الانثى و حلم “الطفل” / المعالج الموضوعي : الدب مقابل الصديق / الدب مقابل الطفل.
العنوان، عتبة النص:
إلى أين أرادتنا الكاتبة أن نذهب معها، و ما الرسالة التي أرادت توجيهها لنا ؟
الأرجوحة: ترمز للحياة برمتها، فالحياة تتأرجح بنا فيصبح كل ما نظنه واثقين بثباته قابلًا للتأرجح ارتفاعًا و سقوطًا… و هكذا لا يبقى هناك يقين .
المتن:
قصص داخل قصة.. بتقنية تعددية من حيث الفكرة و الحبكة، و النهايات.. و الكل يندرج و يجتمع تحت فكرة أساسية ” العنوسة” في مجتمع ، شرقيّ بالتأكيد، كظاهرة اجتماعية ، و ما يترتب عليها من ردود فعل عند من يطلق عليها” العانس”، يتمثل هنا باللجوء إلى العيش في عالمها الخاص المبني على أحلام القصة” المعادل الموضوعي” المتمثل بدمية ” دب الباندا”.
توضح الكاتبة أن الأهل أكثر من غيرهم يضيقون الخناق على ابنتهم الكبيرة في السن لكي تتزوج، وحجّتهم أنّهم يخافون عليها وأُمنيتهم أن ترتبط ليطمئنوا إلى مستقبلها.
تتعرض الكاتبة في محكيتها إلى أحاسيس “عانس” تعيش في أغلب الأحيان أسيرة مشاعر سلبية مختلفة، تؤثر على شخصيتها لأنها اعتادت على تجاهلها أو أنها اعتادت العيش معها.
هذه المشاعر تؤدي بها إلى الشعور بالاغتراب النفسي والعيش بمنأى عن الواقع المعاش، فتلجأ الفتاة “بطلة قصتنا” إلى خلق عالمها الافتراضي، أو التخيلي والعيش فيه هربًا من الواقع المرير، مع قصص تخلقها في خيالها الخاص لتجد عوضًا عن الجفاف العاطفي الذي تعيشه. بمعنى آخر تعيش عالمًا من ” أحلام اليقظة” .
تناول فرويد رائد المدرسة التحليلية في علم النفس أحلام اليقظة على أنّها” تعبير الفرد عن أهدافه ورغباته المكبوتة، فهي الحالة الذي يُدخِل فيها الفرد نفسه لإشباع رغباته وتحقيق أهدافه التي قُمِعَت وكُبِتَت في الحاضر أو في الماضي”.
شخصيات القصة:
الشخصية الرئيسة: حرصت الكاتبة في القصة على أن تضع شخصية تمتزج بين الحقيقة والخيال فلم تعبّر في القصة عن شخصية واقعية تمامًا بل حاولت المزج بين الواقع والخيال عن طريق السرد لإيصال المتعة والإقناع للقارئ
بطلة القصة, فتاة لم تذكر لها الكاتبة اسمًا لكنها أعطتها اسم ” العانس” لتبني على هذا التوصيف أحداث القصة، و تجعلنا ندخل في عالم الشخصية الخاص. فهي تقدّم نفسها إلينا من خلال حديثا مع دميتها” دب الباندا” :
” أنا واحدة من طابور نساءٍ يطلق عليهنّ عوانس، هل تعرف معنى ذلك؟ بالتأكيد لا تعرف، سأقول لك.. يقولون فاتها القطار، لأوضّح أكثر، من لا تتزوّج يطلقون عليها جوراً لقب العانس.”.
إنها ضحية مجتمع قاصرٍ في نظرته للأنثى بشكل عام ، و للعانس بشكل خاص. فها هي تسمع بين الحين و الآخر ما يعكر صفو سلامها النفسي، و يضع على عاتقها همًا هي أبعد ما تكون سببًا فيه:
” سيفوتك القطار.. عانساً تصبحين.. صديقاتك وقريباتك أصبحنَ رفيقاتٍ لأولادهنَّ، وأنتِ.. “.
ففي كل مرة تصطدم بالواقع تلجأ البطلة إلى أحلام اليقظة Day Dreaming كوسيلة لتحقيق رغباتها، بما يحقق لها إشباعاً على مستوى الخيال، لا تستطيع تحقيقه في الواقع. تقول:
“أنا يا صديقي أخوض كلّ أسبوع تجربة زواج.. زواج فاشل، أخرج منها نادمة، وأقسم ألاّ أعيدها.. ورغماً عني أقع في فخّ الزواج ثانيةً، وثالثة، ورابعة.. والعدد مفتوحٌ .”.
فتتراوح أحلام يقظتها ما بين حلم اختياري و آخر اضطراري. و في كل حلم يدخل الواقع فارضًا نهايته..
في الحلم الأول، أو لنقل ” زواجها الأول”، الحلم الاختياري، الذي عاشته قصة حب مع أستاذها في الجامعة
نراها تتخيل نفسها الفتاة الوحيدة التي لفتت نظر مدرسها البريطاني، رغم تحلّق الفتيات حوله، إن هذا الإغراق ، يعطيها شعور بالرضا عن نفسها، ويجعلها تعوض، و باستمرار ، الواقع بالخيال.
- رواية ملح السراب للكاتب السوري مصطفى الحاج حسين – الفصل الحادي عشر.
- رواية ملح السراب للكاتب السوري مصطفى الحاج حسين – الفصل السابع.
تقول:
“حين كنت في الجامعة. أستاذي البريطاني ، شابّ وسيم وأنيق، تتهافت الطالبات عليه، أنا الوحيدة من أثارت انتباهه..” لكنها و كالعادة لتعطي لقصتها نهاية، كان لا بد من حدث تختلقه، فكان :
“في غرفة نومنا، وعلى فراشنا المشترك، صعقت وأنا أراه عارياً بين أحضان كهلٍ عملاق”
نلاحظ هنا التداخل بين الخيال و الواقع، فالخيال هو قصة الحب و الزواج من بريطاني، و الواقع هو عندما تكتشف أنه “مثلي” ، أمرٌ قد يعتبر مقبولاً هناك في بريطانيا، لكن ترفضه أخلاقياتها و هكذا تبرر عودتها أدراجها إلى عالمها الحقيقي، منزل ذويها مخلفة ورائها حلمها ” الطفل و الأرجوحة الحمراء”.
و كرد فعل كان الحلم الثاني،حلم يقظة اضطراري؛ نتيجة لضغط الأهل لأنها لم تعد عانس فقط بل عانس و مطلقة و لديها ولد، فرضخت لهم لتعيش مع زوج لا يهتم، يعيش عالمه الخاص بين الكتب و اهتماماته، ربما السياسية:
“شبه معدمٍ، ولكنه ثريّ بشعاراته ومبادئه، وكتبه المزروعة في كلّ ركنٍ من بيتنا الصغير”
“وحدي أحلم، ووحدي أترقّب اليوم الذي أحمل فيه صغيري، وأضعه في أرجوحته الحمراء ..”
لكن كل هذا لم يعد يهما أصبح اهتمامها الأول هو الطفل و الأرجوحة تقول:
“لكنّ نظرة إلى وجه طفلي الصغير تنسيني كلّ تساؤلاتي؛ فأضمّه إلى صدري، وأقبّل وجهه الملائكي.”
في خضم هذا الحلم ، كان لا بد للواقع أن يتدخل ليضع نهايته ، و كل نهاية تتناسب مع مجريات الحلم، فكانت نهاية هذا الحلم اقتياد الزوج من قبل رجال غلاظ إلى حيث لا تدري .. و ككل مرة :
” عدتُ ثانيةً إلى أهلي باكية مكسورة” و الكسر الأكبر أنها لم تستطع احضار ” الأرجوحة الحمراء” معها إلى بيت والديها، فهو كعلبة الكبريت.
لكنها لم تنته بعد:
“طفلي الجميل، غدا سأقصّ عليك قصتي مع أبيك.. يبدو أنك نمت”
و يبقى الحلم مستمرًا…..
*الشخصيات الأخرى: جميعها تعتبر شخصيات مساعدة، أثثت للأحداث و ساعدت على تطور عقدتها صعودًا و هبوطًا،
الوالدين: المحرك الأول و الأساسي في دخول البطلة في حالتها النفسية التي أدت بها إلى اللجوء لعالمها الخاص ” أحلام اليقظة”
زوجها الأول: مدرسها البريطاني الجنسية: ” الحلم الاختياري” فارس قصة حبها المتخيّلة، المترف ماديًا، الفقير أخلاقيًا، و أول تجربة زواج فاشلة في أحلامها.
زوجها الثاني: الرجل المثقف الغني بأفكاره، المعدم ماديًا ، “الحلم الاضطراري ” و ثاني تجربة زواج فاشل.
الطفل: أساس الفكرة الفكرة الذي تدور حولها قصة “الأرجوحة الحمراء” الحلم المستبد في دواخل البطلة رمز لرغبة كل أنثى.
دب الباندا: الشخصية الرمز و هي التي لعبت دور
“المعادل الموضوعي” عن الصديق كما لاحظناه في بداية القصة، و الابن في نهاية القصة.
–فتيات الجامعة.
-الرجال الغلاظ.
-صديقتها.
*الزمان و المكان:
الزمان:
يتناوب فضاء النص في السيرورة بين الماضي و الحاضر و كأن الحاضر ما هو إلا مرآة تعكس لنا ما حصل في الماضي فالحاضر هو تأثيث لشريط عرض لحكاية قديمة
و بما أن الكاتبة اعتمدت تضمين عدة قصص في قصتها، اكتفت باثنتين منها، فإن لكل منها زمانه و مكانه ضمن استطالة معينة تتناسب و تتوافق مع أحداث كل القصة.
فانقسم الزمن إلى : زمن سرد “الحاضر “و بين الزمن “الماضي ” و هو الزمن الفعلي للحكاية المسرودة.. فجاء الاسترجاع “Analapses” الذي كان يعيد سرد الأحداث التي جرت في الماضي و استرجاعها، أي العودة إلى نقطة ما قبل نقطة الحكي، و على أساسه بُنيت القصة ضمن القصة. ثم العودة إلى الحاضر لالتقاط الأنفاس قبل الدخول في قصة أخرى.
المكان :
المكان هنا ليس مجرد فضاء يسمح للشخصيات ان تؤدي دورها الدلالي بمعزل عن تأثيراته ،بل هو مساهم بتحولات الشخصية وبالتالي فهو مؤثر فعال في الأحداث .
و قد أظهرت لنا الكاتبة بأن كل انتقال للشخصية في المكان هو انتقال وتحول في الشخصية، والذي يؤدي بالضرورة الى تغيير في مجرى الأحداث والنهايات الدرامية، التي تحمل خطاب النص ومغزاه، و إن كانت كلها تنتهي فعليًا نفس النهاية مع اختلاف التفاصيل. بل يكاد المكان ان يكون شبيهاً للشخصية يتمثل أعمق مكنوناتها و التي تظهر في سلوكياتها وحينا اخر يكون سببا في كشف تقلبات المحيط من حوله في صراع الأيديولوجيات و الأفكار بطريقة غير مباشرة .
نرى بوضوح ذاك التأرجح في طبيعة الشخصية الرئيسة من خلال علاقتها و ارتباطها مع الشخصية المقابلة” الوالدين/ الزوج الأول/ الزوج الثاني” مابين شخصية مضطربة، ثم مترفة مليئة بالشغف، و بالحياة، تعيش في بريطانيا، ” زواجها الأول” إلى شخصية تعيش حياةً رتيبة معدمة في بيت صغير فقير حتى من العاطفة و الحلم، حتى صار الحلم الملح لديها ب “أرجوحة حمراء” هاجسًا.
و إن كان هناك قصة أخرى سيكون هناك مكان آخر و زمان آخر قد يأتي بعد زمان ” قصة الزواج الثاني”.
الحبكة و المعالجة:
في سرد متقن، منذ بدايات القصة حتى نهايتها، كانت الحبكة متينة، تجمع خيوط كل قصة ضمن القصة الأصل، بكل تفاصيلها في خط بياني متصاعد يصل بالحدث إلى قمتهclimax, حيث عقدة الحدث ثم يتجه هابطًا باتجاه نقطة التنوير ، أو الحل ، و التي كانت متشابهة مع اختلاف في السبب.
أدت المعالجة دورها في عملية تطور الحدث في القصة الرئيسية ذات المحور الواحد و هو اعتماد ” المعامل الموضوعي” كرد فعل نفسي على مسألة” العنوسة” التي تطرحها القصة، و تعالجها الكاتبة بطريقة النكوص إلى “أحلام اليقظة”، و الانتقال إلى تقديم قضايا جانبية و حكايات فرعية، ” المثلية/ تبعات اختلاف التوجهات الفكرية و الأيديولوجيات…و غيرها” بالقدر الكافي من التفاصيل بما يتناسب مع الحجم الطبيعي للقصة القصيرة، بحيث يجري الكشف عن العيوب ونقاط الضعف في القضايا المعالجة، بتركيز على الجانب الخاص بإضفاء الإحساس العاطفي و ذلك بخلق جو من الإثارة، والمحافظة على بقائه، بأمل أن يشعر به القارئ عند الاسترسال في القراءة و التفاعل مع الحدث .
النهاية:
نهاية ذكية، تنم عن حرفية الكاتبة في إبقاء القارئ يعيش عالم القصة بعد نهايتها متأثرًا بأحداثها. نهاية مفتوحة لمزيد من القصص و مزيدٍ من الأحداث، تجعل القارئ ، هو بذاته، يتخيل قصصًا أخرى يرسم أحداثها و تفاصيلها و يضع لها نهاياتها.
{ احتضنت دبّها الصغير معانِقةً، تهمس في أذنه: “طفلي الجميل، غدا سأقصّ عليك قصتي مع أبيك.. يبدو أنك نمت”
قبّلته برفق وسارت الهوينى تضعه في الأرجوحة الحمراء، شاردةً جلست تنسج خيالات قصصٍ لأزواج جدد …}.