بين يدينا رواية عربية تجري أحداثها متدفقة عبر ٢٦٠ صفحة تقريبا من الحجم المتوسط، لغتها عربية فصيحة، وأسلوبها سلس بمتاز برشاقة العبارة.
من السطور الأولى يهيئ القارئ نفسه ومخيلته لاستعادة الموروث الديني والتاريخي الملازم لنبينا يوسف عليه السلام، إلا أننا نتفاجأ بعد إبحار بسيط أن التناص ليس تناصا حرفيا كاملا، وإنما هو في حقيقته اشتقاق للشق الانساني من ماهية الشخصيات الدينية الأربعة ( ابراهيم/ اسحاق/ يعقوب / يوسف) المذكورة في المتن، والتي هى بطبيعتها البشرية- ليس النبوية المكلفة- محور الأحداث من البدء حتى الانتهاء.
وأي قارئ مثقف حصيف سيدرك مدى الجهد الذي بذله الكاتب والحرص الشديد ألا ينزلق ولو بهفوة في بحر المعتقد الديني، سيجد أن الكاتب – رغم استقائه معلوماته من الكتب الدينية القديمة كالتوراة والأنجيل والعهد القديم خاصة سفر التكوين، وبعض موروثات تاريخية- تناول روايته من زاوية بشرية محضة متخيلة، ومدعمة بما استقاه آنفا، ليطرح علينا منتجًا أدبيا خالصا، فجعلني أرى يوسف الانسان العفيف الملتزم خلقيا الحافظ لفرجه، رغم كل ما تعرض له من مآس ومغريات، جعلني أرى يعقوب ذلك الشاب الفتي الكريم المحب العاشق المضحي، جعلني أرى اسحاق الأب العطوف الملتزم بالتقاليد الحريص على تنفيذ ما أوصاه به أبوه ابراهيم.
فيدا لي الكاتب كالماشي بخطى وئيدة على شفا جرف هار، إن غفا انهار به، وتداعت مقومات روايته وتقوضت أعمدتها الرئيسة.
اجتهد ونجح، وحرص فنجا، ووعى فسلم.
بناء الشخصيات :
__________
أجاد بناء الشخصيات كما قلت في صورتها الانسانية، فلم يشر من قريب أو بعيد لملمح نبوي أو قرينة رسالة سماوية؛ فها هو لابان التاجر الجشع الطامع دائما في استزادة، لم يتورع عن الخنث بوعده شارطا على خطيب ابنته شرطا مجحفا بغية استعباده له مدة أطول، وها هى سارة زوجة ابراهيم غيور في أبشع صور الغيرة، تطلب من زوجها أن يرحل مصطحبا معه أمته هاجر ووليدها اسماعيل، وها هى زليخا امرأة عاشقة سحرها جمال يوسف وفتوته، فنست الدنيا وما فيها وباعتها كلها مقابل لحظة لقاء حميمي مع من عشقت، وتمنت أن تكون له أمة.
وهاهن نساء الطبقة الراقية من المجتمع يتهامسن مغتابين زليخا وولها بيوسف عبدها..النساء هن النساء في كل عصر وكل طبقة.
وهو هو تيفار عزيز مصر القوي المتين يحكم شعبا وتحكمه امرأة!
أما عن راحيل وليا ويعقوب فاقرأ وتمتع وانتشي، فهم صلب الرواية وأوتادها القائمة عليها خيمتها، رغم أن السرد بدأ بيوسف وانتهى بيوسف، إلا أن المتن كان جل تركيزه على ذلك المثلث العشقي بامتياز بكل خلجاته ومشاعره وعاطفته ودموعه وضحكاته.. ليا المحبة في صمت، وراحيل العاشقة في حياء، ويعقوب العاشق المضحي بوقته وفتوته لقاء سقف خيمة يجمعه براحيل زوجة له وأنيس وصدر يرتاح عليه.
التقنيات السردية :
____________
اعتمد الكاتب على تقنية تيار الوعي السردي الحداثية، فدوّن أحداثها دون ترتيب زمني تصاعدي أو تنازلي.
كما اعتمد أيضا تقنية تعدد الرواة، وعدم اللجوء للراوي العليم إلا فيما ندر، فجعل كل شخصية تتحدث بلسانها.
التصنيف التجنيسي:
__________
مزج الكاتب في انشائه لروايته هذه بين الكتابة المسرحية ( الاتكاء على الحوار كبنية أساس)، وبين كتابة السيناريو (تقطيع المشاهد)، مدمجًا هاتين النوعيتين من الكتابة داخل اطار سردي روائي.
وهو بذلك نحا منحى المد السردي ما بعد الحداثي الداعي إلى التخلي عما هو ثابت من أساسيات الفنون، والعمل على تداخلها في نسيج أدبي جديد، كالذي نراه في هذا العمل الأدبي ” وله “.
أخيرا أقول مهنئًا الكاتب ومباركًا له أطروحته الأدبية “وله”، ومؤكدا له على سلامته فقد أتقن الخطو بحذر شديد لا يخلو من ثقة ذاتية في المشي على حبل رفيع موصول بين جبلين ( الموروث الديني، والموروث التاريخي المعرفي).
محمد البنا
مصر في ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٣