ترتكز الرواية، كفنٍّ أدبيٍّ، في بنائها، على عدّة عناصرٍ تتضافر لإنتاجها وفقاً للمقاييس التي تضعها في إطارها الفني الخاص، ولعل أهم هذه العناصر هي الزمان، والمكان، والشخصيات، والحدث. ولكن هذه العناصر لا تخضع لقيمٍ كمِّيّةٍ ونسبٍ ثابتةٍ، وهو ما يميز أسلوب كل روائيٍّ عن غيره. فقد يبني الراوي روايته مستنداً على بعض هذه العناصر، كمحور أساسيٍّ، بينما تدور العناصر الباقية في فلك هذا المحور، الذي يكون أشد تماسكاً وجذباً لها، كأن يعتمد الراوي على تضخيم الحدث والعناية بتفاصيل السرد والحكاية، أو أن يجيّر عناصر الرواية لوصف زمان القص، أو يعطي الاهتمام للمكان أو للشخصية المحورية.
وهذا ما يفتح أمامنا أفقاً واسعاً لقراءة رواية أبنوس، للكاتبة روزا ياسين حسن، فهي تبني روايتها حول محور الشخصيات، التي تزخر بطابعها الاجتماعي، الذي يخدم ويوطئ لظهور العناصر الروائية، مما يشد انتباه القارئ. ولعل أكثر ما يثير انتباهنا، هو أن شخصيات الرواية الأساسية والفاعلة والتي تدير الحدث، متقافزةً على زمان القص ومكانه، هي شخصياتٌ أنثويةٌ، وكأن الكاتبة تسعى بذلك لرسم الملامح الاجتماعية للمرأة، من خلال حكاياتٍ متقاطعةٍ ومنفصلةٍ، في نقاطٍ متعددةٍ زمانياً مكانياً، محاولةً إثارة أهم القضايا التي تعاني منها (المرأة/ الأنثى).
إن عائلة النساء اللواتي تدور حولهن الرواية، هي عائلةٌ تتقارب بالدم، والجغرافية، والمعاناة، وهذه السلسلة تحمل كل واحدةٍ منهن اسماً خاصاً وحكايةً خاصةً، مما يعطي شخصياتهن طابعاً اجتماعياً متلازماً مع الواقع الذي تعيشه كلٌّ منهن، وهي تبدأ بالجدة الأولى؛ ناظلي، وتنتهي بالحفيدة الأخيرة؛ أنجيلا، مروراً بأم ريما وريما و سمية(أم إبراهيم) ومريم، وإن لم تكن سناء شريكةً لهذه العائلة من النساء، بقصةٍ تحمل معاناةً من نكهةٍ جديدةٍ، فإننا نستطيع أن نضمها فكرياً لهنَّ، من خلال تبني أم إبراهيم لها واعتبارها (ابنة أختها).
هذه السلسلة من النساء ترتبط بسلسلةٍ من الحكايات، تحاول الكاتبة من خلالها أن ترسم معلماً من معالم حياة المرأة (وربما السورية على وجه الخصوص)، وعقدةً من عقدها، ورغبةً من رغائبها، ومشكلةً من مشاكلها.
وإذا كان من الصعب أن نحدد إن كانت الرواية قصة الجدة ناظلي، أم الحفية أنجيلا، فإننا نستطيع القول بأنها رواية (المرأة/الشخصية)، فالمرأة هنا رمزٌ يملك أسماء وتجارب مختلفةً، ولكنه يحيل إلى قصة امرأةٍ واحدةٍ، بكل ما لديها من تناقض وتصالحٍ، وهي قصة الإذعان التاريخي للقمع الذكوري، والتمرد الأبدي عليه، بعد أن خسرت يوماً، مكانتها الوجودية والاجتماعية، محاولةً تحقيق استقلالها وعالمها.
وإن كانت أم إبراهيم هي الشخصية الأهم، التي تصل حكاية البنات بحكاية الجدّات، فلقد أخذت هذا الموقع الهادئ المهادن، منضويةً تحت جناح اسمها(أم إبراهيم) الذي حملته طيلة الرواية، إذ إننا نكتشف مرةً أن اسمها سمية ثم تعود لتصبح (أم إبراهيم) مجدداً، وهذا ما يدل على أنها شخصيةٌ متصالحةٌ تماماً مع قيم المجتمع الذكوري وفرضياته، فيما ترمز (أم ريما) أهم شخصيات هذه السلسلة، إلى الرفض والانسلاخ، فقد ورثت همَّ الأنثى في مواجهتا لهذا المجتمع، ثمّ تبنَّت هذا الموقع لتصبح لسان حال هذه المواجهة، من خلال رفضها للرجال ونعتهم بالتشابه، ثمَّ تربيتها لابنتها(ريما) وحفيدتها(سميَّة)، مع عدم إغفال العمر المديد الذي عاشته، فقد استمر وجودها كشخصية فاعلة من بداية الرواية وحتى نهايتها، وهذا ما يعطيها القوة الرمزية الأكبر، مكونةً مجتمعاً من النساء، يتغذى من نفس الفكرة، لتتلون بألوان الزمان، مشيرةً إلى همومهن ومشكلاتهن. ثم تكمل أم إبراهيم مسيرتها ولكن بسلبية المرأة، التي لا هدف لها سوى إرضاء زوجها(أبي إبراهيم) الأنا الأعلى، والشخصية الذكورية الأشد حضوراً في الرواية، والتي تغيب أم إبراهيم خلفها. ومن خلال مقاطعة حكايات مريم وإنجيلا وسناء، مع حكايات ناظلي وريما نجد أن التمرد الذي حملته مريم، هو إرثٌ لتمرد ناظلي، بينما كانت ثورة ريما، وإن كانت مقيدةً بالوقت، هو ما حملته سناء ثم أنجيلا في جوانحهما، فإذا كانت ريما قد اتخذت هذه الثورة سلوكاً بانفصالها عن تاريخ (المرأة/الأنثى) و(الأنثى/الأم) من خلال تموّت عاطفة الأمومة عندها، فإن سناء كانت تتماهى بالخارجيات من نساء التاريخ، أما أنجيلا فإنها تحمل محتوى اسم المناضلة(أنجيلا ديفيس وتجربة الفهود السود).
- د. مراد حسن فطوم يكتبــ: حول كتاب مستقبل الجمهور المتلقي، تأليف: و . راسل نيومان ترجمة: محمد جمول.
- د. مراد حسن فطوم يكتبــ: نقد النقد في مآخذ أبي العباس الأزدي المهلبي على شرح اللامع العزيزي للمعري.
مجتمع النساء هذا وإن كان يحمل في حكاياته رمزاً فكريّاً يكافئ أهم القضايا التي تسعى المرأة لتحقيقها، إلا أنه لا يخلو من تناقضٍ واضحٍ، استدعاه البناء السردي،مما شكَّل انقطاعاً غريباً عن سيرورة الشخصية في الرواية، وهو ما نجده في سلبية أم إبراهيم(السلبية هنا تعني انقطاعها عن المشاركة في الثورة والرفض) لتكتفي بالهم الاجتماعي الذي يداخل المرأة التي ترعى بيتها، فهي تتحول لطاهية وممرضة في بيت أبي إبراهيم، كما نلاحظ ذلك في نكوصية مريم وتماهيها بشخصية الأب المتسلِّط. كذلك فإنها تغفل البعد النفسي الجسدي الذي تكابده الأنثى، مفسحةً المجال لظهورها الاجتماعي المحض، إذ إننا لا نرى معانة المرأة وعلاقتها بالرجل في بعدها الوجداني والروحي، فأم ريما تخسر أنوثتها حال ولادتها لابنتها، أما (ريما) فإنها تخسر جسدها وحياتها منساقةً خلف الوهم، بينما تنسى أم إبراهيم ذلك الشيء السفلي(فالمتعة التي لم تخبُرها يوماً راحت تناوشها كشيفرةٍ سريةٍ مجهولة الكنه، كوشوشات غزلٍ في الليالي الدافئة)، وتكتفي أنجيلا بأحلامها، وتطفئ سناء ليلها بنفسها(وقد راحت تتقن دور الرجل الغائب)، إذاً فإن ظهور الأنثى على هذا القدر من الابتعاد عن الرجل، يحيل إلى انفصالٍ في لاوعيها الجمعي عن مجتمعه الذي يمسك زمام قياده بقوةٍ، فالكاتبة تحاول أن تشد انتباه القارئ إلى هامشية هذا الوجود، فالأزمة التاريخية والعامة والعميقة تحدد بالتالي الأزمة الظاهرة القائمة بين الشخصيات(كما يقول جورج لوكاتش).
وتعزز الكاتبة هذا الانقسام والتباعد بغياب الشخصيات الذكورية في الرواية، فالرجل إما غائبٌ تماماً عن مسرح الحدث والفعل؛ كغياب أبناء أم إبراهيم الذكور، وأغيد، وإما يقوم بفعلٍ غير أساسي يكمل الدور الأهم للمرأة في الرواية؛ كشخصية أبي إبراهيم، وأحمد، وخليل الخانجي، وعلوش الخويتة، كما أن هذا الظهور مقيدٌ بحكاية كلٍّ منهنَّ؛ فمحمود إسماعيل زوجٌ خائنٌ منقادٌ خلف الجنية التي ترمز إلى غرائزه، و( الشاب الغريب وشاكر آغا) هروبيان يغدران بريما على التتابع، وعلوش الخويتة رجل معتوهٌ، وأبو إبراهيم رجلٌ متسلطٌ مكتفٍ بنفسه وبوجود أم إبراهيم (كزوجةٍ/خادمةٍ) في منزله بينما ينسحب(حازم)الشخصية الذكورية الإيجابية الوحيدة في الرواية، لتكمل زوجته مريم وابنته أنجيلا رسم الحكاية، ويبقى أغيد معتقلاً وأحمد هارباً، تاركين سناء الخارجية لتحمل وزر ثورتها.
إن استناد الكاتبة على عنصر الشخصية في بنائها الروائي، لا يعني أنها تغفل العناصر الأخرى، إلا أنها تنثرها لتدور في مدارات الشخصية ذات المكانة المحورية في البناء، فتنقلنا بين أحداث الرواية دون أن تحكمها بمنطقٍ زمانيٍّ، وإنما تحدده بمعالم تاريخية كالأحداث السياسية والاجتماعية أو الحروب، كما نجد أنفسنا متنقلين مكانياً بين حي الشيخ ضاهر وشارع القوتلي والكورنيش وقرية عالية ودمشق، فالحدث القصصي يتنقل في هذه الأطر الزمانية المكانية، سعياً لخدمة الشخصيات. وهنا يجب أن نشير إلى الأهمية التي تحملها الرواية في طياتها، وهي الغاية التوثيقية التي يحفل بها الأدب الصادق والهادف، إنها إلقاء الضوء على التشكيلة الاجتماعية، بما تحمله من تنوعٍ دينيٍ وطائفيٍ وسياسيٍ، في زمانٍ ومكانٍ مليئين بالصراع.
وهكذا نرى بقراءة هذه الرواية، أنها روايةٌ بتاء التأنيث، فهي تحفل بـ (المرأة/الأنثى) في هذه الرقعة الجغرافية، إنها حكاية صندوق الأبنوس الذي توارثته عائلة النساء هذه، لتترك كلُّ واحدةٍ منهن في قعره شيئاً يخصها، فيغدو إرثهن وقضيتهن، قضية المرأة التي تنتظر دائماً على حدود التغيير، دون أن تتغير تماماً، وتسعى لشحن المرأة الفاعلة للتعبير عن حاجاتها كأنثى أولاً وكامرأة (بالمعنى الاجتماعي) ثانياً، لتقود صراعها التاريخي بنفسها، بحثاً عن هويةٍ تميزها وتعيد لها عراقتها.