منذ أن كنت تلميذا في قسم الاجتماع بكلية الآداب عام 9 5 9 1 كان الدكتور علي الوردي يلقي علينا محاضراته في طبيعة المجتمع العراقي لأربع سنوات متتالية .
ولم أكن قد قرأت كتابا واحدا من كتبه حتى بعد تلك الحقبة ، وقد علمت فيما بعد أن كتبه قد نفدت من الأسواق وأنه لا يروم اعادة طبعها لسبب من الأسباب .
ومرت الأعوام فوقع في يدي كتابه الموسوم ( مهزلة العقل البشري ) فلما فرغت من قراءته وجدت فيه بحثا مستفيضا عن طبيعة المجتمع العراقي يغاير تماما ما تلقيته من محاضراته في تلك الفترة الدراسية .
أما كتابه هذا ( وعاظ السلاطين ) فلم أقرأه الا في وقت متأخر ، ولعله غاب عني أن أبحث عنه في المكتبات ، فجاءني على غير توقع فلما فرغت من قراءته قلت مع نفسي أنني لم أكن أعرف عن الدكتور الوردي الا الشيء القليل رغم أنني تتلمذت على يديه . وخلاصة ما توصلت اليه أن هذا الكتاب يحمل في طياته النظرة العلمية المحايدة تجاه الصراع المذهبي الذي أبتليت به هذه الأمة .
لقد راق لي أن الدكتور الوردي نظر الى الأمر كله نظرة الباحث المعتدل دون تعصب ومن غير انحياز ، حتى ليبدو أنه لا ينتمي الى أي مذهب من المذاهب ، وأنه رجل علماني ينظر الى العلم نظرة تقديس بعيدا عن الخرافات والبدع أيا كان مصدرها .
ان دراسة التاريخ الاسلامي مهمة ليست يسيرة ، اذ يقتضي على الباحث أن يلم بالأحداث ويستخلص أسبابها ونتائجها دون حكم مسبق ومن غير أية تأثيرات عاطفية .
ويبدو لي أن الدكتور الوردي حذا حذو المستشرقين في دراسته للتاريخ الاسلامي مع فارق ضئيل في الرؤية والتحليل .
- رواية ملح السراب للكاتب السوري مصطفى الحاج حسين – الفصل السابع.
- عبدالكريم حمزة عباس يكتبــ: قراءة في كتاب (السرديات و التحليل السردي – الشكل و الدلالة)
أما وعاظ السلاطين الذين أسهب الوردي في ذكرهم فهم كحاشية السوء التي تحيط بالحاكم وتمدحه وتصفق لكل ما يفعله سواء كان هذا الفعل حسنا أم سيئا ، وأن التأخر الذي أصاب هذه الأمة يعزوه الوردي الى هذه الفئة من الوعاظ الذين لم يردعهم دينهم عن النفاق والتزلف والرياء في حضرة السلاطين .. وهم بسلوكهم هذا لم يقفوا مع الرعية المغلوبة على أمرها ولم ينصروها يوما من الأيام . لقد مرت الدولة الاسلامية بعصورها الأموية والعباسية والعثمانية بنكسات هي في الواقع استبداد السلاطين وتمسكهم بالسلطة بأي ثمن وهدرهم للمال العام والاسراف فيه وتمتعهم به على حساب الرعية التي تعاني الفقر والذل .
حكم فاصل
ويرى الدكتور الوردي أن الفتوحات طيلة هذه الفترة لم يكن دافعها الرئيسي تخليص تلك الشعوب من معاناتها وأن السيف كان هو الحكم الفاصل ، وقد أدى ذلك كله الى تكدس الثروات بيد السلاطين ، وأن الوعاظ كانوا يقفون على الدوام مع السلطة الظالمة وأن هؤلاء الوعاظ كانوا يبررون للسلاطين الأخطاء التي يقترفوها بأنها فضائل مما زاد من ظلمهم .
ان هؤلاء الوعاظ – وهم رجال دين ولا ريب – قد ابتعدوا عن دورهم الحقيقي الذي وجب أن يكونوا فيه بمنأى عن الاقتراب من السلطة ،لأن السلطة مغرية تنزلق بهم الى حب الدنيا والتلذذ بأهوائها .
إن القلة القليلة من الوعاظ هي التي قالت للباطل كلمة ( لا ) فلقيت البطش والتنكيل من قبل السلطة .
كما يرى الدكتور الوردي بأن المؤرخين المسلمين انحازوا الى السلاطين وجعلوهم أبطالا عظماء في فتوحات البلدان التي لم تكن في الواقع سوى كسب الشهرة للسلطان ومعها كسب الغنائم بما فيها من أسرى أغلبهم من الجواري اللاتي يرى فيهن السلطان وحاشيته متاعا وإنسا لهم .
جاء الإسلام لتحقيق العدالة الاجتماعية ولكن هذه العدالة اغتيلت على يد السلاطين ، وكان الوعاظ أداة طيعة بيد السلطة تنحرف بها عن جادة الحق . غير أن ما يؤخذ على الدكتور الوردي تأكيده على أن النصح والارشاد والوعظ لا يجدي نفعا في كل الأحوال ، وهذه مفارقة ليس لها ما يبررها ، ذلك لأن التربية ذاتها تقوم على هذا الجانب .
إن نصائح الآباء للأبناء والمعلمين للتلاميذ هي بمثابة اعادة الأمور الى نصابها علاوة على تصحيحها للأخطاء والإنحرافات التي يقع بها البعض .
ويرى الدكتور الوردي أن طبيعة الانسان لا يمكن أن تتغير ، وهذا أمر يخالف المنطق ، إذ الاسلام ذاته يعتبر نقلة نوعية من كفر الى ايمان ومن ظلام الى نور ، وأنه بنعمة الايمان تطهرت القلوب من وثنيتها .
كما أن الدكتور الوردي يرى في الحرية التي تمارسها أمم الغرب بأنها أفضل بكثير من قيود صارمة وضعناها في رقاب أبناء مجتمعنا .
وينسى الدكتور الوردي أن الحرية التي تمارسها أمم الغرب قد أمضت بأخلاقه الى الحضيض رغم الحضارة البراقة التي تبدو ظاهرة على السطح .
كما ينسى الدكتور الوردي بأننا ورثنا من أمتنا قيما ومثلا لا يمكن أن نهدرها بكل بساطة ، وقد جاء الاسلام بمنهج يصون للرجل كرامته وللمرأة عفتها .
أما التخلف الذي أبتليت به مجتمعاتنا فان السلطة الغاشمة التي تحكمت بنا طوال عهود هي وراء هذا التخلف .
حضارة متألقة
وعلى أي حال فنحن لا يمكن أن ننكر بأنه كانت لنا حضارة متألقة أدبا وعلما وفنا وعمارة قامت على أكتاف المبدعين من أبناء هذه الأمة .
أجل لا يمكن نكران هذه الحضارة التي مهدت لأوربا سبل النهضة والتقدم فيما بعد .
ان كتاب ( وعاظ السلاطين ) كتب قبل أكثر من خمسين سنة ، غير أنه يبقى هذا الكتاب مرجعا لكل باحث .
وهو بعد ذلك دراسة قيمة لطبيعة المجتمع الإسلامي عامة والمجتمع العراقي خاصة لا يستغني عنها أي قارئ يهوى القراءة بصدق ليصل الى الحقيقة فحسب .