ابتداءً من الفكرة التي تقول إن يوسف شاهين لا يعدُّ السينما صناعة وإنما حقل تجارب أو مزاج شخصي، أو وسيط خاص يقول من خلاله ما يعنَّ له من فكر وقول وبالشكل الذي يقدر عليه؛ يبني الناقد الفني والسينمائي مصطفى محرم كتابه (يوسف شاهين أفلام السيرة الذاتية)، الذي يحلل فيه على مستوى السطح أفلام يوسف شاهين التي أُجمع على تسميتها أفلام السيرة الذاتية، وهي (إسكندرية … ليه- حدوتة مصرية- إسكندرية كمان … وكمان- إسكندرية … نيويورك).
إلا أن الكتاب في مستواه الأعمق هو مجموعة من التحليلات الفنية لأعمال يوسف شاهين، وعرض لمقتطفات من سيرة حياته التي تطابق الأفكار الواقعية في تلك الرباعية، مع معارضات نقدية لمجموعة من نقاد السينما العرب، ومنهم (وليد شميط وسمير فريد وسعاد شوقي)، بالإضافة إلى أن الناقد يبث في تضاعيف الكتاب جملة من الرؤى النقدية حول الفن والأدب لنلاحظ مجموعة من الأسماء الأدبية التي يستعين بها الناقد مثل (ووردذورث، العقاد، أبو نواس، روسو، هنري ميلر، أندريه جيد)، والكتاب يضم بين دفته زمراً من المقولات النقدية في السينما والفن، مع تحليلات يغلب عليها الذاتية، ولكنه بمجمله كتاب هام لمن يرغب بمطالعة النقد السينمائي لأعمال المخرج يوسف شاهين.
يبدأ الناقد كتابه بسرد سيرة حياة يوسف شاهين الفنية منذ سني دراسته فن الإخراج في أمريكا، مروراً بالصراع الذي تنازع أحلامه في غزو هوليود، والخذلان الذي أصيب به من الاتحاد السوفييتي الذي لم يحقق له شيئاً من أحلامه بعد أن أخرج فيلم (الناس والنيل)، ثم مروراً بلجوئه لأوربا التي تعشق سحر الشرق، إذ أكثر هناك من وصف مظاهر التخلف في شرقه هذا. وهي مراحل هامة في حياة شاهين الفنية، يستعين بها أثناء نقده للكتاب، رغم أنه يرى أن من واجب الناقد أن لا يقحم حياة المخرج، في نقده لأفلام تتحدث عن فترات زمنية من حياته، وأن يخصها بنقدٍ فنيٍّ محض، بوصفها فناً وليس بوصفها مشاهد واقعية يجب لها أن تتطابق مع حياة المخرج، وكذلك يرى أنه من الأهمية أن يفصل الناقد بين الأدب والسينما، وعدم اعتبار يوسف شاهين مفكّراً يكتب بالكلمة، إذ يجب على الناقد أن يقوم بقياس العمل السينمائي بمقاييس تخص هذا الفن، والابتعاد عن مقاييس أخرى، أي يجب أن يقوم بتحليل لغته السينمائية أكثر من الاهتمام بالجانب الفكري والأدبي للفيلم، وهنا يرى أن قيمة يوسف شاهين ليست فيما يطرحه من أفكار، وإنما بكيفية طرحه الأفكار بلغةٍ سينمائية، فالناقد يرى أن يوسف شاهين مخرجٌ عبقريٌ، إلا أن هذا العبقري دخل متاهة فنيَّةً لم يخرج منها، منذ أن اقتحمت رأسه إلماحةٌ خبيثة بأنه مفكرٌ سياسي.
والحقيقة إن من يقرأ ما كتبه الناقد، يرى أنه استغل العنوان الذي أراد منه نقد رباعية يوسف شاهين تلك، ليسهب في الأحاديث النقدية المطولة عن أفلام أخرى، مع إثارة الجدل حول بعض المقولات النقدية للنقاد حول أعمال يوسف شاهين عامّةً، وحول أفلام السيرة الذاتية خاصّةً، ويرى أيضاً أن الناقد- أراد أن يقدم رؤاه النقدية- حول أفلامٍ يراها جديرة، مثل فيلم صراع في الوادي وباب الحديد الذي يعده من أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما العالمية.
ويعتقد مصطفى محرم أن يوسف شاهين في حواراته الأخير حاول أن يسوق لأفلامه ويرفع من قيمتها، إذ يرى أن المستوى الفكري لتلك الأفلام أدنى مما حاول شاهين أن يروج له، فقد كان لديه، في معظم أفلامه، طموحٌ فكريٌ أكبر من قدراته الإبداعية، خاصةً في مجال السيناريو وبالتحديد في الأفلام التي جاءت بعد فيلم الأرض، ثم يقارنه مع المخرج صلاح أبو سيف خصوصاً في تدخُّلهما في كتابة السيناريو، الذي أفضى بيوسف شاهين إلى اختيار مساعدين له لكتابة السيناريو خصوصاً في أفلامه الأخيرة.
يجعل المؤلف، في نقده وتحليله للأفلام الأربعة، نفسه مفتش بوليسٍ حاذق، يبحث عن الحقائق المتعلقة بحياة يوسف شاهين داخل الفيلم، أو يحاول أن يقارن بين أحداث الفيلم وحياة يوسف شاهين، إلا أنه يرغب بعد ذلك عن إقحام تفاصيل حياة شاهين في النقد، كما يدعي، ويتعامل مع الفيلم بوصفه عملاً سينمائياً فقط. فتذوق عمل الفنان لا يقترن بالضرورة، بمعرفة شيء عن حياته، وهنا يرى أن ليس للناقد إبراهيم العريسي دراية بالفن السينمائي سوى الجانب الفكري فقط، أو بمعنى آخر، هو ينظر إلى العمل الفني على أنه وثيقة فكرية وليس عملا فيناً، وذلك لأن إبراهيم العريسي يتحدث عن حياة يوسف شاهين الشخصية، في فيلمه (إسكندرية … ليه). كما تظهر تلك الفكرة، كأضعف أدوات النقد، عند الناقد وليد شميط، الذي يرى أن يوسف شاهين يكشف في فيلم باب الحديد عن عُقدٍ وجوانب من شخصيته، تتعلق بالكبت والحرمان والغيرة، رغم أن هذا الفيلم بعيد كل البعد عن حياة شاهين.
- د. مراد حسن فطوم يكتبــ: حول كتاب مستقبل الجمهور المتلقي، تأليف: و . راسل نيومان ترجمة: محمد جمول.
- د. مراد حسن فطوم يكتبــ: نقد النقد في مآخذ أبي العباس الأزدي المهلبي على شرح اللامع العزيزي للمعري.
إن أفلام الرباعية، كما يرى الناقد، تأخذ قيمتها الفنية إذا ما ابتعد نقادها عن حياة شاهين، ومجرد الربط بين الفيلم وواقع حياته سوف يحولها إلى أفلام تسجيلية، أشبه بالتراجم الذاتية، ليتركز الاهتمام على حياة شاهين نفسها، وليس على الكشف عن الجوانب الإبداعية في الأفلام. وفي معرض ردِّه على كتاب الناقد سمير فريد، يرى مصطفى محرم، أن حياة الفنان تثير الحيرة والاضطراب في نفس المتلقي، حتى أن يوسف شاهين يرفض أن يتقيد الناقد في تحليله لفيلمه بما لديه من معرفة عن حياته، وأن يكون هذا هو الكشف الذي يبني عليه الناقد حكمه، لأن العمل الفني يجب أن يكون مختلفاً عن الحياة.
ومما لا شك فيه أن يوسف شاهين كان يحاول الخروج من مأزق الجانب التسجيلي في معالجته لتجاربه وأحداث حياته، ولذلك لم ينفرد في كتابة السيناريو، بل أشرك معه آخرين في فيلم (إسكندرية … ليه)، وفيلم (إسكندرية … نيويورك)، وبالنسبة لفيلم (حدوتة مصريه) فقد عمل معه منذ البداية الأديب يوسف إدريس، وهنا يستطرد الناقد في تحليله، لخيبة أمل يوسف إدريس من بلوغ مكانة نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس في كتابة السيناريو، فيرى أنه لم يدرك أن يوسف شاهين قد عثر على الشكل السينمائي الذي يريد أن يحققه في فيلمه وهو الشكل الأقرب من فيلم (كل هذا الجاز)، أما فيلم (إسكندرية كمان وكمان) فإنه من الواضح أن مساعده يسري نصر الله، قد اشترك معه في كتابته، لأن يوسف شاهين، لا يستطيع أن يبدأ في كتابة سيناريو أي فيلم، إلا إذا كان هناك من يحاوره في تفاصيل هذا السيناريو و(فيلم إسكندرية كمان وكمان) هو أقرب إلى الهذيان، من محاولة لتقليد أفلام المخرج الإيطالي فيلليني.
- كتب الواشنطن بوست : فضائح دونالد ترامب ونيكسون وميراث أوباما أبرز العناوين.
- “عابر” رواية فلسطينية للكاتبة لما الحاج على منصة ريدا الثقافية.
بعد ذلك ينتقل الناقد للحديث عن أهمية عنصر المكان في السينما فهو الذي يحدد نوعية الفيلم، وهو الذي يحدد المذهب الذي ينتمي إليه، فيما إذا كان واقعياً أو فانتازيا أو حتى تجريبياً. ويوسف شاهين في أفلامه مثل (ابن النيل- صراع في الوادي- صراع في المينا- نداء العشاق- باب الحديد- الأرض) يظهر اهتماماً بعنصر المكان، ويحرص على التصوير في الأماكن الحقيقية التي تتماشى مع الأحداث، وهو من المغرقين في التصوير الخارجي الذي يتحاشاه المخرجون، كما في فيلم باب الحديد الذي تدور أحداثه في محطة القطار. ولكن الملاحظ في أفلام الرباعية، التي استقى مادتها من واقع حياته، أنه كان يقوم بتزييف المكان في كثيرٍ من الأحيان، وذلك بسبب البعد الزمني بينه وبين الأحداث الحقيقية، وقد عمد إلى الإبهام، لكي لا يعرف المشاهد الكثير من الأماكن الحقيقية، التي ربما قد تحيله إلى حياة شاهين نفسها.
وإذا كان فيلم (إسكندريه … ليه) تحفة سينمائية ينقصها لمسات كثيرة في الإنتاج وفق السيناريو، حتى تكتمل، فإن فيلم (حدوتة مصرية) أقرب إلى التداعيات التي تقتضي أن يكون الإيقاع سريعاً، ورغم أن شاهين حاول أن يحدد الزمان والمكان بمشاهد الأبيض والأسود، التي كانت حشوا لا فائدة منه، فإن تقطيعه للفيلم يدل على بلاغة سينمائية.
أما فيلم (إسكندرية كمان وكمان)، فيرى محرم أن شاهين يبدو فيه متأثراً بفيلم (الموت في فينيسيا) للمخرج الإيطالي فيسكونتي، عن رواية الكاتب توماس مان، وذلك من خلال علاقة كهل بشاب، هي تجسيد لمعنى الجمال الذي يمتزج بالرغبة الجنسية. فالعلاقة المحورية بين المخرج يحيى مراد، وممثله الأثير عمرو ليست مجرد علاقة فنية، بل إنها تتجاوز ذلك إلى العشق الجنسي من جانب شخصية المخرج على الأقل. ورغم التفكك الذي يبدو على أجزاء الفيلم، إلا أنه لا يخلو من عظمة وإبداع يوسف شاهين، خاصةً في المشاهد الاستعراضية، وإن ما يميز فيلم إسكندرية كمان وكمان، هو أن المخرج يحرص على أن يقدم الشخصيات وأحداثها من وجهة نظر الشخصية الأساسية يحيى مراد.
أما أسباب ضعف السيناريو في فيلم (إسكندرية نيويورك)، الذي تدور أحداثه حول شخصية المخرج يحيى مراد، هو اللجوء الدائم إلى الحوار لكي يبلور الأحداث ويحدد الشخصية. وتواجه، مرة أخرى، في هذا الفيلم مشكلة مكان الأحداث ومحاولة الإيحاء بها، إذ يلجأ المخرج إلى الاستعانة في بعض الأحيان بالخلفيات المرسومة بدلاً من التصوير في أماكن حقيقية.
إن أهم النتائج التي تفضي إليها هذه الدراسة، هو أن يوسف شاهين هو مخرج الجزئيات؛ بمعنى أنه يبدو رائعاً عندما تتأمل إحدى جزئيات أي فيلم، ولكنه لا يستطيع أن يحقق المعنى الكلي الفني، والوحدة العضوية للعمل الفني، بحيث يؤدي هذا إلى التأثير الكامل لدى المتفرج.