استيقظتُ على ركلةٍ قويَّةٍ، وقبل أن أفتح عينيّ النّاعستين، انهمرت دموع الوجع منهما أحسست أنّ خاصرتي قد انشقّت، وقد هالني أن أبصر أبي، فوق رأسي وعيناه تقدحان شرراً، نهضت مسرعاً، يسبقني صراخي وعويلي فأنا لم أدّر بعد، لماذا يوقظني بهذها لطّريقة؟!:
ـ ساعة.. وأنا أناديكَ.. فلا تردّ يا ابن الكلب!.
أنا أعرف أبي، إنّه قاسٍ، بل هو أشدّ قسوة وفظاعة من الشّيخ (حمزة) نفسه، ومن مدير المدرسة (الأعور)، فكثيراً ما كان يضربني وشقيقتي (مريم)، لأتفه الأسباب، حتّى أمّي، لم تكن تسلم من ضربه وشتائمه:
ـ إلى متى ستبقى (فلتاناً) مثل الحمار، لا عمل.. ولا صنعة؟!.
شهقتُ بعمقٍ ، تنشَّقتُ مخاطي، بينما راحت عينايّ تستوضحان وجهَ أمّي، المنهمكة باحضار الفطور، عن معنى مايقوله أبي، قرأت أمي تساؤلاتي.. فاقتربت منّي:
ـ ستذهب لتشتغلَ مع أبيكَ.. صار عمركَ عشر سنوات.
وكدّت أصرخ:
ـ أنا لا أقدر على حمل الحجارة، ولا أحبّ صنعة العمارة.
غير أنّ نظرات أبي الحادّة، أرغمتني على الصّمت فبقيت مطرق الرّأس، أشهق بين اللحظ والأخرى.
قال أبي بقسوة:
ـ تحرّك.. اغسل يديك ووجهك.. وتعالَ تناول لقمة قبل أن نذهب.
خرجتُ من الغرفة ساخطاً، شعرتُ بكره نحو أبي، وصنعة البناء، فهي متعبة، تعرّفتُ عليها، عندما كنتُ أذهبُ إليه أحياناً، فأرى ما يعانيه، الذين يشتغلون بهذه المهنة.. من تعبٍ.
تبعتني أمّي إلى المطبخ، وما كدّتُ أسمع وقع خطاها، حتى التفتُّ نحوها صارخاً:
ـ أنا لا أريد الشّغل.. في العمارة.
فردّت بصوت يكاد يكون همساً، بينما كانت تضع إصبعها على فمها:
ـ لو لايّ.. لأخذكَ من سنتين معه إلى الشّغل.. الآن لم يعد يسمع كلامي.
ـ لكنّني لا أقدر على حمل الأحجار، وأسطلة الطّين. قلتُ بحنق شديد.
قالت أمّي:
ـ وماذا أفعل؟.. أنت تعرف أباكَ.. لا يتناقش.
وقبل أن أردّ على أمّي.. انبعث صوت أبي صارخاً من الغرفة:
ـ ألم تنتهِ من التّغسيل يا أفندي؟!.. تأخّرنا.. صار الظّهر.
أسرعتُ إليه.. متظاهراً بتجفيف وجهي.. وخلال دقائق ازدردتُ عدٌة لقيمات.
ونهضتُ خلفه، حزيناً.. يائساً.. بي رغبة للبكاء، سرت خلفه، أراقب حركات (شرواله)المهترئ، وسترته (الكاكيّة) الممزٌقة، تأمّلتُ(جمدانته) السّوداء العتيقة.. تمنّيتُ في تلك اللحظة، ألَّا يكونَ هذا الرّجل أبي، كلّ شيءٍ فيهِ كريهٍ، حتّى شكله، عمّي (قدّور) أجمل من والدي والأهمّ من هذا كلّه، أنّه لا يرتدي(شروالاً)، ولا يرغم ابنه (سامح)، الذي يكبرني بسن ونصف، على عمل لا يحبّه، لقد أدخله وأخته (سميرة) إلى المدرسة، وهو يشتري لهما الألعاب، ويعاملهما بمحبّةٍ ودلالٍ.
- رواية ملح السراب للكاتب السوري مصطفى الحاج حسين – الفصل الأول
- عبد الكريم حمزة عباس يكتبــ: المنهج الموضوعي و الذاتي في النقد الأدبي.
كنتُ أحدّثُ نفسي طوال النهار، وأتمنّى التّملّص من أبي، وكلّما ازداد تعبي ، أزددتُ حنقاً عليه، الشّمس حارقة، والأحجار ثقيلة، وسطول الإسمنت قطّعت أصابعي، الغبار يخنقني، والعرق الدّبق يغسّلني، وأبي لا يتوقّف عن العمل، ولا يسمح لعمّاله بقسطٍ من الرّاحة، في الظّل.
أفكّر في (سامح)، وكيف سيضحك عليّ، إذا علم بقصّة عملي، إنّه الآن في المدرسة، بعدقليلٍ ينصرف، ينطلق باحثاً عنّي، لكنّه لن يجدني سيجوب الأزقّة.. يسألُ أمّي وإخوتي.. وسيفرحه الخبر، فأنا الآن عامل بِناء، في ثيابٍ وسخة ة، بالتّأكيد سيفتّش عن أصدقاءٍ غيري، يشاركون اللعب.
لن ننصرف قبل أن تغيب الشّمس، ما أطول النّهار، وما أبعد المغيب!.. لن يتسنّى لي أن أرتاح وألعب قليلاً مع (سامح).
اللعنة على الإسمنت والحجارة، اللعنة على الغبار الذي أمقته، أكاد أختنق، رأسي انصهر من شدّة الحرّ، والعرق يتصبّب منّي بغزارة، عليّ أن أستحمّ فور عودتي.
هذا اليوم أقسى أيّام حياتي، لم يكد أن يأذّن العصر، حتّى شعرتُ أنّ قوايَ خارت تماماً، وجهي تحوّل إلى كرةٍ ملتهبة، محمرّة، رأسي أشتدّ به صُداع حادّ، يدايَ ، قدمايَ، ظهري، رقبتي، أكتافي عينايَ، كلّ خليّة في جسدي الهزيل، تؤلمني ،وتوجعني
، وتصرخ، وتبكي، وتمنّيتُ أن أموتَ في تلك اللحظة، أو أتحوّل إلى كلبٍ، أو قطّةٍ، تذهب حيث تشاء، تستلقي في الظلّ.. وتغفو. وتساءلت:
ـ يا إلهي.. ألا يتعب أبي؟!.. هل هو من حجر، أم من حديد؟!.. إذاً لماذا لا يستريح؟!.. ولو خمس دقائق فقط ة، خمس دقائق يا أبي لن تخرب الدّنيا .. شعرتُ نحوه ببعض الإشفاق، وبشيءٍ كبيرٍ من الغضبِ والحقد:
ـ إن كنتَ لا تهتمَّ بنفسك، أو بعمّالك، فأنا تعبت، ولم أعد قادراً على تسلّق السّلّم، ولن أقوى على حمل سطل الإسمنت، أنا منهار أيّها الأب القاسي، هل تسمعني؟!.. ألا تفهم!.. اعلم إذاً بأنّني سوف أهرب.. وأترككَ مع عمّالكَ الأغبياء، هل باعوكَ أنفسهم، من أجلِ بضعِ ليراتٍ؟!.
ونمت فكرة الهرب في رأسي، صارت تتغلغل إلى خلايا جسدي المنهكة فتنعشها، لكنّني سرعان ما جفلتُ.. من فكرتي هذه، وصرتُ أرتجف. غير أنّ الفكرة الرائعة، كانت قد سيطرت عليّ تماماً، سأهرب.. وهناك في البيت، سوف تتشفّع لي أمّي.. سأهرب.. وسأرجو والدي أن يعتقني من هذه الصنعة، وكبرت الفكرة في ذهني،
سألجأ إلى عمّي(قدّور)، أتوسّل إليه أن يساعدني، في إقناع أبي، بالعدول عن قراره، بالعمل معه، سأعمل في أيّ مهنة يشاء، فقط لو يتركني أنجو من هذه الصّنعة، وعزمتُ أن أنفّذ الفكرة.. وتمكّنت من الفرار، دون أن يلحظني أحد، فقد تظاهرتُ بأنّني أريد التّبوّل، ولمّا أدركتُ، أنّني ابتعدت عن أنظار والدي وعماله، أطلقتُ العنانَ لقدميَّ المتعبتين.
لم أكن أدري، أنّ أبي سيترك عمله، ويتبعني إلى البيت فور اكتشافه أمر هروبي، فما كدّتُ أطلب من أمّي، أن تعدَّ لي لقمة، ريثما أغتسل وأغيّر ثيابي، حتّى اقتحم أبي الدار، والغضب يتطاير من وجهه المغبرّ، هجم عليَّ، وفي يدهوخرطوم، صارخاً في هياج:
ـ هربت يا ابن الكلبة!.
يبست الكلمة في فمي، تراجعت، انبعث صوتي ضعيفاً باكياً:
ـ تعبت يا أبي.. لم تعد لي قدرة على الشّغل.
انهمرت على جسدي العاري سياط الخرطوم، عنيفة، قويّة، ملتهبة، ودونَ أدنى شفقة، أو رحمة وانتشرت صرخاتي في كلّ الاتّجاهات، حادّة عالية:
ـ دخيلك يا (يوب)، أبوس رجلك.. أبوس (صرمايتك).
وأسرعت أمّي نحوي، ارتمت على أبي بضخامتها وقفت حائلاً بيننا، فما كان منه، إلّا أن صفعها بكلّ قوّة:
ـ ابتعدي.. من أمامي يا بقرة.
تلقّت لسعات الخرطوم، صارخة:
ـ خير!!!.. يا (أبو رضوان).. ماذا فعل الولد؟؟.
ـ ابن الكلب.. هرب من الشّغل.
تابع ضربي، ولم تنجُ أمّي من ضرباته أيضاً، فكانت سياطه تقع على جسدها الضّخم، المترهّل، بينما وقفت أختي (مريم) في أقصى الزّاوية، جزعة، مرعوبة، تبكي بصمتٍ، وترتجف، تدفّق الدّم من فمي بغزارة، فارتمت أمي على قدميه، ترجوه، تتضرّع له، تتوسّل، تتذلّل، تبكي بجنونٍ وبحرقةٍ وألمٍ :
ـ أبوس (قندرتك) توقّف، عن ضربه، الولد انتهى.
هجم عليّ من جديد، رفعَ يدهُ عالياً، وهوى بها على رأسي، فطار الشّرر من عينيَّ، وصرختُ صرخةً ارتجّت لقوّتها أرجاء الغرفة، صاحت مريم بذعرٍ شديدٍ، وبينما كنتُ أتدحرج ممرّغاً بدمائي شقّت أمّي ثوبها، اندلق على الفور نهداها الهائلان، تناهى إلى أسماعنا، صوت خبطات قويّة على الباب.. رمى أبي الخرطوم، وخرج ليفتح.
انحنت أمّي تغسلني بدموعها، ضمّتني إلى صدرها العاري، وبكت بحرقة، وهي تدمدم:
ـ أسفي عليك يا (رضوان).. أسفي عليك يا ولدي.
دخل عمي (قدّور)، فأسرعت أمّي إليه باكية:
ـ دخيلك.. الولد راح من يدي.
زعقَ أبي.. متهدّج الصّوت.. وكان النّدم قد تسلّل إلى صوته:
ـ ادخلي.. غرفتك يا مقروفة الرّقبة.. واستري صدرك.
لكنّها لم تأبه بكلامه:
ـ الولد بحاجة إلى (دكتور) يا (قدّور).