You Create, We Appreciate

رواية ملح السراب للكاتب السوري مصطفى الحاج حسين الفصل الثالث.

رواية ملح السراب للكاتب السوري مصطفى الحاج حسين – الفصل الثالث.

كان (سامح) يتقدمنا بعدة أمتار، حين بدأنا ندخل متسللين إلى(مقطع الزَّاغ) ومنذ أن خطونا إليه، تسرّبت إلى أجسادنا برودة عفنة، فشعرنا بالرّاحة والنّشوة، لأنّ حرارة الجّو في الخارج كانت خانقة.

اجتزنا الطّريق الضّيقة المتعرّجة مبتهجينَ، ولكنّ إحساساً داخلياً بالإنقباضِ والوحشةِ أخذ يراودنا.
قبعت الظّلمة في المكان، غير أنّ الجّدران الحوّارية البيضاء خفّفت منها فبدا المكان أشبه بكهفٍ مسحور.
صاح (عثمان):
– انتبهوا من الجنّ والعفاريت.
وتردّد صوته مختلطاً بقهقهات
(سعيد الجدع)، الذي ظهر من خلال ضحكته شيء غير طبيعي، يشير إلى خوفه وفزعه.
وعندما سكتت الجّدران عن ترديد صدى الضّحكة..قال:
– أنا لا أخاف منها.. ففي رقبتي سلسال مكتوب عليه ((الله – محمد)) وهو يحميني من الشّياطين.
قلتُ معلقاً على كلامه، وقد أخذ الممرّ الضّيق بالإتّساع والعتمة تتضاعف، بينما الانحدار نحو الدّاخل يزداد حدّة:
– لكنّ سلسالكَ هذا لا يحميكَ من أرواح الأموات المنتشرة قبورهم على سفح الجّبل.
صرخ (عمر) وكان يمشي خلفنا:
– ياأولاد الحرام، اتركونا من سيرة الأموات والجّن وإلّا سأرجع إلى الحارة.
البرودة تزداد قوّة وحلكة كلّما توغّلنا، لدرجة أنّنا شعرنا بقشعريرة البرد تسري في عروقنا، بينما كان الماء ينزُّ من السّقوف والجّدران مخرجاً خريراً منبعثاً من الأعماق يتناهى إلى
أسماعنا.
صاح (سامح) أبن عمّي فجأة، بصوت مليءٍ بالدّهشة والفرح:
– يا جماعة.. أشمُّ رائحة نار.
فأسرعنا نهبط فرحين، وحقيبة (سامح) المدّرسية كانت تتأرجح خلف ظهري، فقد كنتُ أحبّ دائماً حملها معي، ليظنّ من يراني بأنّي طالب مدرسة.
زعق (عثمان):
– رائع عندي سيكارتان (ناعورة) ولا أملك شعلة.
وصلنا إلى ساحة مترامية الأطراف
يبدو أنّها في القاع تماماً. فسرقت عيوننا نار متأججة يتحلّق حولها ثلاثة شبّان. إلى جوارهم تناثرت زجاجات العرق.
انكمشنا في أماكننا جامدين، بينما تتفرسنا أنظار الشّباب بدهشة وبهجة واضحتين.
قال أحدهم، وكان يدعى(جمعة زقّان)، بصوت خرجت بحة المشروب معه:
– تفضلوا ياحلوين.. تعالوا.. لا تخافوا، لا يوجد بيننا غريب.. كلنا أولاد حارة.
بقينا على وقفتنا خائفين، ودقات قلوبنا تطرق صاخبة عنيفة.. إنّ(جمعة زقّان) هذا نعرفه تماماً، ونعرف شلّته أيضاً، فكلهم مجرمون، يغتصبون الأولاد. وكثيراً ما حذرني والدي منهم .
صاح الثاني، واسمه (حمّود النازل) ، وهو ذو يد مقطوعة:
– تعالوا.. دخنوا واشربوا العرق. وكرع جرعة من زجاجته، ثمّ أردف قائلاً:
– ( تقبروني ما أحلاكم).
صرخ الثّالث، وكان يدعى(برهو النّابح)، وكان له صوت يشبه نباح كلب، يخرج من تحت شفته المشرومة:
– هربتم من المدرسة يا (عكاريت)، (جئتم) وألله بعثكم لنا، الحرارة متوتّرة معنا.
قال ذلك ونهض نحونا. صرخ أحدنا بفزع:
– اهربوا.. اهربوا قبل أن يمسكوا بنا.
انطلقنا راكضين صوب الخلف، كان الانحدار صعباً هذه المرّة، وليس من صالحنا، وبدأت أقدامهم بدبيبها المرعب تضطرب خلفنا، ونحن نلهث مذعورين، قلوبنا ترتجف بشدّة لم نعهدها، وأنفاسنا تضيق حتى كأنها سوف تتفجر، والحقائب خلف ظهورنا تزيد من توترنا وخوفنا بتأرجحها، مما جعلني أندم على حملها في هذه المرّة، وخطر لي أن أرميها لإبن عمّي (سامح)، لكن لا مجال الآن، ونحن نهرب مذعورين.
انبعثت صرخة ذعر حارقة من خلفي. لقد سقط (سامح) ابن عمي في أيديهم، تفاقم الفزع فينا، أسرعنا بكلّ ما نستطيع، صاعدين متوقعين أن تمتد يد غليظة الأصابع فتمسك بنا من ياقاتنا، كنت الأخير خلف رفاقي، وكان صراخ (سامح) وعويله المجنونان يدفعانني لبذل طاقتي النهائية في الصّعود.
أخيراً وصلنا إلى فوهة (المقطع)، استدرنا للخلف، كانت أصوات الأقدام قد انقطعت ولم نر أحداً. لقد عادوا ليفترسوا (سامحاً) الذي لم نعد نسمع له أيّ صوت.
توقفنا على مسافة غير بعيدة صدورنا تعلو وتهبط مسرعة كخوفنا، وأجسادنا مغسولة بعرقنا الحارق، كصوت (سامح) حين أمسكوا به.
قال (عمر) يخاطبني بصوت متهدّج:
– (رضوان).. عليك أن تخبر بيت عمّك حتى ينقذوا ابنهم.
قاطعه (عثمان):
– ماذا؟.. إذا قمنا بتبليغهم يا (فهيم) فسوف يعلم أهلنا بهربنا من المدرسة.
قلت وقد بدأ التّعب يزايلني:
– ليس أمامنا وسيلة لانقاذ(سامح) غير تبليغ عمّي، وبسرعة قبل أن يقوموا باغتصابه.
ضحك (سعيد الجّدع)(صياد الجرابيع) وعلّق على كلامي:
– منذ اليوم صار لقب (سامح) (مفعول به).
قهقه (عثمان) حتّى آلمته خاصرته، وقال:
– لأوّل مرّة يهرب من المدرسة فيتعرّض للإغتصاب.. وتابع قهقهته.
صرخ (عمر) بانزعاج:
– أنتم حقراء.. أولاد كلب، تضحكون بينما لا نعرف ماذا جرى (لسامح).
تخيّلت (جمعة زقّان) صاحب الرأس الكبيرة، والأنف الممطوط، وهو يشمّر (كلابيته) وينزّل(شرواله) واضعاً سكينه فوق عنق (سامح)، بينما يحاول أفراد العصابة جاهدين تثبيت (سامح).
– أنا ذاهب لإبلاغ (عمّي قدّور) .
قال (عمر) وهو يتبوّل من الرّعبة:
– اذهب بعجلة.. أمّا نحن فسنبقى هنا لنراقب الوضع، فربما يأخذوا (سامحاً) إلى مكان آخر.
رميت حقيبة (سامح) من خلف ظهري وانطلقت كالصاروخ، منحدراً من قمة الجبل نحو البلدة.
في غمرة هذه الأحداث، وهذا الانفعال، كانت تداهمني موجات من الفرح، فأنا لا أحبّ (سامحاً) منذ وعيت الدّنيا بسبب امتيازه عنّي بدخوله المدرسة.
غير أنني سرعان ما كظمت فرحي هذا، وعاودتني حالة الخوف والقلق، (سامح) ابن عمّي قبل أيّ شيء آخر، وقد هرب من المدرسة لأوّل مرّة لارضائي بعد أن هدّدته بالزّعل فوافق.. ثمّ ماذا سيكون موقفي من أبي وعمّي (قدّور) إن أعترف (سامح) بأنّي سبب هروبه من المدرسة؟.
في الطّريق، بينما كنت أركض بين الأزقة، وعند المنعطف تماماً، برز والدي (بشرواله) وسترته (الكاكية) المعهودة، توقفت في مكاني، تجمّدت أمام نظرته الصّارمة.
– هارب من الشّغل (يا بندوق)؟!.
حافظت على صمتي المبدّد بلهاثي،
ماذا أقول؟..هل أخبره بما يحدث (لسامح)، لم أكن أتوقّع رؤيته، فلم أرتّب كذبة في ذهني تنطلي عليه.. وتأكّدت أنّه ترك عمله ليبحث عنّي.
– عاقل يا ابن(القحبة) تتظاهر بالمسكنة
والله لأريك نجوم الظّهر.
وهوت كفّه، ثقيلة خشنة، صفعتني بقوة، تطاير الشّرر من عينيّ، ترنّحت، سقطت، ركلني، جاءت ركلته على خاصرتي، طارت فردة (الصّرماية) الحمراء من قدمه نهضتُ، فقذفني بها على رأسي.
– آخ يا (يوب) التّوبة. وحق المصحف ماعدت أهرب.
– امشِ إلى الدّار يا ابن(الجحشة)سوف ألعن أبوك على أبو أمك.
سبقته بعدّة خطوات، خائفاً من ضربة مفاجئة، ولهذا كنت ألتفت خلفي لأتأكّد من بعد المسافة عنه، بينما أتنشّق مخاطي المختلط بالدّم المتدفق من أنفي.
سبقني صراخي إلى الدّار، ففتحت
أختي(مريم) الباب، واستقبلتني أمي بوجهها الشّاحب، وعينيها الفزعتين،وجسدها الضخم، فتعالى بكائي، وتضاعف تأوّهي:
– يا أمّي.. خاصرتي.
وقفت أمّي حائلاً بيني وبين أبي، وقالت تسأله:
– خير إن شاء الله.. ماذا فعل (رضوان) حتى تعاقبه؟.
وأتاها صوته ليرعب (مريم) وتنكمش على نفسها:
– ابن (الصّرماية) هرب من الشّغل. قال ذلك وهو بالكاد يلتقط أنفاسه.
– يلعن (أبو الشغل) ستقتل الصبي، الولد لا يحبّ صنعة العمارة.
صرخ أبي وقد زاده غضباً كلام أمي:
– كلامك هذا يشجّعه على الهرب، عليَّ الحرام والطلاق بالثلاثة سأشتري له قيداً وجنزيراً.
توقفتُ عن البكاء برهة، مددتُ رأسي من وراء أمي، وقلت:
– أنا لا أريد أن أشتغل في العمارة.. أرسلوني لعند الخياط فلا أهرب.
هجم نحوي، صوّب ركلة إلى مؤخرتي:
– عليّ الكفر لن أتركك تشتغل إلّا في العمارة ياكلب، هذه صنعتي وستعمل بها.
ثمّ تابع قوله الصّارخ:
– تحرّك أمامي ألى الورشة.
صاحت أمي:
– ألا ترى دمه.. أتركه ليوم غ .
عدّل أبي (جمدانته) فوق رأسه وقال:
– أنا ذاهب للشغل، وعندما أرجع سيكون لي معك الحساب.
سحبتني أمي من يدي، أدخلتني الغرفة الشّمالية، أخذت تمسح دموعي ومخاطي الدّامي.. وهي تقول:
– ألم أنصحكَ بعدم الهرب؟.
صحتُ بصوتٍ مخنوقٍ:
– أنا لا أطيق العمل في العمارة.. لماذا لم تدخلوني المدرسة مثل (سامح)؟.
لم أكد أذكر اسم (سامح) حتى قفزتُ من مكاني، غير عابئ باندهاش أمي ونداءاتها هي وأختي (مريم) ، صرختُ وأنا أجتاز عتبة الدّار:
– يجب أن أبلّغ عمّي (قدّور) لينقذ ابنه (سامح) .. لقد تأخرت.. لقد تأخرت.
* مقطع الزّاغ، هو مقلع حجارة من حوار.. يقع عند سفح جبل العقيل في مدينة الباب.
Related Posts
Leave a Reply

Your email address will not be published.Required fields are marked *

Instagram
Telegram
WhatsApp