دقة المصطلح ورحابة التطبيق
يُفهم الأدب السياسي في الغرب، على أنه ذلك الأدب الذي يتخذ من جدلية العلاقة بين الحاكم والمحكوم موضوعا له؛ مع التأكيد على أن هذه العلاقة تتجلى في موضوعات شتى، تشتبك بالواقع السياسي مثل: القضايا التي تتعلق بالفساد السياسي والممارسات الحزبية، وحقوق المواطنة والحق في العمل، وغير ذلك من الموضوعات التي تدخل في صميم العلاقة بين الإدارة السياسية للدولة والمواطن. وهى بطبيعة الحال، قد قطعت شوطًا كبيرًا في النظم الديموقراطية، التي تعبر عن نفسها خلال قنوات قانونية مثل: صناديق الانتخابات، أومن خلال برامج الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ذات الصلة التي مثل المنظمات الحقوقية. لذلك، فإن الحاجة للأدب السياسي في مثل هذه المجتمعات، ليست ملحة بوصفها فنًا أدبيًا مميزًا، حيث ينظر إليها بوصفها قنوات إضافية للتعبير المباشر عن الرأي، شأنها شأن المقالات الصحفية وبرامج (التوك شو)، حتى وإن اتبعت طرقا فنية بسيطة للعرض، كالرمز والإسقاط تسهم في نقل الرسالة على نحو واضح وشبه مباشر. ومن ثم، فالرواية السياسية وفق تعريف جوزيف بلونتر: ” هي كتاب يصف: مباشرة، ويفسر ويحلل ظاهرة سياسية” 1
وتعتبر السخرية والكشف عن المفارقات اللاذعة ضرورات فنية تستهدف القارئ وتحريضه. بهذا المعنى، فإن الأدب السياسي ـ في الغرب ـ يحدد ملامحه ويعّرف نفسه على نحو مستقل عن فنون الأدب المألوفة التي مثل الرواية أو القصة، كما يحدد وظيفته على نحو واضح، وهى استهداف الجمهور وتحريكه بوصفه ورقة الضغط الأقوى على الحكومة، أى أنه أدب تحريضي، أكثر منه أدب سياسي.
غير أن حال الواقع السياسي ـ العربي ـ يختلف اختلافًا جذريًا، نظرا لوطأة طرائق المراقبة، فضلاً عن غياب الشفافية، واضمحلال الحياة الحزبية. ونتيجة لهذا، تبدو الأوضاع السياسية أكثر غموضًا، والتباسًا، فتحتاج، إلى العديد من الأساليب والحيل الفنية المعقدة، لتمرير خطابها بعيدًا عن سلطة الرقيب. كما أن تأثيرات الأوضاع السياسية، تصبح أكثر تأثيرًا في الحياة اليومية، واشتباكًا بتفاصيلها، وهذا ينعكس على الخطاب السردي. فمن النادر أن نجد رواية، تعلن خطابها السياسي على نحو منفرد، إذ تظل طوال الوقت، ملتبسة بالواقع الاجتماعي، وتفاصيل الحياة اليومية في أبسط صورها الإنسانية، حتى أن العلاقات العاطفية، تبدو شديدة الاشتباك بالواقع السياسي على نحو ما نجده في مجمل كتابات بهاء طاهر فالأنثى تحضر بوصفها رمزا لوطن مستحيل، محبط ومنفي في روايتي (قالت ضحى ـ الحب في المنفى..). والحب المقموع للفتى القادم من الصعيد في روايته ( شرق النخيل) يتساوى مع القمع الواقع عليه من السلطة السياسية في مواجهة البوح بحب مصر. ويعبر بهاء طاهر عن التباس العلاقة بين الحبيبة والوطن في أذهان البسطاء من الناس، عندما يعلق واحد من الناس على طالب وطالبة، يتبادلان حوارًا وديًا أثناء مشاركتهما في تظاهرة في ميدان التحرير قائلا: ” يا عم، هذه ناس جاءت هنا للحب والغرام، ويضحكون علينا بالكلام عن الوطنية والحرب”2.
كما أن فشل العلاقات العاطفية والإخفاقات الجنسية يتحولان ـ في كثير من الأعمال الأدبية ـ إلى معنى رمزي، يعكس أزمة المثقف العربي واغترابه، وقد جسدت أعمال إبراهيم صموئيل هذا المعني كما نجد في قصة (المقبرة ) من مجموعة (رائحة الخطو الثقيل )”3 وهى تجسد حال المناضل السياسي، المؤرق بملاحقات أمنية طوال الوقت، ولكنه ـ في نهاية الأمر ـ إنسان، له احتياجاته الطبيعية. فكانت أزمة بطل هذه القصة (المقبرة) في أن يجد مكانًا آمنا يلتقي فيه حبيبته، بعيدا عن عيون الرقيب. العسس في كل مكان والخوف يملأ الشوارع والبيوت، هكذا يفكر في الاختباء داخل مقبرة مع حبيبته، لكن المقبرة مكان لا يصلح إلا للموت. هكذا تصبح الحياة .. مجرد الحياة الطبيعية أمرًا مستحيلًا في وطن تستبد به طرائق القمع السياسي.
وهذا المعنى يتكرر في صور شتى، حينما يصبح جسد المرأة مرادفًا للوطن، إنه الوطن المستحيل أحيانًا، وفي أحيان أخرى، هو الوطن الُمغتصَب. إن الكاتب العربي تفنن في ابتكار حيل وأساليب عديدة للإيماء والإحالة إلى المعنى السياسي على نحو غير مباشر. لهذا، فإن الرواية السياسية، نالت قدرًا معتبرًا من التعقيد والنضج الفني، وهى تتقلب بين الرمزية تارة، والواقعية الاجتماعية والنقدية، بل والسيريالية أحيانًا على نحو ما نجد عند نجيب محفوظ في (تحت المظلة) وعند محمد حافظ رجب في (مخلوقات براد الشاي المغلي، الكرة ورأس الرجل). وهكذا، يكون الموضوع السياسي مضمرًا في طرائق مختلفة من السرد، ليبدو كما لو أنه غير مقصود لذاته. ومن الطريف أن نجيب محفوظ، بعدما وجهت إليه تهمة ازدراء الأديان، والتعريض بالأنبياء في روايته: (أولا حارتنا) أضطر للدفاع عن نفسه بأن قصة الأنبياء في الرواية هي مجرد إطار فني، لكن هدف الرواية هو نقد النظامين السياسي والاجتماعي، وهو يوجهه إلى رجال الثورة (23 يوليو) والنظام لاجتماعي. وهكذاـ فإنه اضطر لأن يستجير بالنار من الرمضاء. فلا يدري الكاتب العربي لأي طريق صعب يذهب، وهو محاصر بين سلطتين: دينية وسياسية.
يمكننا، في سياق المقارنة بين الأدب السياسي في مفهومه الغربي، والممارسة العربية له، أن نتفهم وجه نظر ( آلان روجرز) “4” عن شحوب الأدب السياسي في الثقافة العربية، مفسرًا ذلك بغلبة أشكال النفي والحصار والمطاردة، بل وتقطيع الأرزاق التي تمارس على الكاتب العربي، حتى أن كاتبًا مثل (حنا مينا) يضطر للعمل مرة حلاقًا وأخرى حمالًا ليتكسب قوت يومه.
لقد فهم (روجرز) أسباب شحوب الأدب السياسي على نحو ما يفهمه ناقد أمريكي، لكنه، لم يدرك حجم الحضور المراوغ والملتبس للمعني السياسي في الأدب العربي. حتى أصبح حاضرًا بين السطور وبصفة شبه دائمة في كل نص تقريبًا. وإلى هذا المعني يشير إلى رأي الناقدة المصرية (فريدة النقاش ) التي تصف نوعين من الهجرة يُدفع الكاتب إليهما قسرًا: الهجرة خارج الوطن، والهجرة داخل الذات في آلاف من الأقنعة ومن الأسماء المستعارة، والمخابئ المجازية والعزلة الإجبارية عن الجماهير، التي هي بمثابة المنبع الحقيقي لمادة الأدب السياسي.5
تجليات الخطاب السياسي
ما نخلص إليه هنا، أن هذه الوضعية المعقدة والمراوغة للخطاب السياسي وضعته بين موقفين متخالفين:
ـ أنه حاضر بشكل شبه دائم في الأدب العربي.
ـ أنه لايصل ـ على نحو كاف ـ لجمهور القراء. ومن ثم يفقد هذا الحضور قيمته في كثير من الأحيان.
لهذا، فإن القطع بوجود رواية سياسية في الأدب العربي على نحو خالص ومستقل كما يحدده (جوزيف بلونتر) يبدو مستحيلًا، ومن الأجدى أن نبحث عن تجليات الخطاب السياسي في الرواية العربية، بدلاً من البحث عن رواية سياسية. فربما تتقاطع هذه التجليات مع أنماط أخرى للرواية أكثر استقرارًا وشيوعًا كالرواية الاجتماعية، لتبدو أكثر رحابة في استضافة المعاني السياسية وأكثر إمعانًا في إخفائها بين ثناياها ودهاليزها الفنية الثرية. ويبدو أن هذا التصور يفسر لنا قلة استخدام مصطلح (الرواية السياسية) في الدراسات النقدية العربية، لقد عنى النقاد باصطلاحات أكثر دقة وخصوصية داخل النوع الأدبي الواحد كقولنا: الرواية الاجتماعية، أو رواية الخيال العلمي أو الرواية التاريخية… وغير ذلك، و في المقابل استخدموا مصطلح (الأدب السياسي) للإشارة إلى شيوع الموضوع السياسي وتسربه في مجمل الأنواع الأدبية. قد يكون المصطلح أكثر اتساعًا، ولكنه لا يعنى وجود أدب سياسي على نحو مستقل بذاته بقدر ما يعني : تجليات الخطاب السياسي في الأدب.
أما الباحث الفسطيني (إبراهيم طه)”6″ فيطرح تصوره عن الأدب السياسي باعتبار طبيعة الخطاب أو وجهة النظر التي يتبناها الكاتب، ويدفعنا إلى أن نتبناها معه، لذلك فالأدب السياسي ـ بطبيعته ـ دعائي ومنحاز، إنه ينطلق من أيديولوجيا واضحة، تسعى إلى إقناع القارئ بعدالة موقفها، ومن ثم التأثير فيه وتغييره، بغض النظر عن الأساليب المستخدمة، سواء كانت إخبارية مباشرة، أو مختبئة وراء أقنعة فنية، لكنها في النهاية، يجب أن تبعث برسائلها للقارئ على نحو مؤثر.
إن المفهوم الذي يطرحه (إبراهيم طه) يبدو أكثر رحابة واتساعًا، بحيث يجعل الرواية فضاءً قادرًا على استيعاب الخطاب السياسي في مستوياته المختلفة: المباشرة والفنية، وبهذا المعني يقبل أساليب أدبية مختلفة، سواء قامت على أدوات رؤيوية وتحليلية أو انفعالية غنائية أو خطابية تحريضية. وعليه فإن الباحث في معرض بحثه عن الأدب السياسي، لا يستقصي أنماط النوع الأدبي إنما يستقصي أنماط الخطاب في العمل الأدبي، بحيث يمكننا التعرف على المعني السياسي في الرواية حتى لو لم يكن متمركزا في بؤرة السرد بوصفه موضوعًا. وقد حدد الباحث أنماط الخطاب السياسي في ثلاث علاقات، تمثل كل علاقة طرفي صراع على النحو التالي:
1ـ نمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم (الشّعب والسّلطة).
من حيث اهتمام الكاتب بفضح أنظمة الحكم، وممارساتها القمعية من اعتقال ونفي وتعذيب. ويكفي الإشارة إلى أن شيوع هذا النمط، أكسب الأدب السياسي تصنيفات أكثر خصوصية مثل: أدب المنافي وأدب السجون. والرواية التي تتعرض لنمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم تلجأ عادة إلى أساليب وتقنيات غير مباشرة في تسريب خطابها إلى القارئ، فرواية ( الزيني بركات ) ” 7″ لجمال الغيطاني، تقدم نفسها بوصفها رواية تاريخية، مستوحاة من وقائع حقيقية جرت في الفترة قبيل سقوط دولة المماليك في قبضة الدولة العثمانية، تلك التي تولى فيها ( بركات بن موسى) منصب والي الحسبة. تتعرض الرواية لأشكال الفساد السياسي في تلك الفترة، حيث تحولت دولة المماليك إلى صورة مقيتة للدولة البوليسية، يتفشى فيها شراء الذمم، والخيانات، والمؤامرات، وعمليات المداهمة، والسجن، والتعذيب في أبشع صوره. وعبر القناع التاريخي يتمكن الكاتب من الإسقاط على الحاضر.
وإذا كانت رواية الزيني بركات قد اختبأت خلف قناع التاريخ لتمرر مقولاتها الفاضحة للأنظمة الديكتاتورية، فإن رواية (تلك الرائحة) ” 8″ لصنع الله إبراهيم تمثل انعطافا هاما في سرد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لأن ثمة مقومات على قدر كبير من الأهمية ميزت هذه الرواية، فهي تصدر عن تجربة شخصية عاشها الكاتب في (معتقل الواحات) وهو معتقل مخصص ـ أصلاً ـ لعتاة المجرمين، ولكنه في ظل نظام قمعي يتحول إلى معتقل لأصحاب الرأي السياسي. وقد تمكن الكاتب من رصد مئات التفاصيل التي تعطي القارئ صورة حية عن ممارسات لا إنسانية تتجاوز التعذيب والاعتداء الجنسي إلى القتل بأبشع الصور تحت سمع وبصر إدارة السجن. ولعل التجربة المعاشة، فرضت على كاتبها أسلوبًا معينًا في كتابتها، فالجمل سريعة ومتوترة واللغة خشنة خادشة، لا تستغرق في المجاز ولا تتوه في تلافيف بلاغية معقدة، إنها كتابة أقرب ما تكون إلى تسجيل الأحداث وهى مازالت تنبض بالوحشية والقسوة والألم. لهذا فالرواية تقدم لنا تجربة السجن في أقصي درجة من العنف اللغوي، لتكون شهادة حية على نمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم عامة، وبين المثقف والسلطة خاصة.
2ـ نمط العلاقة بين الأمّة والاستعمار.
حيث يظهر موضوع العلاقة بين الشرق والغرب على خلفية إمبريالية تعكس ممارسات العدوان، وتفضح أطماع الغرب وأساليبه العديدة في الاستحواذ على مقدرات الشعوب، ومن ناحية أخرى تبين درجات الوعي والقدرة على مقاومة أشكال الهيمنة.
وتمثل (موسم الهجرة إلى الشمال)9 نموذجًا بارزًا في مسار الرواية التي ترصد نمط العلاقة بين الشرق والغرب الاستعماري، حتى أنها اعتبرت نموذجًا عالميًا لرواية (ما بعد الاستعمار) وأسست لفرع جديد، ليس في مجال الدراسات الأدبية فحسب، بل وفي مجال الدراسات الثقافية أيضًا. لكن هذه الرواية المميزة مسبوقة بعلامات مهمة على نفس المسار أهمها عند توفيق الحكيم في روايته (عصفور من الشرق) 10 التي بدت كمقارنه بين حضارة غربية مادية مهددة بالتوحش، وأخرى شرقية مفعمة باليقين. وكثير من معاني الرواية تلتبس بذهنية رمزية ميزت أعمال كاتبها ولاسيما في المسرح.
أما رواية 🙁 شهرزاد على بحيرة جنيف )11 فقد مثلت منعطفا مهما في هذا السياق، فلم تكتف بالمقارنات الحضارية بين الشرق والغرب بل نقلت الشرق بكل تراثه الغرائبي إلى قلب الغرب، عندما اصطحبت شهرزاد بعضا من شخصيات ألف ليلة وليلة لتقيم على ضفاف بحيرة جنيف. تضيف الرواية مدخلا جديدا لموضوعة العلاقة بين الشرق والغرب متمثلا في سياسات العولمة والثقافات عابرة القارات. وقد حظيت الرواية بنزعة تفكيكية ساخرة، وهو ملمح ما بعد حداثي، انتشر في كثير من الكتابات السياسية التي راجت في العقد الأول من القرن الحالي.
وقد ظهر نمط العلاقة بين الأمة العربية والاستعمار على نحو واسع في الرواية التاريخية، لكنه لا يتوقف عند استخدام التاريخ بوصفه قناعًا يتخفى خلفه ليسقطه على الحاضر فحسب، بل بوصفه نموذجًا مضيئًا يحظى بسبق الاحترام لدى القارئ. إن كاتب الرواية التاريخية الذي يعالج نمط العلاقة بين الأمة والاستعمار، يعرف جيدًا مزاج النوستالجيا العربية، وتقديرها للماضي الذي يرقى إلى القداسة، بما يعجل القارئ مؤهلًا لاستقبال رسائل النص، التي تستهدف إيقاظ الوعي القومي، وتستعيد صور البطولات وحكايات المقاومة الشعبية عبر وقائع عربية، سواء وقائع ما عرف بالفتوحات العربية والإسلامية، أو وقائع صد وإحباط محاولات العدوان الخارجي على العرب، كما هو الحال في التصدي لغزوات التتار أو للحملات الصليبية، في مقابل بكائيات سردية عن ضياع الأندلس.
3ـ نمط العلاقة بين الفرد والمجتمع.
وهو النمط الأكثر شيوعًا والأكثر تعددًا في زوايا النظر وفقا لأيديولوجيا النص، كأن يعكس صراع طبقات المجتمع وطوائفه، وهيمنة رأس المال وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة. وهذا النمط يتجلى في رواية الواقعية الاجتماعية على نحو بازغ، ويتداخل في مفاصلها كافة، بحيث لا يمكن الفصل بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي. بما يشير إلى تعقد الموضوع السياسي في الواقع العربي واشتباكه بمفردات الحياة اليومية للإنسان العربي. كما يمكن ملاحظة حضوره في رواية السيرة الذاتية والمكانية على نحو ما نجد في روايتي: الخبز الحافي لمحمد شكري وشرق المتوسط لعبد الرحمن منيف. ولنجيب محفوظ نصيب وافر في هذا النمط، على نحو ما نجد في أعمال منها:ميرامار، ثرثرة فوق النيل، الحب فوق هضبة الهرم، أهل القمة، يوم قتل الزعيم…إلخ
وأهم ما يميز هذا النمط: اتساع أفقه السردي بتنوع ممارسات الواقع المعاش ومتغيراته، بما يجعله فضاءًا مناسبًا لابتكار طرائق وأساليب فنية جديدة، تسهم في تمرير الخطاب السياسي بمستجداته. فأحداث سياسية كبرى مثل: الحروب الطائفية والصراعات العرقية، فضلًا عن تفشي ظواهر اجتماعية تنشأ على مرجعيات سياسية، مثل حالات العنف، والإرهاب التي رافقت ظاهرة الإسلام السياسي، والتي في كثير من الأحيان، تمارس على المرأة، بوصفها الهامش الاجتماعي الأضعف، وفيها يتواشج البعد السياسي مع البعد النسوي في نمط واحد للواقعية الاجتماعية.
وتوقفنا رواية (حمار بين الأغاني) “12” للكاتب اليمني (وجدي الأهدل) على نموذج ناضج لحضور هذا النمط الذي ينتمي إلى الرواية السياسية. فالكاتب يسرد لنا حكاية لثلاث نساء (ثائرة وزينب وأروى) وهن نماذج مختارة بعناية للمرأة اليمنية الحديثة، التي امتلكت وعيها بذاتها بفضل التعليم. فثائرة شابة جميلة، دارسة للماجستير، على قدر كبير من الوعي بذاتها، وبقضايا مجتمعها، ولكنها تحت تأثيرات التقاليد القبلية والفقر، تضطر للزواج من عضو البرلمان العنين المسن والذي لم يحظ بأي قدر من التعليم، لكنه لا يتورع عن الكلام بسم اليسار، ويشعل حماس الناس بخطبه الرنانة، ويقدم الوعود الطيبة، في حين نراه شخصًا رجعيًا في أفكاره وممارساته. ومن ثم فهو يمثل شكلًا من أشكال التناقض والعقم في المجتمع. على أن ضلوع هذه الشخصية في العمل السياسي يكسبها بعدًا أعمق، ودلالة كلية، تنسحب على الأوضاع السياسية برمتها، ومن ثم، يحافظ المؤلف على حضور هذه الشخصية طوال الرواية، إلى جانب حضور شخصية أخرى، هي شخصية ضابط شرطة الحي، الذي يظهر بوصفه اللاعب من وراء الستار، والمحرك لكل الأحداث كما نكتشف في النهاية. وكأن الشكل السياسي الزائف المتمثل في عضو البرلمان، ليس سوى مجرد أداة في يد السلطة الحاكمة.
والرواية ترصد لتجليات الأزمة السياسية داخل اليمن متمثلة في الصراعات الحزبية والقبلية التي تنتهي من ناحية، بالحرب بين الشمال والجنوب. ومن ناحية أخري، بممارسات سلطوية لرجال الشرطة. فضابط الشرطة يتعمد لصق التهم بالمواطنين، ويقوم بإعدامهم بعد حبك سيناريوهات مضللة، ينشرها على الناس، مستغلًا الجهل، والنزعات الذكورية والعصبيات القبلية العمياء. كما نكتشف، أن ضابط الشرطة متورط بنفسه في حوادث قتل البعض، ثم يعود، ليقيم الحد على آخرين بتهمة قتلهم.. كما تعرض الرواية لممارسات التيارات الظلامية في اليمن، التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى أرض مباحة للجماعات الإرهابية، وهكذا فالرواية فاضحة لممارسات القمع المختلفة التي تمارس على المواطنين والبسطاء، مستغلين للجهل والفقر الذي يحيق بهم ويحولهم إلى كائنات مدجنة.
ولعل الإشارة إلى هذه الرواية اليمنية، وإلى روايات وقصص عربية أخرى، تدلنا على انتشار الخطاب السياسي في مجمل السرد العربي للأدب الحديث، مما يفضي إلى تعدد، وتنوع، وثراء أساليب السرد للموضوع السياسي. ليؤكد لنا من جديد، أن الموضوع السياسي، هو الأكثر تداولاً في السرد الروائي، غير أن معالجاته الفنية، أصبحت من المهارة الفنية، بحيث يبدو متداخلا في موضوعات أخرى.
التحولات
في مصر، وبعد ثورة يوليو، زادت الحاجة إلى الاختباء وراء أقنعة سرد الموضوع السياسي في الرواية. وذلك على الرغم من أنه كان مطروقًا منذ الأربعينيات من القرن الماضي، لكن روائي الموضوع السياسي، الآن، أكثر حذرا، وأكثر حنكة. إذ استمرت أساليب سرد الموضوع السياسي تتطور، وتنتقل من جيل الرواد أمثال: إحسان عبد القدوس، وفتحي غانم، ونجيب محفوظ. لتراكم حيلها الفنية، لتمرير خطابها السياسي بطرائق شتي، ولتنتقل إلى روايات الجيلين الثاني والثالث كما نجد عند: صنع الله إبراهيم، وبهاء طاهر، وهما الأكثر اشتغالاً على الموضوع السياسي. ولكنه يظهر بدرجات متفاوتة، عند مجمل كتّاب هذا الجيل الذي وصف بالجيل الستيني. وفي هذا المناخ وصلت الرواية السياسية غاية من التركيب الدلالي والتعقيد الفني في نهاية الثمانينيات، ومن ذلك نذكر رواية (زهور سامة لصقر)”13 للروائي أحمد زغلول الشيطي. التي أمعنت في لغة مجازية، وضبابية كثيفة، غير أنها لاقت هوى كبيرًا لدى بعض النقاد، لطبيعة وجهة النظر المعبرة عن أيديولوجيا اليسار السياسي.
في هذا الوقت، كان الأدباء الجدد يتأهبون لاستقبال التسعينيات بنزعة أكثر ذاتيه وبلغة أكثر شفافية، وبرغبة في تجنب الموضوعات والقضايا الكبرى، والانهماك في الأبعاد السياسية، تقف زهور سامة لصقر وكأنها آخر زهور الماضي، قبل أن يحدث الانقلاب التسعيني. فبتشجيع من النظام واحتواء المؤسسات الثقافية للأدباء الشبان ـ فيما أشتهر بسياسة الحظيرة الثقافية ـ انهمك المبدعون الجدد في رصد تفاصيل الحياة اليومية، عبر لغة تعبيرية، تحتفي بالذاتي والشخصي، وتنفلت من المعاني الأيديولوجية. ربما عاشت التسعينيات هدنة مؤقتة من الانشغال بالموضوع السياسي في السرد، لتمثل واقعية جديدة. ولكن، مع بداية العقد الأول من الألفية الثالثة، أعلنت الرواية السياسية عن نفسها من جديد، متجاوزة محظورات النشر والانتشار، فراح رواد الحظيرة الثقافية في التسعينيات ينظرون بدهشة مستنكرين هذا الانتشار الهائل لرواية: ( عمارة يعقوبيان ـ 2000م ) لعلاء الأسواني.
هذه الرواية لاقت مقروئية واسعة لأسباب عدة لا تهمنا هنا، لكن ما يهمنا هو أن الرواية نجحت في تشخيص الواقع السياسي على نحو أكثر وضوحًا وشفافيًة رغم نزوعها إلى الواقعية الاجتماعية، قد يعود هذا لبساطة الأساليب اللغوية التي تقف في كثير من الأحيان عند المستوى الإشاري ونزوعها للمباشرة التي ألقت بظلها على لغة الحوار فبدت طويلة وصريحة قدر الإمكان. وقد يكون ذلك، نتيجة للاستخدام السطحي للرمز ليشير ـ بما لا يدع مجالًا للشك الفني ـ إلى وقائع وشخصيات يعرفها القارئ ويعاصرها. حتى كاد أن يكون الهم الأول لقراء هذه الرواية، هو مضاهاة شخصياتها ووقائعها، بشخصيات ووقائع شهيرة في نظام الحكم. وعلى الرغم من الرفض النقدي الذي قوبلت به الرواية لأسباب فنية، فقد حققت تداولًا قرائيًا واسعًا بين فئات مختلفة من القراء. ربما أكثرهم لم يكن على علاقة ما بالإبداع الأدبي. لكن هذا يعني، أن الموضوع السياسي أصبح مطلوبا من جديد في الحياة اليومية، ولم يعد هما مقصورًا على النخبة من المثقفين والسياسيين. لقد صار الشارع المصري سياسيًا بامتياز، والناس أصبحت تدرك الموضوع السياسي أينما كان، سواء على صفحة جريدة أو على قناة تلفزيونية أو على شبكة الإنترنت، أو في رواية، مادام الخطاب متواصلًا مع وعى الناس ومعبرًا عن همومهم السياسية التي تمس حياتهم اليومية. والأفضل، أن يكون مباشرا، وقادرا على فضح المشهد السياسي الذي بدا أنه، في حاجة إلى تغيير.
لهذا، لا أجدني مبالغًا في القول: إن رواية (عمارة يعقوبيان ) مثلت لحظة فارقة في تاريخ الرواية السياسية العربية. هذه اللحظة بدت وكأنها تنهي تاريخ الاكتناز بتقنيات وأساليب الرمز، والإيحاء، والتعبيرات المجازية المعتمة التي وجدناها في رواية (زهور سامة لصقر) التي صدرت في بداية التسعينيات. ربما يشير ذلك إلى زيادة في مساحة حرية التعبير في هذه المرحلة، لكن ما يهمنا هو في هذا الصدد، أن الشارع المصري بتنوع ثقافته، أصبح قارئا للأدب السياسي، بما يحفز مشاعر الغضب لدى الجماهير. فلم يكن من قبيل الصدفة، أن شهد العقد الأول من الألفية الثالثة دفقًا مثيرًا ومتتابعًا نحو رواية سياسية أكثر تخففًا من الالتباس بالواقعية الاجتماعية وروافدها، وأكثر انغماسًا في الموضوع السياسي وكشفًا له. بل هي تستهدفه بالأساس، لتصبح جديرة بمصطلح رواية سياسية على نحو ما يراها جوزيف بلونتر..
فطوال العقد الأول من الألفية الثالثة، احتشد المشهد الأدبي بمصر بدفق من الروايات التي ما لم تكن سياسية على نحو مباشر، فهي تقتنص أي فرصة، للزج بالموضوع السياسي فيها. هكذا يدخل على خط الكتابة الأدبية صحافيون وناشطون سياسيون وحقوقيون، وأصحاب تجارب شخصية أو مهنية خاصة على ما نجد في رواية ( تنفس صناعي -2010م) لعمرو حسني، الذي سجل فيها يوميات أخصائي أجهزة طبية، ولامست جانبًا من فضح الفساد في المستشفيات، ولاسيما الأطفال المبتسرين الذين يتفحمون داخل الحضانات. عمومًا، لم تعد الرواية السياسية، فن النخبة وحدها ولا حكرا على مناضلي اليسار.
كان رامي المنشاوي صاحب رواية (تمارة )14 صحافيًا، عاش تجربة اعتقال قصيرة بسجن برج العرب إثر مشاركته في تظاهرات عمال شركة المحلة للغزل والنسج، وعندما خرج عكف على كتابة روايته، التي اتسمت بالتصريح المباشر في أحيان كثيرة.. وقد صنفت الرواية وفقًا لموضوعها بين ما يسمى بأدب السجون. وهى تسمية أضيق كثيرًا من الأدب السياسي. إن الغالبية العظمى من الروايات السياسية في العقد الأول من الألفية الثالثة، كانت تدرك هويتها بوصفها أدبا سياسيا. وكان عليها أن تمارس موائمات فنية عديدة، بين وضوح المعني السياسي، وجماليات المعنى الأدبي، وتكتشف طرائق جديدة في التعبير لا تجهد القارئ بغموضها ولا تحرمه من متعة الفن وجماليات التشكيل السردي. ومن هذه الطرائق: السخرية، سواء من الواقع السياسي ورموزه على نحو إيحائي، أو السخرية السوداء من مظاهر التحلل الاجتماعي والواقع اليومي المأزوم سياسيا والذي انعكس في تفشي ظواهر مثل: البطالة والتحرش الجنسي والعنوسة والإدمان والإرهاب الديني، وغير ذلك من الظواهر المرضية التي أصابت المجتمع.
لهذا.. لم يكن من قبيل المصادفة، أن السنوات الأخير قبيل ثورة الخامس والعشرين من يناير، ازدهر فيها الأدب الساخر وارتبط بالمعنى السياسي على نحو بالغ. كما أن الكثير من هذه الروايات اعتمد كتًابها على خبرات وتجارب عاشوها بأنفسهم من خلال ارتباطهم بتنظيمات وأحزاب سياسية، أو انخراطهم في منظمات حقوقية، فامتلكت الرواية السياسية روحًا جديدة مجسدة لخبرات دقيقة وتفصيلية من واقع أقسام البوليس والمعتقلات والتظاهرات والتجمعات السياسية وتقارير المنظمات الحقوقية.
وقد أفادت رواية ( شوق -) 15للناشط الحقوقي (خليل أبو شادي) التي تواكب تداولها في المكتبات مع الأيام الأولى لثورة يناير من هذه المعطيات السياسية الجديدة. وعلى الرغم من أن الرواية انهمكت في نمط الواقعية الاجتماعية إلا أن الخطاب السياسي فيها لم يتستر وراء الأقنعة الفنية المعتادة، بل حقق استقلالية تجعله أكثر وضوحا ونصاعة داخل الموضوع الاجتماعي للرواية، بحيث يمكن تحديد الطابع الاحتجاجي فيها.
وثم فضاء آخر أفادت منه الرواية السياسية، وهو الفضاء الافتراضي على شبكة الإنترنت، سواء على مستوي التقنيات والأساليب المستعارة منه، أو على مستوي الخبرات القرائية والمعرفية بالموضوع السياسي. وهو فضاء اتسم بمناخ أكثر تحررًا لبعده عن المراقبة والملاحقة الأمنية، كما أنه أكثر انفتاحًا على القضايا العربية والعالمية. فرواية (إيميلات تالي الليل) 16هى رواية مشتركة بين كل من: الروائي المصري (إبراهيم جاد ) والكاتبة العراقية (كلشان البياتي ) قدما تجربة فريدة في الرواية السياسية، حيث استعارت الرواية أسلوبي: المحادثات في غرف الشات والرسائل على صفحات البريد الإليكتروني. الرواية كلها عبارة من محادثات بريدية متبادلة بين شاب مصري (حسن ) وفتاة عراقية (منار ) والقارئ يمكنه أن يعرف أن حسن ومنار مجرد اسمين افتراضيين (nick name ) وهو عرف شائع على مواقع الإنترنت. والرواية على هذا النحو التفاعلي تتناقل همومها وقضاياها السياسية في فضاء سياسي عام وإنْ تمركز حول غزو قوات التحالف للعراق، وملابسات اعتقال (كلشان البياتي ) من قبل الجيش الأمريكي.
نحو رواية سياسية مستقلة
“اسحب ذيلاً قصيرًا، فقد تجد في نهايته فيلاً”.
تقدم (حذاء فلليني ) 17 نفسها بهذه العبارة المنسوبة إلى فريدريكو فليليني، ثم تعيد إنتاجها لتفضح طبيعة الطاغية، التي في واقعها هشة مرتعشة، لكنها تتضخم بحجم مجتمعات ارتضت أن تلعب دور الضحية لتغذي دور الجلاد.
اللعب هنا ليس معنى مجازيًا محمولاً على اللغة، بل هو واقع لتفسير تبادل الأدوار. ففي لحظة ما، قد يصبح الضحية في موقع الجلاد، ليمارس نفس الدور! هكذا يتناسل الطغيان كآلية هائلة، تبدأ بذيل قصير وتنتهي بجسد ضخم.
اللعب أيضا تقنية، تظهر في اللغة الساخرة الموجعة معًا، وفي تبادل أصوات الرواة بين شخصيات الرواية، إنها منظومة متكاملة لإنتاج الطغيان. وعلى الرغم من تفاصيلها المؤلمة واحتشادها بممارسات التعذيب والقهر الجسدي، تضع القارئ في موقف حيادي، لا يخلو من الإحساس بالحنق والغضب. وربما يفكر في لحظة ما، أنه يمكن أن يكون ضحيةً لجلاد ما، أو يكون هو الجلاد نفسه.
على الرغم من أن الرواية ذات نزعة سياسية بالدرجة الأولى، فهي تحظى بمسحة تاريخانية على نحو ما يذهب ميشيل فوكو في تأريخه لآليات المراقبة والمعاقبة وولادة السجن التي تأسست عليها المجتمعات الحديثة بدعوى الحفاظ على كيانات كبرى قد نسميها النظام، أو الدولة، أو الوطن، ولكنها جميعا كافية لتبرير العنف، وإنتاج الطغاة، والجلادين، والضحايا في نفس الوقت.(18) هكذا تبدو الحكاية مرهونة بالواقع النفسي لإنسان الحداثة، كتلك التي نسميها متلازمة ستوكهولم. وهي ميكانيزم للدفاع عن النفس تحت ضغط الألم الناتج عن العقاب، يمكّن الضحية من تحمل الألم ومن ثم يغفر للجلاد، وفي لحظة ثورية، يبدأ الصراخ.
الموضوع السياسي ليس جديدًا عند وحيد الطويلة، فنجدها في روايته (باب الليل _2013م ) سجل فيها ملاحظاته عن الإرهاصات السياسية للثورة التونسية، فاتخذ من مقهى باب الليل مكانا يجمع أنماطاً ونماذج إنسانية مختلفة، تظهر على مسرح الأحداث، لتمثل نفسها بوصفها كائنات بشرية، تعاني إحباطات سياسية أبرزها من رجالات فتح الفلسطينية.
أما روايته (حذاء فيلليني) فقد دخلت منذ المشهد الأول إلى الموضوع السياسي مباشرة، وبقيت فيه حتى المشهد الأخير. كما أنها احتفظت باللغة الساخرة التي تميز بها وحيد الطويلة، لكن أهم ما يميزها، هذا السمت الفانتازي. إذ أن مدخلات التخييل في الرواية، هو الذي أعطاها الكثير من الجاذبية، وإن ظلت الشخصيات، فاقدة لحضورها الإنساني، أي أنها تظل رموزا تشير إلى عموم الواقع المجتمعي المستبد. بمعنى أن أحداثها يمكن أن تقع في أي زمان ومكان، إنه زمان ومكان فانتازي أيضًا، حتى ولو كان ثم إشارات خافتة إلى سورية. كما أن شخصياتها يمكن أن تكون ( الفوهرر أو الضابط أو الرئيس) لترمز إلى الجلاد، و(مُطيع) هو الضحية في كل صورها المستمدة من الخنوع كما يرمز اسمها، ومع ذلك فيمكنه أن جلادا لصبح (مطاع ).
هذه النزعة التجريدية للعمل جعلته صعبًا وثقيلاً على المتلقي لولا الروح الساخرة فيه، ولكنها عبرت بقوة عن فلسفة الطغيان، التي تعمل على قمع الفردانية، ومن ثم تؤسس لمجتمعات شمولية مهيئة للقيادة كقطيع. إنه ميراث ثقافي قبّلي مازال يعمل حتى الآن رغم كل مظاهر النظام والمدنية والأبهة التي يطالعنا بها المشهد الأول من الرواية، وهو يقدم لنا (مُطيع) المدعو لمحفل سياسي مهيب فيما هو نفسه، لا يعرف، لماذا هو مدعو وهو مجرد طبيب نفسي، ولا ماذا ينتظره بعد ذلك؟ غير أن الدلالة المنتجة من حضور طبيب نفسي في المشهد، تلقي بظلالها السيكولوجية على فلسفة الطغيان الأبوي.
يقول الجلاد وهو يعذب ضحيته: ” أنا مثل أبيك، لا تظن أنني أستعطفك أو أدعوك للرفق بي، بعيد عن شواربك مع أنك بدون شوارب، نتفتها لك لتصير أوسم ولن تجرؤ أن تعيد ترتيبها مرة أخرى، ألا يعنفعك أبوك، ألا يضربك وربما يحبسك! أنت بليد لا تقرأ الصحف ولا تشاهد التلفزيون وإلا لكنت عرفت أن العقيد القذافي الذي تبتل في تعبير الزنادقة قال للولد الذي قبض عليه: يا بني أنا مثل أبيك..” 19
بالتأكيد لاحظنا اللغة الساخرة المتهكمة التي تضعنا على طرف الكوميديا السوداء للواقع السياسي ووسيكولوجيا العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو بين الجلاد والضحية. السخرية أكثر أدوات تفكيك البني الهيراركية شيوعاً، وهي مطلوبة حتى لو احتوت على بعض الشطط كآلية ثورية للخروج عن النص، فالسرد في (حذاء فلليني) ليس تراتبيًا بل متشظيًا ومتقاطعًا، ثم أنه لا يخضع لبنية محاكاتية بل تجريدية، لهذا.. فإن النص يقدم عشرات المقولات المستقلة التي يمكن انتزاعها من سياقها، إنها كالشهب التي تضيء وتلمع وتخلب الأنظار ولكننا لا نعرف إلى أين تذهب، لكنها –بالتأكيد- ترجم شيطانًا ما، مثلا:
“الضابط الذكي يجب أن ينام في سريره مهما تعددت عشيقاته”
” صعب أن تقنع بائع السكاكين أن يبيع الطماطم”
” حكايات الحب تحتاج إلى طرفين، حكايات العشق لا تكتمل إلا بثلاثة”
“الخيل لا تشرب إلا على الصفير وهو لا يشرب إلا على النفير”
“كيم كاردشيان توقف العالم على قدم وساق، وتشعل الشواطئ والبحار لكنها لم تشعلك”
هل المغزى هنا، أن الكاتب يحاكي اللغة الأبوية التي تعمل على احتلال العقل قبل الجسد؟ احتلال الوعي عبر منظومة تراثية بلا غية من الحكم والنصائح والمقولات الحاسمة، وهي لا تملك من قيمة سوى هذا الرصيد البلاغي. لكنها تعيش وتستمر كميراث بدءًا من (عائشة بنت طلحة إلى كيم كاردشيان). الطريف أنه نفس الميراث الذي تسعى السرديات الحديثة إلى التخلص منه، فهل بنية اللغة في الرواية، تحاكي بنية العقل العربي؟ ربما.. فهذا الميراث متهم بأنه الذي أعاق العقل العربي وخلفه عن دخول الحداثة، وهو مُنتج طبائع الاستبداد –مع التقدير للكواكبي- في مجتمعاتنا مهما استهلكت من مفردات شكلانية للحداثة.
مظاهر استهلاك مفردات الحداثة تظهر – أيضًا- منذ الصفحة الأولى في الرواية حيث تبدأ الرواية بمظاهر وبروتكولات حفل سياسي فخيم بحضور الرئيس. ولكن أي رئيس هو؟ القذافي؟ صدام حسين؟ الأسد؟ مبارك؟ بل ويمكن أن يكون هتللر أو ستالين، أو ماوتسي تونج أو رجب طيب أردوغان. لا فرق.. كل وجوه السلطة سواء، فالرواية، ذات طبيعة رمزية نجعلها صالحة لكل زمان أو مكان، وبهذا الاتساع يمكن أن تعيش في الذاكرة القرائية، تماما كما عاشت (1984) لجورج أورويل. إنها أمثولة السلطات التي تتشابه ملامحها في كل زمان ومكان. لهذا فهي ذات فضاء مكاني واسع كما كان المقهي في (باب الليل) مكانًا في تونس لكنه متعديًا لحدودة الجغرافية إلى الفضاء العربي.
من التعريض إلى التحريض
في هذا السياق ينبغي أن نفرق في مباحثنا عن الأدب السياسي ـ الذي عاد بقوة في السنوات الأخيرة ـ بين التعريض السياسي في خطاب الواقعية النقدية التي تستهدف التغيير عبر عمليات صغرى من الجدل الاجتماعي باختلاف طبقاته وشرائحه، وبين الخطاب التحريضي الذي يستهدف المعنى الثوري على نحو مباشر.
فالأول: له اتساع الرؤية وديمومة الأثر، بوصفه كاشفا وناقدا للعلاقة العضوية بين الحراكين السياسي والاجتماعي. إنه خطاب تنموي إصلاحي أكثر منه ثوري، أشبه بوقفات احتجاجية، تستهدف شحذ الوعي، وتنشد التغيير الذاتي، ومن ثم، فهو خطاب موجه إلى الطبقة الأعمق في الوعي، ويتسلل إليها عبر شروط جمالية وبلاغية.
الثاني : ينطلق ـ بالضرورة ـ من مخطط تعبوي وتحريضي. وفي سبيل ذلك قد يستعين الكاتب بكل الأساليب والحيل الممكنة لهز وعي القارئ وشحذ مشاعر الغضب، وتحفيز الرغبة في التغيير الثوري. ومن ثم قد يتغاضى الكاتب ـ قليلًا أو كثيرًا ـ عن مواضعات الفن السردي ومواصفات الخطاب الأدبي ولغته.
وفي رواية ( الحب والزمن ) 20″ لا يتردد كاتبها في شحن روايته بكثير من حيل التحريض سواء تلك التي ترقى إلى مستوى التشكيل السردي في صوره الفنية والتعبيرية والرمزية، أو تلك التي تتاخم حدود المباشرة التعبوية في نماذجها التسجيلية والتوثيقية، فضلًا عمّا يفيد به من لغة اليوميات والتقارير والرسائل والمقالات الصحافية سواء تلك التي ترد بنصها وبأسماء كُتّابها لتضفي سمتًا وثائقيًا صريحًا. أو تلك التي يشير إليها أو يقتبس منها على سبيل الاستشهاد.
وفي هذا الصدد، سنجد نصوصًا كاملة ومنقولة عن: تقارير لمنظمات حقوقية وأحكام قضائية وتصريحات لسياسيين وتعقيبات إخبارية وعبارات مختارة وردت في كتب أو مقالات أو برامج تلفزيونية. لقد بدت الرواية، في جانب كبير منها، بحثا موثقا عن الوضع في مصر قبيل ثورة 25 يناير 2011م. لهذا لا نندهش حينما نعرف أن الرواية التي كتبت عام (2006م ) ونشرت على حلقات بجريدة الدستور عام (2007م ) تتجاوز التحريض إلى استشراف حتمية قيام الثورة كنتيجة لمقدمات الشحن التحريضي. ففي نهاية الرواية سنقرأ مقبوسًا من نجيب محفوظ، يأتي على لسان عبد ربه التائه في أصداء السيرة الذاتية.
“ـ متى تنصلح حال البلد؟
ـ عندما يؤمن أهلها أن عاقبة الجبن أسوأ من عاقبة السلامة؟
ـ وكيف تنتهي المحنة؟
ـ إن خرجنا سالمين فهى الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل21.
هذا الحوار القصير عند محفوظ، ملهم إلى درجة أنه قد يكون دافعا لكتابة رواية على هذا القدر من الشحن التحريضي والنقد المباشر، خلافًا لأقنعة الرمز والإسقاط التي اعتادها جيل الأساتذة ـ أمثال محفوظ ـ في أدبهم السياسي.
تنتهي رواية (الحب والزمن) بنبوءة عبد ربه التائه، لتفتح أفقًا استشرافيًا لحتمية الخروج الثوري، مع إقرار بطبيعة المغامرة، وقبول احتمالاتها من سلامة أو هلاك. هذه اللحظة الاحتمالية بين مسارين متناقضين هي ـ بالضبط ـ نهاية الرواية. أما بدايتها، فتختار لحظة أخرى لكنها مغامرة ـ أيضًا ـ عندما يجد المهندس (مراد عامر) نفسه على المعاش بعد حياة وظيفية بلا حصاد فيقرر أن يخلع البدلة ويرتدي الجلباب. ثم يتحول إلى صاحب مقهى. يطلق عليه مقهى الشعب. كأنما يخون طبقته البيروقراطية المسترخية، وينحاز إلى الطبقة الشعبية التي راهن عليها لإحداث التغيير. إنه إنصات دقيق لمقولة عبد ربه التائه: ” عاقبة الجبن أسوأ من عاقبة السلامة ” فهل ثمة مصادفة أم هو التصميم الكلي المسبق لبناء الرواية ؟ ألذي يضع حياة مراد عامر على المحك منذ البداية. إنها لحظة فاصلة بين مسارين متناقضين في حياة بطلها.. هل ثمة مصادفة ـ مرة أخرى ـ أم هو التصميم الكلي المسبق الذي يجعل الرمز في تسمية المقهى (مقهى الشعب ) على هذا القدر من المباشرة. إن القارئ الشعبوي حاضر في ذهن الكاتب، وعليه أن يمرر مقولاته التحريضية بأكبر قدر من الشفافية، وعلينا مراقبة الكثير من الإشارات التي ترد في الرواية لتؤكد التصميم المسبق الذي يطلبه العمل الفني. حتى لا تتحول الرواية التحريضية إلى بيان سياسي أو وثيقة تنظيمية من تلك التي تكتب بالروح والدم.
يقول الراوي مع أول سطر في الرواية:
” أثار قراري المفاجئ بشراء المقهى في أرجاء حياتي العائلية والاجتماعية زوابع عاصفة بين الاستنكار والدهشة والإعجاب والرفض والغضب والقبول المتحفظ”22 “.
كان المهندس (مراد عامر ) قد أحيل إلى المعاش بعد حياة وظيفية متواضعة وإن كانت مستقرة بدرجة مكنته من شراء مقهى كانت سببا في انقلاب كبير في حياته. ارتدى الجلباب بدلًا من (البدلة) فأصبح الناس ينادونه (يا معلم ) بدلا من (يا باشمهندس ) وتكونت له صحبة جديدة من حرافيش الأدب المهمشين. وبدأ علاقة مع امرأة شعبية (غصون ).. يبدو كل هذا بمثابة ثورة على حياته بكل ما فيها من استقرار وظيفي، وفتور عاطفي تجاه زوجته التي تعمل في الخليج. هذه حياة طالت وتجمدت إلى حد الملل، تذكرنا بالشعور العام لدى المصريين في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس مبارك.
هكذا جعل الرواي من حياة بطله (مراد عامر) وتحولاتها معادلًا موضوعيًا للواقع السياسي الذي تعيشه مصر، ومعبرًا عن الرؤية السياسية التي يطرحها، فضمن للرواية المستوى الفني الذي تمضي عليه في مسار الحياة الشخصية لبطله، سواء من حيث اللغة أو التشكيل السردي. وهذه الضمانة الفنية، أعطت الكاتب الحق في خروجات محسوبة لتفخيخ الرواية بكثير من أساليب الفضح والتحريض المباشرين..
لم يكن من قبيل المصادفة ـ أيضًا ـ أن يستهل المهندس (مراد عامر) حياته بهزيمة وطنية ونفسية هي هزيمة يونيو/ حزيران 67. ففي نفس عام الهزيمة تخرج، ثم عين مهندسًا، وتزوج زميلته (سميرة ) ثم عاش ـ بعد ذلك ـ سلسلة من الهزائم والإخفاقات الصغرى في حياته الوظيفية والأسرية بلغت ذروتها عندما اضطرت سميرة للعمل في الخليج بينما بقى ـ هوـ في الإسكندرية يجتر إحباطاته، مترديا بين تناقضاته: مرة بصحبة ندماء البار وأخرى بالحج والتردد على المسجد.
كان خط الانهيار يمضى حتى يقترب من حواف الخيانة مع نرجس زوجة صديقة مدحت العيسوي. فيما هو يغالب مخاوفه على (سميرة ) في رحلة اغترابها في الخليج وما يمكن أن تتعرض له من إغواءات وضعف قد يفضي إلى خيانتها له. هكذا تتعرض شخصية (مراد عامر ) إلى انقسام حاد بين حركتين في الحياة:
الأولى: مراجعة ماضيه ليقف على أسباب الفشل. الزمن هنا استرجاعي، والعالم حميم معجون بخبرات شخصية، وعلاقات إنسانية عاطفية، لهذا ، تنزع ـ هذه الحركةـ إلى هيمنة الراوي العليم وشغل مساحات السرد عبر لغة أدبية تنزع إلى تعدد مستويات التشكيل الجمالي.
الحركة الثانية أنية، ترصد مظاهر الانحطاط السياسي، حيث ينزع خط الزمن إلى ملاحقة الحاضر وربما استباقه، وفيه تتوسع مساحات التعبير لتتجاوز اليوميات الشخصية إلى التسجيل والتوثيق والتحليل السياسي، والاستشهاد والاقتباس، ومن ثم تنزع اللغة إلى التقريرية والمباشرة. كما يميل الكاتب إلى الإفادة من تقنيات التحريض التي تنمح المؤلف حضورًا ـ بذاته ـ في النص، يصل إلى مستوى توجيه الخطاب إلى القارئ لكسر الإيهام على طريقة بريخت، أو الإفادة بنصوص مكتملة لسياسيين وصحافيين مثل: وائل الإبراشي وإبراهيم عيسى وجورج إسحاق ويحي الجمل … إلخ. وهذا من شأنه أن يعمق الطابع التسجيلي ويزيد من كسر الإيهام أو التخييل الروائي الذي وجدناه في الحركة الأولى.
إن خطْيَ الزمن يمضيان إلى أقصى حد، غير أن كليهما يتضمن لحظة مفصلية هي بمثابة نقطة الانقلاب الدرامي في حياة مراد عامر: الأولى تأتي في بداية حياته، وتتجسد في انكساره بهزيمة 67 وهو في عنفوان طموحه لحياة واعدة. والثانية في يوم انتهت رسميًا تلك الحياة بقرار الإحالة إلى المعاش. وهي لحظة كشف، يتضح فيها الواقع حوله على نحو مباشر.
لم يتردد السارد في استخدام تقنيات سردية قديمة شاعت في الرواية السياسية، ولعل أبرز هذه التقنيات شيوعًا: الرمز والإسقاط. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه التقنيات القديمة رغم شيوعها، مازالت قادرة إضافة لمسات جمالية للعمل الأدبي، على نحو ما نجد في هذا الشاهد :” في صدارة المقهى نظرت إلى صورة حسني مبارك المعلقة، أسود إطارها، وغام زجاجها بفعل الزمن، ودخان المعسّل وأبخرة الشاي والقهوة وأنفاس المستسلمين، معالم وجهه كادت تختفي…”23 “
الشاهد السابق، يحضر في النص بقوة الرمز بوصفه معادلًا بصريًا للزمن وتأثيراته على مقهى الشعب المتهالك، وصورة الرئيس الغائمة لقد بدا المقهى قديمًا ومتهالكًا ومستسلمًا لمصيره بصورة مزرية. ومن ثم، ينعكس هذا على مستقبل مراد عامر نفسه، ويمثل تحديًا له في وقت يبحث فيه عن تغيير جذري في حياته.
نعرف أن اللغة، لما فيهما من طاقة رمزية وبصرية يحققان نتاجًا فنيًا للدلالة في تراث الرواية السياسية. ولطالما كانت الرواية السياسية وعبر تاريخها الحديث، قادرة على إرسال خطابها الفكري والأيديولوجي، ومعبرة عن وجهة نظر كاتبها عبر هكذا تقنيات أعتمد عليها المبدع في خطاب التغيير. لكنها، أمام وضعية مركبة من أشكال التداعي السياسي، وانسداد الأفق، والجمود، الذي عاشه الواقع السياسي إبان السنوات الأخيرة من حكم مبارك، لم تكن كافية، كما لم يكن التغيير نفسه كافيًا، بقدر ما كان الاستهداف التعبوي للثورة هو المنشود، ومن ثم، لامناص من الإفادة من الحيل والتقنيات الأكثر مباشرة ووضوحا من قبيل: التقارير والمقالات والإحصائيات والوثائق، وهو الاتجاه الذي سارت إليه الرواية في الأغلب والأعم ، ربما يقلل هذا من رصيدها الفني والجمالي، ولكنه، بالتأكيد، يحقق الهدف التحريضي، الذي نظن أن الرواية كتبت له. ولا مناص ـ أيضا ـ من رصد واستقصاء دقيق لكل خطايا النظام، فلا يكاد الكاتب يفلت واقعة دون الإشارة إلهيا، كواقعتي الاعتداء على القضاة، أو تصدير الغاز لإسرائيل، أو غير ذلك من خطايا النظام. ربما يبدو أن كثيرًا منها يقتحم السرد ويهبط عليه من خارجه، ولكنه في سياق التحريض والاستشراف الثوري، يجد ما يبرره.
الثورة وما بعدها
إذا كانت مهمة الخطاب التحريضي الذي تصاعدت وتيرته في السنوات الأخيرة على المحيط العربي هي التغيير الثوري، فلقد كان من المتوقع، أن تأخذ الرواية السياسية دفقة إنعاش جديدة لكسر حاجز الخوف، ونقصد بذلك المهمة التعبوية للوعي الجديد الذي قامت من أجله الثورات. وعي يستهدف إعادة بناء المجتمعات وبث روح جديدة لتحقيق الأهداف الثورية من: عيش كريم وحرية وعدالة اجتماعية. من طاقة على العمل والبناء والتغيير الاجتماعي. غير أن الواقع الروائي يفاجئنا بغير ما نتوقع، فما يكاد العام الثالث من موجة الثورات ينقضي، إلا ونحن نشهد تراجع الموضوع السياسي في الرواية إلى حد بالغ وكأن الأدباء قنعوا بلحظة الدفق الثوري التي طالعتنا بعدد كبير من الروايات خلال ثلاث سنوات قليلة، هي عمر الحراك الثوري وروافده منذ الثورة التونسية.
ومن خلال ملاحظاتنا للكتابات التي رافقت سنوات الحراك الثوري في مصر، وجدنا أحداثها تكاد لا تبارح الطابع التسجيلي لوقائع ميدان التحرير. الطريف أن أي من روايات هذه الدفقة لم يحقق القيمة الفنية التي حققتها الرواية السياسية فيما قبل الثورة، ربما بسبب فقر الخيال الفني فيها، وانهماكها في التسجيلية. وقد اطلعت على عدد لا بأس به من هذه الروايات، وهالني حجم التشابه الكبير بينها، وظني أن هذا التشابه ليس سببه أنهم كانوا يكتبون موضوعًا واحدًا، ولكن أنهم كتبوه من زاوية واحدة. هذه الزاوية التي اختصرت التجربة الثورية في ميدان التحرير وأيامه.
في الحقيقة هذه زاوية مستبدة ومهيمنة بسبب التركيز الإعلامي عليها سواء على شاشات التلفزيون أو على مواقع التواصل الاجتماعي. هذا التناول الذي صور بالصوت والصورة وبالتحليل الدقيق لتفاصيل الواقع اليومي للثوار في الميدان، ليس فقط الوقائع الكبرى مثل الواقعة التي أطلق عليها موقعة الجمل، أو وقائع سقوط الشهداء أو دور اللجان الشعبية وغير ذلك، ولكن حتى اللافتات والشعارات المبتكرة المطعمة بروح السخرية والتهكم والأغاني الثورية المستعادة من الذاكرة الوطنية القديمة، وأسلوب الحياة اليومية للمعتصمين بالميدان، والعلاقات الإنسانية التي تولدت فيه سواء فيما بين الثوار وبعضهم البعض كذلك الذي يصور العلاقة بين المسيحيين والمسلمين على نحو نمطي مفتعل، أو بين الثوار في الميدان، أو بينهم وبين الباعة الجائلين في الميدان وغير ذلك من مشاهدات، وسواء كان كتابها عايشوا هذه المشاهد بأنفسهم أو شاهدوها عبر شاشات التلفاز أو قرءوا عنها عبر الإنترنت. فإنهم دون وعي وقعوا في تنميط ليس للرواية السياسية فحسب، بل للفعل الثوري نفسه، الذي أصبح طوبايا متجاهلا للخطايا التي أحاقت به فانحرف عن مساره. لقد بدا لي أن كل الروايات التي دخلت السباق التسجيلي لأحداث الميدان، تآكلت سريعا ولم تعلق بالذاكرة الأدبية طويلًا. قد يدعونا هذا إلى أعادة النظر في العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا. لكننا في النهاية، علينا الاعتراف، بأن الثورة وحتى الآن لم تنتج لنا عملًا روائيًا كبيرًا نجح في تجسيد التجربة الثورية جماليًا بكل هواجسها وتداعياتها على المجتمع وأطيافه المختلفة.
لقد كان صوت الميدان أكثر سطوة فانحصرت الرؤية الثورية بين الانطباع العام والتجربة الشخصية لكتابها وبين النزعة التسجيلية المباشرة. لهذا يمكن اعتبار أن هذه الروايات أفادت من لحظة الحماس الثوري بطابعها الغنائي، ولم تصل إلى المستوى التحليلي والجدلي الذي أسفرت عنه التجربة الثورية في الواقع المعاش وعلى الأرض.
نحن في النهاية أمام مسائلة تاريخية عن مستقبل الأدب السياسي، بعد أن أصبح العالم مكشوفا، ومتاحا بكل أسراره وألاعيبه السياسية، ليس فقط على الفضائيات والصحف اليومية، بل على شبكات الإنترنت والمواقع التي تصل لأدق الأسرار كموقع ويكيليكس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ