29.
وهو يرفض أن يخضع الفعل للتحليل من خلال مفهومات الجنس اللون والنوع الأحمر، كما رفض التعامل مع الحركات الجسمانية للإنسان كما لو أنها تنتمي إلى النوع نفسه من أحداث الطبيعة غير العاقلة. فجسم الإنسان ليس كأي مجموعة من أجزاء المادية ((هناك نوع من التكامل والتناسق بين جسم الإنسان وما يمكن أن يأتي به من حركات من جهة المقاصد والرغبات والأفكار))30
والخلاصة تتوخي وحدة الفعل الإنساني للوصول إلى أن العلاقة المعرفية بين الذات والآخر علاقة مباشرة لا تحتاج إلى نظريات أو فرضيات، فالنيات والمقاصد تجد جذرها في الإدراك المباشر والتلقائي للوجود من قبل الإنسان في موقفه الطبيعي. ويصبح البحث عن أي قسمة جهداً ضائعاً.
إن المواقف الريبية تعيق المعرفة بين الذات والآخر، وتقيم إشكالات بين الذوات، وبذلك يحاول هذا الكتاب أن يخطو باتجاه فهم فينومينولوجي مباشر، سعيًا منه لإعادة المنزلة للتجربة الحسيّة عبر هدم الجدار الفاصل بين الداخل والخارج، وبين جسد الإنسان وروحه؛ بحيث تتمظهر الروح في الجسد، ويصبح الإنسان وحدة لا تتجزأ.
خطوة تتحول فيها قصدية الشعور لوجوده إلى تجربة مشتركة بين الذوات، متجذرة في العالم يزول فيها أي تصور ثنائي يباعد بين الفعل والنية وبين الروح والجسد؛ وتستعيد فيها التجربة الحسية المباشرة ألقها الذي افتقدته، ليس انتصاراً للتجربة وحسب، بل من أجل تواصل إنساني أكثر إنسانية ورحابة، وهذا بدوره يعيد تعريف مفهوم الحقيقة التي نُظــــِر لها طويلاً بصفتها محتجبة خلف المظهر الخادع، تواصل يتجاوز الألاعيب اللغوية وفكرة الشفافية بين الذات وذاتها بحيث يـتأسس فيه الفعل الإنساني والقصدية الشعورية في الوجود باعتبارهما وحدة لا تنفصل عنه؛ ويصبح فهم الذات لذاتها منقوصًا من دون حضور الآخر؛ الذي يثري هذه التجربــــة.
ليكون نقطة بداية لاستعادة التواصل في معناه الأعمق ((فَهمٌ لا يعود فيه الغير تهديداً للذات يفقدها خصوصيتها كما عند هايدغر، بل يرى فيه وسيطًا بيني وبين ذاتي بالمعنى الذي قصده سارتر حين جعل الذات تدرك ذاتها من خلال الغير))31
وهي رؤية تتجاوز الفكرة التي ترى أني أدرك الآخر من خلال إسقاط تجربتي عليه، فهو -أي الآخر-شرطٌ أصيلٌ وضروريّ لفهم الذات، لا تُلقى فيه القصدية في العالم الحسيّ فحسب، بل تغدو ثمرةً من ثماره.
إحالات:
1. بهلول. رجا، انطولوجيا الفعل ومشكلة البينذاتية، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، 2019).
2.بهلول، رجا، أحداث الطبيعة وأفعال الإنسان: كيف ندرك العلاقة بين الطبيعي والاجتماعي، بحث منشور في مجلة تبيين، ع 8/30، (2019).
3.ديكارت. رينيه، تأملات ميتافيزيقية، تيسير شيخ الأرض (مترجمًا)، ط1، (بيروت: دار بيروت للطباعة، 1958).
4. عبود. فدوى، التحليل الفينومينولوجي للوعي عند سارتر وانعكاسه في أدبه، رسالة لنيل ردجة ماجستير، يوسف سلامة (مشرفًا)، (دمشق: جامعة دمشق، 2012).
5. كونديرا. ميلان، فن الرواية، بدر الدين عردوكي (مترجمًا)، ط1، (سوريا: الأهالي للطباعة، 1999).