بينما كان خالد يدلف السَّيارة إيذانًا ببدء رحلته نحو العاصمة نواكشوط، بعد تعيينه إماما لمسجد هناك، إثر أحد عشر عاما قضَّاها في معط مولانا، حفظ خلالها القرآن، وأحسَّ معها بأنَّه أصبح شخصًا جديدًا، جديدًا كليًّا عما كان عليه سابقا، بعد أن خلَّص -بالقرآن- قلبه من كافة الأدران.. دبَّت في ذهنه ذكرى من ذكريات السنين الخوالي، فارتسمت على ثغره ابتسامة ألماسيَّة، أودع معها ظهره لمقعد السيارة وراح فكره يجوب دروب معط مولانا متتبعا تلك الذكرى…
خرج الشيخ “معط مولانا” من مخدعه يحمل في يده شيئا ما، ثم توجه نحو طلبته وأهله وهو يصيح بكلمات كلُّها غضبٌ واحتقارٌ للشيء المحمول:
– في حياتي كلَّها لم يسبق للخبيثة أنْ دخلت بيتي، أنا “معط مولانا” لم يسبق للخبيثة أن دخلت بيتي، وهذا الفعل لا يقوم به سوى شخصٌ دنيء قد وصل إلى آخر درجات السُّفه والانحطاط الأخلاقي.
كرر معط مولانا الكلمات بصوتٍ مرتفع أمام طلبته وأهل الحيّ، في حين راح بعض الفتية أو الشباب، إذ كانت أعمار بعضهم قد فاقت سنَّ البلوغ، يبتسمون ابتسامات سخرية واضحة المعالم!
بعد أن أنهى “معط مولانا” محاضرته، وافترق الجميع كلٌّ إلى حال سبيله، انتبذ الشُّبان لأنفسهن غرفة، هي غرفة معيشتهم المشتركة، فيها جلسوا جميعا، فنطق أحدهم قائلا وهو يبتسم، وقد كان ذاك الشخص هو نفسه خالد:
– أحمد نستحلفك بالله أن تروي لنا ما فعلت، وكيف تمكنت من فعلها؟! .
عدل أحمد من جلسته قليلا وأخرج من جيب فضفاضته عود سيجارة وعلبة ثقاب، ثمَّ أشعل عُودا من عيدان الفِداء وأذاق سيجارته نيرانه الملتهبة، واسترسل قائلا بعد أن نفخ عدة نفخاتٍ في الهواء، ومناولا عود السيجارة للشخص الموالي كي ينال هو الآخر متعته من التدخين:
– كان الأمر في غاية البساطة.. هذا ما افتتح به أحمد كلامه ليتصنع الثبات والقوة والجرأة أمام زملائه.. ثم أكمل حديثه:
– لقد انتظرت خارجا وأنا أرقب “الشيخ” حتى يخرج لأداء فريضة الصلاة، ثمَّ تسللت إلى حجرته ووضعت عود السيجارة فوق سريره، ومن ثمَّ خرجت. قد صدع رؤوسنا هذا “الشيخ” بقوله أنَّ الخبيثة لا تدخل داره وما على شاكلة ذلك من أحاديث ما نحن بمصغين إليها أصلاً.. وقهقه لتتبعه القهقهات متعالية وساخرة من الشيخ في الآنِ نفسه.
بعد أسابيع من هذه الحادثة جاءت الشرطة إلى المحظرة، خرج كلُّ الأهالي لمتابعة مشهد مجيء الشرطة إلى القرية، فمجيء الشرطة إلى معط مولانا لهو حدثٌ نادر الوقوع، كما أنَّ الساكنة تخشاهم أيَّما خشية، وهذا ما جعل التعجب يحتل ملامحهم ويقلب أحوالهم رأسا على عقب، توجه أحد رجال الشرطة إلى بيت معط ملان، وبعد دقائق خرج رفقة الشيخ الذي قادهم إلى أحد الطلبة ملقين القبض عليه.
في اليوم التالي جاء المحقق إلى الشيخ معط مولانا، مبينًا له أنَّ الطالب أحمد والذي ألقوا القبض عليه في اليوم السابق ضالع في عصابة خطيرة تنشط في العاصمة نواكشوط، وأنَّ له سوابق عديدة، وعلى أثرها أرسله أهله إلى المحظرة ليحفظ القرآن الكريم، وليستريحوا من بطشه وأذاه، ووجع الرأس الذي دائما ما كان يسببه لهم بأفعاله الدنيئة المخزية، وهذا يفسر لم كانت رزم الحشيش تأتي من العاصمة قاصدة قرية “معط مولانا”.
قبل هذه الحادثة بقرابة الشهر كان الطلَّاب قد ألقوا القبض على فتى جاء من العاصمة نواكشوط لتعلم القرآن في المحظرة وأشبعوه ضربا بتهمة السرقة، وكان الشيء المسروق هو هاتف الشيخ معط ملان بشخصه، والطفل أيضا له سوابق في السرقة حسب ما صرح به ذووه. وكان خالد الذي يبتَسم في السّيارة التي تشق الكثبان جاعلة معط مولانا تبدو من بعيد أصغر شيئا فشيئا لدرجة يسهل معها تغطيتها بباطن اليد، وتداعب يده لحيته التي طالت جاعلته يشبه شيخا من الشيوخ الكبار، هو نفسه ذاك الفتى.