بعض الباحثين لديهم ولع بالاكتشاف والتنقيب في تاريخ الثقافة والمعرفة الإنسانية، فإذا بهم يعيدون اكتشاف ما تجاهله التاريخ أو طويت صفحاته، ومثل هذه الرحلات الكشفية تساعدنا على إعادة قراءة التاريخ وترتيب أولوياته وشواهده.
وأنا ـ شخصياً ـ طالما نظرت إلى زمن النهضة الأدبية في العصر الحديث بكثير من الإكبار، إنه زمن الإحياء والبعث، وطلوع الحداثة العربية في فجرها الأول، لكنى ـ كأغلب الناس ـ لم أدرك سوى الحراك المباشر (الرسمي) الذي اعتمده التاريخ وأدخله في ذمته الواسعة، ففي غمار هذا الاحتفاء ببعض عصور الازدهار، ننسى أنها كانت عصوراً مثل كل العصور، فيها الرسمي والمعلن، وفيها المهمش والمسكوت عنه، وأنه ـ ربما ـ ما خفي كان أعظم.
أما الشاعر والباحث المحقق (محمد أبو المجد) فقد لفت انتباهه، أن ذاكرة التاريخ وقرابة ثمانية قرون، لم تحفظ لنا اسما لشاعرة عربية أو أديبة نابغة من النساء بعد ولادة بنت المستكفي (الشاعرة الأندلسية ـ 1091)، إلا امرأة مصرية من أصول (تركية كردية جركسية) واسمها عائشة التيمورية (1840).
هذه السيدة، وصلت ما انقطع، ومدت جذورها مع شواعر عربيات طالما طرزن تاريخ الشعر العربي بنفحات نسوية حانية وعذبة من مثل: هند بنت النعمان بن المنذر وليلى العفيفة وجليلة بنت مرة والخنساء وليلى الأخيلية وعليه بنت المهدى وغيرهن.
ولدت عائشة التيمورية في نهاية عصر محمد على وعاصرت ستة من أحفاده آخرهم عباس حلمي الثاني، أي أنها عايشت فترات النهوض المبكر للحداثة العربية ولابد قد أسهمت فيها إلى جوار بعض رجالها من أمثال: رفاعة الطهطاوي وعلى مبارك وجمال الدين الأفغاني ومحمود سامي البارودي.
كان محمود سامي البارودي قد ولد قبل عائشة التيمورية بعامين فقط، فيما توفت ها قبله بعامين، ومعنى هذا أنهما عاشا ـ معاً ـ تجربة إحياء الشعر العربي من مرقده الطويل، وبعثة من جديد بعد إفادات واضحة من مستحدثات العصر، وتخلص شجاع من أسمال الضعف الذي لحق بالشعر العربي عبر عصور اضمحلاله، التي كانت تمثيلاً لعصور الانحطاط السياسي والثقافي الذي لحق بالأمة العربية وتجلى على أوضح ما يكون خلال فترة الحكمين: المملوكي والعثماني.
وهنا تبدأ الملاحظة الثانية في ذهن الباحث محمد أبو المجد، عندما لاحظ أن التاريخ يكاد يختزل حركة الإحياء والبعث في شاعر واحد هو محمود سامي البارودي، ثم تأتى من بعده قائمة تلاميذه النابغين من أمثال: أحمد شوفي وحافظ إبراهيم، في حين يكاد التاريخ يغفل دور عائشة التيمورية إلا لماماً، فقد يرد ذكر لها بوصفها نموذجا نسويا نزل إلى معترك الحياة الثقافية مبكراً بما يجعلها تستأهل ريادة خاصة في مجال العمل النسوي، أما عن دورها شاعرةً فيكاد لا يذكره إلا القليل.
ويكفي الإشارة إلى أن آخر طبعة لديوانها (حلية الطراز) كانت عام 1952، ومنذ تلك اللحظة وحتى هذا الوقت الذي قرر فيه (محمد أبو المجد) النبش في تاريخ التيمورية وإعادة طبع ديوانها لم يطبع شعرها في أي مكان.
كانت آخر طبعة قد صدرت وبجهد خاص من العائلة التيمورية (لجنة نشر المؤلفات التيمورية)، وعلى الرغم من أن الديوان مقدم له بشهادات من بعض أديبات هذه الفترة منهم: ” سهير القلماوي وبنت الشاطئ والأميرة قدرية حسين ” فضلاً عن دراسة مستفيضة لمي زيادة (الآنسة مي) التي عاصرت التيمورية وتعلمت عنها الكثير، إلا أن كل هذا لم يكن كافياً لوضع اسم التيمورية في مكانة الريادة الشعرية جنباً إلى جنب مع البارودي.
ملاحظات مثل هذه، دفعت الباحث (محمد أبو المجد) إلى البحث عن تراث عائشة التيمورية الشعري وجمعه وتحقيقه ليقف على رؤية واضحة عن ديوانها (حلية الطراز) وينشره في طبعة مزيلة بفهرس للقوافي الشعرية، ومقدمة هي ـ في الحقيقة ـ بحث مطول، في سيرتها الحياتية والفنية، فإذ به يكشف لنا عن شاعرة نابغة.
وفي غمار هذه الرحلة وقف الباحث على كثير من المفارقات المؤلمة التي طالت تجربتها الشعرية، أقلها الإهمال والتلف الذي تعرضت له النصوص وضياع الكثير منها وتجاهل نقاد ومثقفي عصرها لإنتاجها الشعري، وقلة المنشور منه، حتى أن جريدة مثل الأهرام التي كانت تتابع شعر شوقي وآخرين لم تنشر لها قصيدة واحدة.
وقد يظن، أن ارتباط عائشة بالبلاط الخديوي، وقربها الشديد من القصر ، وكونها سليلة الأتراك ولجراكسة ، ومدائحها الكثيرة في العائلة الخديوية ـ كل هذا ـ قد عزز الرغبة في تجاهلها ، وهذه ـ كلها ـ أسباب كانت تؤهلها للتجهيل بعد ثورة يوليو ( 1952) ،التي نظرت إلى بعض أعلام هذه الفترة ـ الذين ارتبطوا بالبلاط ـ نظرتها إلى العهد البائد ، وكان من الممكن أن تطال ـ هذه النظرة ـ شوقي أيضاً ، لولا وطنياته ومواقفه النضالية ضد الإنجليز وانحيازه إلى العامة في سنواته الأخيرة ولاسيما تلك الفترة التي استثمر فيها صوت محمد عبد الوهاب .
وهذه كلها أسباب لم تأخذ بها (عائشة التيمورية) ولم تظهر في شعرها، بل إن الباحث قد لاحظ أن شعر عائشة يخلو من البعد الوطني، ومن ذكر للوطنيين من معاصريها مثل أحمد عرابي وجمال الدين الأفغاني، وهذا يشير إلى تأثير السياسة ودورها السلطوي في رسم أبعاد التاريخ الثقافي. لكن عائشة لم تكن راغبة في تسييس فن الشعر، وربما يكون هذا موقفا نسوياً معارضا للصبغة العسكرية لمحمود سامي البارودي.
توفت عائشة التيمورية على مشارف القرن العشرين (1902)، أي قبل وفاة البارودي بعامين، وحيث كان (البارودي) أحد رجال السلطة بتوليه للوزارة مرتين، وأحد رجال النضال السياسي بضلوعه في الثورة العرابية التي انتهت به إلى المنفي فأنشدنا فيه أعذب قصائد الحنين إلى الوطن. وفي حين تصور لنا كتب التاريخ الأدبي انفراد البارودي بريادة الإحياء، يأتي صدور ديوان عائشة التيمورية (حلية الطراز)، ليكشف لنا المكانة الشعرية الهامة والنضج الفني والجمالي الذي وصلت إليه تجربتها، بحيث يضعها جنباً إلى جنب مع تجربة البارودي، وبحيث تقاسمه الريادة الشعرية بشكل عام، ومن جهة أخرى تنفرد بريادة نسوية لا يمكن إنكارها ولا تسمح لأحد بتجاهلها.
هكذا يمكن تفسير الأمر، إن الإحياء الشعري طار منذ البداية بجناحين (نسوى وذكوري)، ولعل هذا ما منحه قوة التحليق المستمر والذي مازال يتجدد، فمرة يحط في العراق على بيت نازك الملائكة، وأخرى يحط في الشام على رأس أدونيس، وهكذا.. لم يعد ممكنا للشاعر الحديث أن يفاخر مثل جده (حسان بن ثابت) بأن شيطانه ذكر وشيطان الآخرين أنثى.
لكن هذا الجناح النسوي كان هضيماً ضعيفاً أشبه بجناح عصفور إذا ما قارناه بجناح نسر ، هذه صورة مجازية توضح الفارق بين قوة حضور محمود سامي البارودي بالمقارنة مع ضعف حضور التيمورية ، فالفحولة والذكورة كانتا دائما من صفات الشعر العربي ، ولم تكن عائشة ـ مهما كان نسبها للعائلة التيمورية ـ سوى امرأة ، وهذه وضعية ـ في زمنها ـ كانت كافية لأن تخرجها من التاريخ الأدبي تماماً ، وتحبسها في الحرملك شأنها شأن غيرها من النساء ، لكن التيمورية لم تكن فقط شاعرة ملهمة ، بل مناضلة واعية بذاتها كأنثى وواعية بلحظتها التاريخية ، ودورها في تجديد الشعر وريادة النساء الأديبات في عصرها .
غير أن ثمة عوامل عديدة عطلتها عن مسيرتها، بعضها يتعلق بكونها امرأة والأخرى لعب فيها القدر دوراً كبيراً، وهذا ما تطلعنا عليه سيرتها الذاتية ً.
مسيرة الشعر والآلام في حياة عائشة التيمورية
حياة عائشة التيمورية ثرية بالمفاجئات، ومشحونة بالملابسات الدرامية المؤلمة، ولا أحد يدري إن كانت هذه الحياة هي التي أسهمت في صقل موهبتها على نحو باكر، أم أنها كانت عاملاً من العوامل التي أدت إلى تهميشها وتعطيل الدور البازغ الذي كان يمكن أن تلعبه في تاريخ الشعر الحديث على نحو ما لعبته ـ فيما بعد ـ واحدة من بنات جنسها (نازك الملائكة).
تزوجت عائشة التيمورية في سن مبكرة وفقا لعادات الزواج في هذا الوقت ، وكانت في الخامسة عشرة عندما اقترن اسمها باسم ( محمد توفيق بك الإسلام ولى ) ، وهذه سن تبدأ فيها أزهار الموهبة في الطلوع ، ومن ثم فإن التجربة العاطفية والنفسية للزواج ، وما اتبعه من مسئوليات جديدة تقع على عاتقها زوجةً وأماً كانت كافيةً لصرفها عن الشعر والثقافة ، وتعطيل النبوغ الذي كان قد بدأ للتو في الطلوع، ولاسيما أنها اقترنت بتجربة اغتراب أيضاً، فبعد الزواج سافرت عائشة مع زوجها إلى استانبول ( 1854 ) ، وأمضت هناك ست سنوات، فعانت زهرة الإبداع قسوة اقتلاعها من التربة التي نمت فيها ، لكن الهزة التي كانت أكثر عنفاً في تجربة الزواج تمثلت في وفاة زوجها بعد ست سنوات ـ تقريباً ـ عاشتها معه، وهكذا كان عليها أن تعود إلى مصر، أرملة بصحبة أربعة من الأطفال لتزيد مسئولياتها ، وتتدثر بثياب الأرامل الثقيلة.
ولا شك أن تجربة الترمل في هذه الفترة كانت أشد قسوة مما هي عليه الآن ، ولا سيما لامرأة شابة في مقتبل عمرها ، لكن عائشة امتلكت إرادة قوية ، ففي غمار انهماكها بشؤون المنزل وتربية الأولاد أكبت على كتب الشعر العربي ونهلت من عيونه ، كما كانت نهمة في اطلاعها على الكثير من مجالات المعرفة والثقافة قديمها وحديثها ، فألمت ببعض علوم الفلك والطب والنبات ، واستأجرت من يعلمها فنون العروض والإيقاع ، وخلال هذه الفترة أنجزت ديوانين هما : ديوان ( حلية الطراز ) وديوان ( شوفة ) ، والأخير نظمته بالفارسية والتركية .
تجاوزت عائشة محنتها بإرادة قوية ، وبوعي حاد بإمكاناتها وموهبتها الفذة ، التي ظهرت ملامحها الأولى في سني الطفولة المبكرة ، وذلك عندما لاحظ والدها كثرة ترددها على مكتبته ، وشغفها بالورق ، ثم تنصتها على مجالسه ، في صالونه الثقافي الذي كان يستضيف فيه كبار أدباء ومثقفي عصره ، وبهذا السلوك العفوي بدأت الطفلة تحفظ كل ما تسمع أو تتهجى قراءته من الشعر ، عندئذ عهد بها والدها إلى أثنين من المعلمين ، فحفظت القرآن الكريم ، ودرست علوم العربية من نحو وصرف وغيرهما ، كما أتقنت اللغتين التركية والفارسية ، فما كادت الطفلة تشب عن الطوق ، حتى كانت تقضى جل يومها في الاطلاع ، ورأت أمها في ذلك خطراً ، إذ اعتبرته خروجاً على ما درجت عليه النساء في عصرها، فأخذتها بالعنف تارة ، وبالحيلة أخرى لتصرفها عن غيها ، وكانت أمها جارية من أصل جرسي ، أعتقها جد عائشة وزوجها لابنه ، فلم تفهم طموح ابنتها ، واستنكرت غوايتها وانصرافها عن شؤون المنزل وشغل الإبرة إلى الورق والحبر ، غير أن أبا عائشة حسم الأمر ، ومنع زوجته من التدخل في حياة الطفلة ، وكان على عائشة أن تكون عند حسن ظن أبيها ، وأن تثبت له أنها جديرة بهذا الامتياز .
يقول محمد أبو المجد في مقدمة الكتاب :”وحدث ذلك في موقف أشبه برومانتيكيات العصور الوسطى في أروبا ، فقد كانت عائشة ذات ليلة تقف في مشربية منزلها ، وكانت الليلة ليلة بدر ، فجاءتها مربيتها ووضعت باقة ورد أمامها ، فراق ذلك لعائشة ، وبينما هي كذلك نادتها أمها ، فتركت الورد أمانة لدى البدر ، أو هكذا هيأ لها خاطرها ووجدانها ، ولما عادت من محادثة أمها وجدت أن ريحاً قد بددت الورد ونثرته ، فحزنت لذلك ، وراحت تفكر فيه ، ثم كان وهي على هذه الحال ، أن جادت قريحتها ببيتين من الشعر الفارسي ” ، وعندما أسمعتهما لأبيها ، أنشرح صدره ، فشجعها على المزيد ، وراح يفاخر بها بين ضيوفه من أرباب القلم ، فكانت أعجوبة بينهم ، لما عليه من تمكن في النظم على السماع ، ومن فصاحة البيان في اللغات الثلاث : العربية والتركية والفارسية ، فيما لم تبرح بعد عامها الثالث عشر .
بعد عودتها من تركيا، كان عليها أن تحرق المراحل التي فاتتها، ولم تمض بضع سنوات حتى بزغ نجمها وذاع صيتها، ونضجت تجربتها الشعرية، غير أن القدر أبى ألا يتركها لحال سبيلها دونما جراح، إذ رزئت بموت ابنتها (توحيده) بعد مرض قصير، وقبل موعد زفافها ببضع أسابيع، وكانت (توحيده) أقرب بنات عائشة إلى قلبها، وأقدرهم على فهم التركيبة النفسية للممسوسين بالشعر، حيث أن البنت قد أبدت نبوغاً شعريا ورثته عن أمها، وحيث كان توارث الأدب معهوداً في العائلة التيمورية.
كان موت ( توحيده ) صدمة مروعة لعائشة ، امتدت آثارها لعدة سنين ، هجرت فيها الورق ، توقفت عن قرض الشعر ، إلا من بضع مراثي في ابنتها ، وأحرقت بنفسها كثيراً مما نظمته من قبل ، وعاشت في عزله وصمت ، واتخذت لنفسها سرباً من القطط ، تؤانسها وتداعبها ،غير أنها لم تفارق الحزن لحظة، حتى قيل إن المشيب أدركها قبل الأربعين، ودخلت في نوبات من الاكتئاب والاضطراب النفسي ، ولم تزل هذه النوبات تعاودها ، حتى انتهت ـ في أواخر أيامها ـ إلى نوع من المرض العقلي ، وكانت تنتابها نوبات من الإفاقة تعود فيها إلى كتبها وشعرها بتشجيع من ابنها ( محمود ) ، لكن كثرة الاطلاع والبكاء أصابتا عينيها حتى ضعف بصرها وكانت تعانى آلاما مبرحة .
والطريف أنها سجلت تجربتها مع رمد العين في أكثر من قصيدة (تربو على 10 قصائد) منها ثمانية أنشئت خصيصاً في هذا الموضوع حتى يمكن تسميتها بالعينيات على الرغم من أنها لم تنظم واحدة منها على حرف العين. فعلت هذا في حين لم تصلنا سوى قصيدة واحدة في رثاء ابنتها توحيدة، اتمتها في خمسين بيتاً، وهي حسنة الديباجة متينة التراكيب عذبة في ألفاظها ومعانيها إذ تعد من عيون شعر الرثاء وقد بزت بها مراثي الخنساء، وربما تكون قد توفرت على نظمها بكل هذه الروعة بعد مدة من وفاة ابنتها، كما يمكن أن يكون بعض ما نظمته في الأيام الأولى من الفجيعة قد ضاع بين ما ضاع من شعرها، والقصيدة ذات طابع حواري تتعدد فيه الأصوات، ويكثر فيها الالتفات، إذ تقول على لسان ابنتها:
أماه قد سلفت لنا أمنية يا حسنها لو ساقها التيسير
كانت كأحلام مضت وتخلفت مذ بان يوم البين وهو عسير
عودي إلى ربع خلا ومآثر قد خلفت عنى، لها تأثير
صوني جهاز العرس تذكاراً، فلي قد كان منه إلى الزفاف سرور
إلى أن تقول:
ولك الهناء، فصدق تاريخي بدا ( توحيده ) زفت ومعها الحور
ويبدو أن فكرة تمام زفاف (توحيدة) رغم موتها قد تلبتها منذ البداية، إذ قيل إن عائشة أصرت على تمام الزفاف، فوضعت ابنتها في (الكوشة) وهي ميتة، وأمضت الليلة بين رقص وفرح، حتى الصباح، إذ هي تبدأ في الصراخ والعويل حتى سقطت مغشياً عليها.
تركت عائشة ـ من غير الشعر ـ ثلاثة كتب أولها: ” نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال ” وهي سيرة ذاتية صيغت في أسلوب أدبي وروائي، ولعل الطابع السير ذاتي للرواية النسوية العربية ـ الذي مازال ملمحاً هاماً فيها ـ قد بدأ مع هذه التجربة.
وكتابها الثاني كان مسرحية، كتبت عليه:” تمثيلية اللقاء بعد الشفاء “
أما كتابها الثالث: ” مرآة التأمل في الأمور “، فكان بحثا مطولا في الاجتماع وشؤون الأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة، وأهمية تعليم النساء، ولما كان الموضوع جديداً والتناول جريئاً، فقد أثار الكتاب ضجة بين الناس، حتى انبرى أحد الفقهاء، واسمه عبد الله الفيومي فأفتى بمصادرة الكتاب ومنعه من التداول، ولم يغفر اجتهادها في تفسير بعض آيات القرآن الكريم، ولم يفهم أن الكتاب لا يعدو كونه مبحثاً في الاجتماع والسلوك، وليس كتاباً في التفسير أو الفقه.
نظمت عائشة في الأغراض الشعرية القديمة مثل : المدح والرثاء والنسيب والفخر وغيرها ، كما نظمت في أغراض كانت محدثة على الشعر العربي مثل الاجتماعيات، غير أنها ـ في جميع الحالات ـ لم تلتزم التقاليد القديمة ، فعملت على التخلص منها والتجديد في لغتها ومعانيها ، وابتكرت من الصور كثيراً مما استوحته من معطيات عصرها ولغته وفنونه وعلومه ، فظهر كل ذلك في شعرها سمة امتياز وتفوق على نحو ما نجد في غرضي : الوصف والشكوى ، إذ تسرب إلى شكاواها ـ مما أصابها من رمد ـ نوع من المناجاة والطرافة في وصفها الممتع لمؤرقات العيون ، لكن أكثر ما لفت الانتباه ، هو جرأتها في تناول النسيب ، الذي قاربت فيه كثيراً من معاني الغزل وتلاعبت فيه بفنون البديع ، فأثار حنق البعض أن تتغزل امرأة برجل كما يتغزل الرجال بالنساء، فكتب أحدهم مقالاً في هجاء عائشة والتعريض بها وأسماه ( الإصابة في منع النساء من الكتابة ) ، تقول عائشة في إحدى غزلياتها الطريفة التي تتلاعب فيها بالبديع وتشاكل أساليب النحاة وأقوالهم :
سيف بجفنك دائما مسلول ما أنت عن فعلاته مسْول
شهدت عيونك أن لحظك قاتلي وقصاصه حق وهن عدول
لما رأت منصوب قلبي وهو في صلة العذاب لوصله موصول
بنيت على كسر وعامل سحرها تقديره أن الشجي مقتول