أللحرية مذاقٌ آخر؟..
لن أتحدث عن العنوان.. فالمعنى واضح، و يحمل من التأويلات في محتواه ما يحوي.. لكنني سأترك للقارئ استقراء العلاقة بينه و بين متن القصة. سأترك لهم الخيار في تقبل فكرة الحرية التي وصفتها الكاتبة بأن لها ” مذاقٌ آخر” أيّ أثر ترك، سلبًا أم إيجابًا.
-
سمية الإسماعيل تكتبــ: الأوديبية ما بين الجنة و النار دراستي التحليلة لقصة ” العصاري الممطرة” للكاتب: الأستاذ أحمد طنطاوي.
-
مصطفى يونس يكتبـــ: كلنا دون كورليوني.
المتن:
عند قراءتي للقصة جال في خاطري أن أبدأ من نهايتها، لكنني تراجعت عن ذلك ، لأن زخمًا من الأفكار راودتني عن ذاك الخيار. فارتأيت أن أنطلق من بدايتها..
شغلت الكاتبة مقطعًا من عدة أسطر في مقدمة القصة تتحدث عن أفعال قامت بها. لم أستطع تفسير أسبابها، و لأنها ببساطة قالت “لن أبرر لأحدٍ، و لا تبرروا” و تساءلت .. لمن تتحدث الكاتبة ، ممن تطلب ألا يبرروا؟ إن كان الحديث موجهًا لنا نحن القراء، فمن الواجب أن تكون واضحة معنا و تخبرنا عما تتحدث ..بل و نطالبها بتبرير ما فعلت و إلا فإن كل ما قد قيل ،عبث لا معنى له.
أعود فأقول لم أجد في كل الأفعال التي عددتها ، لم أجد لها توظيفًا في النص.. سوى أنه زادت من عدد الكلمات.. لتجعل مما أوردته قصة لها وزنها . و لي هنا وقفة أخرى لاحقًا. إن أردنا مجازًا إيجاد توظيف لها، فهي لم تشي بشيء إلا بأن الشخصية البطل تعاني من عقدة نفسية معينة ، و في داخلها قلق ما و ثورة تسيطر على سلوكياتها التي ستتجلى لاحقًا. ” شربت الشاي بلا سكر ” ما وظيفة هذه الأفعال في القصة؟
في مجمل المقدمة استطعت التقاط رسائل قد تفيدنا في تفسير بعض سلوكيات الشخصية. ” أكلت كتابين” ، “حدثت غريبًا نهارًا” ،” توقفت عن الحديث معك ، محوتك” ، ” حرقت الرسائل” ثم ” جلست بزاوية الظل” ..
الانطباع الأول ، يجعلني أضع تصورًا للشخصية البطل ، مثقفة” أكلت كتابين” استدعت سؤالي أي نوع من الثقافة أو لأكون دقيقة أكثر ، أي نوعٍ من الكتب قرأت؟ و ما تأثير ما قرأته على نفسية الشخصية و بالتالي تحديد سلوكياتها و ردود أفعالها.
تبدأ ردود الأفعال بالوضوح شيئًا فشيئا الشخصية لها علاقة، دون تحديد حدود هذه العلاقة، بشاب قد يمثل لها حبيبًا ، لكنه لا يمثل حسب أعراف مجتمعنا الشرقي سوى ” غريبًا” لذلك وصفته كما أُشير لها من قبل السلطة العليا المتمثلة بالأب،
” حدثت غريبًا” ردة فعل أولى
“وزعت ابتسامات على المارة” ردة فعل ثانية
ثم …
بدأت تتضح لي معالم الشخصية أكثر في الجمل التي تلتها .. أستطيع القول أن هناك صراعًا داخليًا و آخر خارجي، و بالتالي تشكلت منه حركة داخلية و أخرى خارجية. الصراع الداخلي ، بين الشخصية و ذاتها، نتج عنها العقدة نفسية ذاتية ( الشخصية/ الخصم ) و الصراع الخارجي مع الخصم ( الشخصية/الأب) و ربما ( الشخصية/ الحبيب أو كما وصفته الغريب) ، تقول : ” توقفت عن الحديث معك ، محوتك ” و أيضًا ” حرقت الرسائل” ثم ( الحاجة النفسية/ خصم)
تقول :
” جلست في زاوية الظل” استوقفتني هذه العبارة لتعطيني تأويلين ، إما أن الشخصية لجأت إلى الانعزال عن الآخرين ، تجتر حزنًا بعيدة عن الأعين لأن الأمر سريٌ و يخصها وحدها ، و ترفض تدخل الآخرين فيه حتى لو كان والدها..
التأويل الآخر ، هو رضوخها لإملاءات والدها الذي استدعتها لإحراق رسائل الحبيب حتى لا يبقى ما يكشف سرها. و هنا لي وقفة أيضًا ، و يكأن الكاتبة قد سافرت بنا إلى زمن آخر ، زمن سلطة ذكورية شديدة التحكم متمثلة بالأب، مع التحفظ على أن الشخصية قارئة للكتب ، أي مثقفة، و زمن الرسائل الورقية، التي انقرضت في وقتنا هذا، عصر التكنولوجيا و وسائل التواصل الاجتماعي . و هذا بدوره جعلني أشيد بالكاتبة التي قامت بخليط من الواقعية و السريالية في نصها ، خطوة تحسب لها ، سواءً على صعيد الزمان أو المكان. كاتبة شديدة الحنكة في المناورة رغم تكرار الأفعال ، و هذا ما سنراه في المقطع الذي سيليه، بإعادة الدوران حول فكرة التعبير عن القلق، الغضب، و ثورة البركان التي بداخلها و لكن بجمل مختلفة، لتتخلص من فخ التكرار اللفظي أو الحدثي الذي يمكن أن ينصب لها. و هذه مناورة أخرى. استطاعت بها الكاتبة أن تكسب الجولة لصالحها.
و ما زال بركان الغضب يتفجر : “علا صَوتي؛ ناديتُ، صرَختُ، صَمَتُّ، ثَرثَرتُ..”، و سنرى سلوكيات موازية لهذه تؤدي نفس الوظيفة، أي الدوران حول الفكرة دون الافصاح عنها.
جلت في المقطع الثاني من القصة.. فوجدتني أعيش ذات الحالة ،و قد سبق و نوهت لذلك، لم تعطني الكاتبة طرف خيط أمسك به لأعتمد عليه في قراءتي.، إلا ما اجتهدت به أنا، و ليس كل قارئ قادر على الامساك بخيوط الفكرة و الأحداث إذا كانت مبهمة. ذات الأفعال ، و لكن بتنميق آخر و جمل لا تضيف شيئًا جديدًا إلا أنها تعمق الشعور لدينا بكم الانفعال الذي يغلف سلوكيات الشخصية، بكم الغضب الذي يعتريها. الكسر و الصراخ و تحطيم الأطباق، “كَسَرتُ عِدّةَ أطباقٍ قَصدًا؛ لأشْعرَ نَشوةً لا تُضاهَى، ” مع تحفظي على كلمة نشوة التي يجب أن تكون ” بنشوة” ، أي نشوة ستعتري البطلة بعد كسر الأطباق، هل تعتقد أنها حققت انتصارًا بذلك؟ أم هي فقط من سلسلة الأفعال غير المبررة التي مارستها، كان يمكن اختصار كل ذلك.. ماذا أفادت جملتها” ثمّ وَشوَشتُ دَفترًا بكَلِمَتينِ في أُذُنِه، ودَسَستُه تحتَ سِجادَةَ الغُرفَةِ،” في رفد النص، أو دفع الحركة للأمام.. أعود فأقول هناك جملًا جاءت حشوًا لزيادة مساحة القصة، لا أكثر.
في مقطع القصة الأخير، بدأت تتوضح ملامح العقدة في هذا الصراع مع السلطة الذكورية، متمثلة بالأب ، و التي تضع القيود و تفرض كما قلت سابقًا إملاءاتها على حياة الأنثى، في مجتمع يفرض على الأنثى أن تعيش في الظل، تسمع و تطيع. و هذا يرفد أحد تأويلاتي لجملة” جلست في زاوية الظل” و لكنه يتنافى مع ما حصل من تغييرات في مجتمعاتنا الشرقية بعد انفتاحها على العالم ، و نقبله فقط إذا وافقنا على السفر مع الكاتبة إلى زمن يعود بنا عقودًا إلى الخلف. و حقيقة الأمر أننا لن نتقبل فكرة القصة إلا إذا عدنا بالزمن خلفًا، و إلا سيكون كل ذلك عبثًا لا يقبله منطق في وقتنا هذا.
تقول الكاتبة: “تذَكّرتُ أني ضِلع أبي المُعوَج؛ هو يشتَكي أعوِجاجي، وأنا أشتَكي ألَمَ استِقامَةِ أضلُعِه”
إذًن هنا يكمن بيت القصيد، و هنا تكمن عقدة القصة التي كان كل ما سبق يمهد لها، بعد كل ما قامت به من كسر أطباق، و ما تلاها من أفعال أخرى توجتها بالصراخ، لتضعنا بشكل مباشر مع صراعها مع خصمها / الأب. الأب الذي يتناسق فكره و سلوكياته مع موروثه الثقافي الذي فرضته عليه البيئة و التربية الثقافية و الأخلاقية في مجتمعه الشرقي الملامح بكل تأكيد، عبرت عنه بكلمة” استقامته” و ما يخالفه على الضفة الأخرى رغباتها، حاجاتها، أفكارها و سلوكياتها، المرفوضة منه و التي أدينت بسببها و قادتها إلى ما فعلته آنفًا ، هذه الرغبات وصمتها بالعوج، و هذا ما عبرت عنه بكلمة ” ضلع أبي المعوج “
السؤال الذي يطرح نفسه، و الكل معني بالاجابة عليه من القراء ، ما ردة الفعل التي يمكن لشخصية، تقرأ/ مثقفة، تحب/لا تكبت مشاعرها، حدثت غريبًا / حرية الحركة دون رقيب، تبتسم للمارة/تتمتع بقدر من الحرية .. ما سلوك شخصية كهذه في وجه القيود؟ ، مع أن هناك تناقض في رسم الشخصية و أبعادها و خصائصها characteristics.
لنرى..!!
” تسَلّلتُ، إلى الدَرَجِ بالخارِجِ،”
ما الدافع إلى تسللها؟ هل هي تحت الإقامة الجبرية في المنزل ، ممنوعة من الخروج من غرفتها ؟ إذا ما فرضنا وجود علاقة حب، و اكتشاف والدها لهذه العلاقة و بالتالي رفضه لها، و تلقيها عقوبة رفض هذا الحبيب من جهة و حبسها في غرفتها من جهة أخرى. و إلا لماذا عبرت عنها الكاتبة بفعل” تسللت”؟! هذا الأمر يقودني لسؤال ما فتأ يلح عليّ منذ بداية القصة، “المكان”
تساءلت عن المكان، و جاءني الجواب من قلب التساؤل، سريالية السرد الذي خالطتها الكاتبة مع الواقعية، جعلت التحري عن المكان أمرًا لا جدوى منه، مع أنني كنت أريد الوصول لفكرة من هذا التساؤل، هل تعيش بمفردها ، أم بصحبة أهلها؟ لا يمكن أن تكون بمفردها و كل القصة تتمحور حول صراع الشخصية مع السلطة الذكورية، فلن يكون من المنطق ذلك. بقي الاحتمال الآخر، اعتمادًا على هذا الاحتمال، أطرح السؤال التالي، أين عائلتها، ذويها ، الذين غابت حركتهم في مدى القصة، هذه الحركة التي ، منطقيًا، يجب أن تكون بعد كل ما قامت به الشخصية من تكسير و صراخ و غيره من الأفعال، ألا يجب أن يكون هناك ردة فعل للأهل، أين هم في مساحة الحركة التي تحدث في النص، هذا السؤال أترك توضيحه للكاتبة، لأن لا دلائل في النص تشير لوجودهم في محيط حركتها.
هناك على درج البناء الذي تقطنه، ظهرت العيون الشرهة المتخمة بالفضول لمعرفة ما يجري:
” لكن لَم يدُقُّ أحَدُهُم بابي ليَسألَ” ؟؟؟؟؟
لم يطرق أحدهم باب بيتهم ليسأل عما يجري في الداخل، أ هو خوف من والدها؟ سؤال وراء سؤال ، فالغموض الذي يحيط بالقصة فيما يتعلق بالشخوص المحيطة بها يفتح الباب لكثير من إشارات الاستفهام. و الجواب فقط عند الكاتبة،
نتسلل مع شخصيتنا البطل، لنرى ما أحدثته بنفسها، لقد وجدت لنفسها خلاصًا من صراع داخلي خارجي، استعصت معه الحلول” التي لم نشهد لها أثرًا، و لكننا خمناها تخمينًا. لكن أي خلاص اختارته لنفسها هذه الشخصية، لنر
“ولَن أفَسِرَ سببَ تساقُطَ الدِماءُ؛ مِن يدي، ومِن ابتِسامَتي..
أملُكُ جَسَدي وأفكاري وأفعالي، ولَن أبَرِرَ قَراري بالمَوتِ، والحَياةُ بالحَياةِ..”
الموت، الموت انتحارًا.. و ” لن أفسر”
أعتذر ، و لكنك مطالبة بالتفسير !!!!
أعود لبداية القصة، “أكلت كتابين ليلًا ” و قد تساءلت عن سر هذين الكتابين، أو عن سر ما تقرأه..
و كأننا نذهب شططًا في أفكارنا لنعتنق فكر الفلسفة الوجودية، نيتشه، ديكارت، جان بول سارتر و غيرهم من رواد الفلسفة الوجودية، الذين يروجون لفكرة أن” لا معنى للحياة” بما تحمله من ثقل .. و الحل هو ” الانتحار” و كثر من فعلوا ذلك..
نهاية لا تنتمي لواقعنا، و إن حدثت فهذه من شواذ القاعدة.. أسأل الكاتبة: ” لكل قصة رسالة، فما رسالتك هنا؟
بسم الله الرحمن الرحيم” و لا تقتلوا أنفسكم” النساء آية 29
أنتهي إلى :
القصة مغلفة كثيرًا و على درجة عالية من التأثر بفكر خارجي، الفلسفة الوجودية العبثية، تنتهي بانتحار غير مبرر في النص إلا بإشارات بعيدة تستدعي التأويل و التخمين و هذا ليس في صالح النص.
لقد بدت كنسيج معقد ظهرت فيها الحاجة/ الرغبة . العقدة يجب أن تكون واضح لا تستدعي منا تأويلها.
الحركة في القصة : ظهرت الحركة في النص ضعيفة، داخلية اكثر منها خارجية عنيفة وظاهرة، ولا تتعدى كونها عقدة نفسية ذاتية ولا ترقى لمستوى من التأزم والصراع الذي يمكننا من سبر أغوار الشخصية البطلة طبقا لمفهوم( الشخصية / الخصم) بحيث تمكننا كقراء من الحكم عليها سلبًا أو إيجابًا في غياب المبررات الكافية لاتخاذ قرار الموت انتحارًا،
فهي تكرر”لن أبرر” و هذا هو العبث بحد ذاته.
الفكرة :
الحرية في مواجهة القيود الأسرية/سلطة الأب
موضوع مطروق جدًا و لم تأت بجديد. قامت فيه بخلط الأوراق ما بين الواقعية و السريالية و ظهر تأثرها الواضح كما قلنا بالفلسفة الوجودية، التي ترسخ لفكرة ” قتل النفس” كخلاص، لعدم جدوى الحياة و هو يتعارض مع قيمنا الاسلامية و موروثنا الأخلاقي. و إن حدث ذلك ، فهو من الشواذ و ليس قاعدة.
الشخصيات:
الشخصية البطل/ الخصم و هي الشخصية الفاعلة و الظاهرة في القصة، تأرجحت بين مثقفة/قوية/ثائرة/ و نقيضها الشخصية/ الانهزامية لم تعمل الشخصية على إقناعنا بذاته لتكسب التعاطف هلى أقل تقدير
الشخصيات الأخرى ضمنية،
الأب/الخصم
الغريب(الحبيب) / الخصم
لم تظهر خصائص هذه الشخصيات و تأثيرها في الصراع الداخلي و الخارجي إلا من خلال بعض الجمل و قد أوردتها سابقًا .
التقنية : حديثة لولبية تدور حول نفسها حيث استطالت مقدمتها تدور حول الفكرة بجمل تؤدي نفس الوظيفة باختلاف مفرداتها. لكن النص يفتقر في حبكته للمتواليات الارتدادية الاهتزازية وللمطارحة الفكرية المقنعة مع عدم اكتمال النسيج المشهدي بشكل يؤدي بنا إلى الاقتناع بنتيجة الصراع الدائر أو حل العقدة. .
الرسالة :
رسالة انهزامية سوداوية للغاية تتنافى والقيم الانسانية والمجتمعية، التي يقوم عليها مجتمعنا، بل و تتنافى مع تعاليمنا الإسلامية ، فهذه الأفكار دخيلة و تحض على ما لا يقبله ديننا و لا أخلاقنا. نحن مسؤولون أمام القارئ فيما يخص الرسالة التي سيتلقاها منا . فالله شرفنا في تلك الحياة، و حثنا على الصبر ابتغاء النجاة،
” و قل اعملوا ” التوبة آية 105
و قال أيضًا” و بشر الصابرين” البقرة 155
كلمة أخيرة :
الأدب رسالة فالكاتب لا يعنى فقط برصد وجرد المشاكل الانسانية ولكن يساهم في معالجتها وحلها بطريقة فنية ، وافضل القصص ما تنجح في تغيير الحياة والعالم لا ما تقرره وتكرره وتقر به..
تحياتي للكاتبة :سماح رشاد