كاجوال: هو كل لباس غير رسمي. بشكل عام يرتبط ارتداء الملابس الدارجة بالحرص على الراحة الشخصية والفردية.. ربما هو رفضٌ مبطنٌ للاعتراف بالتقدم العمري، و محاولة من الشخص البقاء في نظر نفسه و نظر الآخرين، ذاك الرجل الذي يمتلك طاقة الشباب الدائم. ربما هو إنكار لكل ما مر به من أحداث أرهقت كاهل قلبه.
بداية الرواية أظهرت ذلك جليًا، عدم قدرته على ربط ” الكرافيت” و استهجانه لارتداء اللباس الرسمي في حفل احالته على المعاش. حين ذهب لمقابلة نهال أول مرة، كان لباسه كاجوال. حين قابل “سونج” كان لباسه كاجوال. معظم سلوكياته كانت ” كاجوال”.
منذ بداية الرواية، تسحرك شخصيته المتعددة الملامح و القدرات و الامكانيات، يصفه لنا الكاتب و كأنه يصف فارسًا، فيه تجتمع مواصفات الوسامة و الجاذبية، الذكاء و الحصافة، و النجاح.
تتمحور الرواية كلها حول شخصيته هو “البطل” أحمد هو “الباشمهندس” الشخصية المثيرة للانتباه، المثيرة للقلق.
هو رجل أكثر ما يميزه أنه يعشق النساء، مع أنه يقول العكس، فتكثر في دائرته أسمائهن، سمر/نهال / نجوى / سونج/ آمال / ماري/ شيرين…و غيرهن ليثبت أن كل النساء في مداءات عمره عابرات.. كالفراشات لا تترك أثرًا .. لا تعكر صفو مزاجه، هي صفحات من كتابه، كلما انتهت قلبها ليبدأ صفحة أخرى ببداية سطر جديد و نقطة في آخر السطر الأخير و ما بين البداية و نقطة النهاية مغامرة لا تحدها قيود و لا أعراف.. في قاموسه، من كل كلمة يمكن صياغة ألف جملة..
و كانه في مختبر ، كثير من العناصر و كل تركيبة جديدة، لها لونها و رائحتها و مذاقها الخاص، و عندما يصل المركب منها إلى حالة الاشباع، يبدأ بعنصر جديد و محاولة أخرى للوصول إلى تلك النهاية.
شخصية محورية نامية، كل ما في الرواية من أحداث يدور في فلكها.
شخصية مثيرة للجدل ك “رجل ” تراوحت ما بين صاحب النظرة التقليدية للمرأة ، كما نراه يتحدث عن حبيبته الأولى ” سمر ” و التي عمل على صياغتها بما يتوافق مع أفكاره.
“كانت طفلة، ساءل نفسه لم لا یعدھا كزوجةٍ مستقبلیة، وبذا یضمن أن لا أحد مسّھا غیره؛ فمن واقع تجاربه العاطفیة العدیدة، كان معتقدًا اعتقادًا یقینيًا، أن لا أنثى فوق مستوى الشبھات، فلیكن أول وآخر رجلٍ في حیاتھا .”
و ال”دنجوان” ذو العلاقات المتعددة، تميزت بجموح هذه العلاقات مع غياب العاطفة. في انتقال سريع من امرأة لأخرى دون أن تترك السابقة أثرٌ في حياته.
رجل يقول عنه الكاتب:
“كم ھو بار ٌع في إغتنام اللحظة، ومضة ضوء برقت، ولم یكن لیدعھا تفلت من بین يديه؛ فأقتنصھا”
أمرٌ يدعونا للاعتقاد بأننا نتعامل مع شخصية تعاني من psychological disorder . لا يظهر جليًا كسلوك واضح في معاملاته الحياتيه، فهو الرزين العاقل ، الثائر على وضع سياسي و اجتماعي يرفضه، لكنه يترك لدينا هذا الانطباع عندما تكون “المرأة” هي محور الحدث. رجل له أيديولوجيته الخاصة مع النساء، تجذبه المرأة، و يتظاهر بعدم الاهتمام، لكنه يهاجمها بطريقته الخاصة التي تسقِط دفاعاتها، و أول وسيلة للهجوم، نظراته، حديثه، و ما يتمتع به من كاريزما الشاعر، ثم…… يتم له ما يريد أو كما يقول هو ” ما تريد هي” بشراك أعدها مسبقًا و يعرف كيف و متى يستعملها.
رجلٌ تعرض لخيبات متعددة، كل منها كانت بمثابة صفعة قد لا يريد الاعتراف بها، لكنها كانت تساهم في شخصيته الأخرى، “العابثة” . زواج حبيبته بعد رفض أمه لها. و الثانية ، عندما كان في باريس ، يقول:
“لملم شتات نفسه، واستجمع شجاعته -ھل لي أن أراك الليلة؟
ضحكت كثيرًا، حتى دمعت عیناھا، تورد وجھه خجلاً وتصبب عرقًا، ھنیھة وكفت عن الضحك، أنعمت النظر في عینیه، ھمست بما یشبه الصدى
– لیلة واحدة لا تكفي، ولا لیلتان، ولا شھر، أنا أریدك وأشتھیك لعمٍر بأكمله، وأنت إن عاجلاً أو آجلاً سُتغادر، لذا أعتذر عن قبول دعوتك، عمت مسا ًء وإقامة طیبة
استدارت وانصرفت دونما التفاتة، وتركته غار ًقا في بحر خجله وإحباطه .
كانت تلك أول صفعة یتلقاھا من امرأة، وعقد العزم أن تكون الأخیرة .ص 84-85
-بنيت الرواية على أربعة محاور:
المحور الأول : الطلاق العاطفي.. الذي ظهر جليًا في علاقته بزوجته المريضة من ناحيتين:
الناحية الحسية و تتمثل بفقد التواصل الحميمي معها.. نقرأه:
” ثلاث سنوات مرّت دون أن یقربھا، أخبرھا مرارًا وتكرارًا، أنه لا یأتیھا لیس كرهًا لھا أو نفور”ا منھا،و إنما خوفًا علیھا، یذكّرھا دائًما بآخر لیلة باشرھا، وكادت تلفظ أنفاسھا بین يديه، أصیبت حینذاك بأزمة قلبیة كادت تودي بحیاتھا، تنظر إليه مستنكرة
– أنا دلوقتي بقیت كویسة، إنت اللي مالكشي رغبة وبتتلكك وبس، یا عم ھو أنت فاضي لي، كفایة علیك نسوان الندوات، والمكالمات اللي بتیجي لك بعد نص اللیل یا باشمھندس
ینظر إلیھا شذ ًرا، ثم یترك لھا المكان حیث تجلس، ویذھب إلى غرفةٍ أخرى، محدًثا نفسه أ یلبي طلبھا وتموت بین یدیه، أ یرضى بذلك ؟، وكیف سیسامح نفسه إن فعلھا وماتت ؟” ص.65
يقودنا ذلك إلى الطلاق الفكري ..
من الناحية الفكرية: حيث بدا الاختلاف و التباين الثقافي بينهما جليًا. فكل منهما في واد، و الالتقاء بينهما كان الارتباط الأخلاقي و الصفة الاجتماعية التي كان أساسها الأولاد.
“كل ھمھا منصبًا في مراعاة احتیاجات ابنھما، والمواظبة على أخذ جرعات الدواء المقررة لھا في مواعیدھا المحددة، والإسترخاء أمام التلفاز فیما یتبقى لھا من وقت، أما ھو فلا قیمة له الآن، بعد أن أحیل للتقاعد.”
و يقول في حديث له مع ” نجوى” :
” أنا زوجتي مبتقراشأصلاً كتاباتي، كفایة علیھا المسلسلات التركیة والأفلام الھندیة .”
المحور الثاني:
الخلاف القائم في جو الأسرة و الاحساس بعدم تقبل أولاده و احترام رغباته و حلمه المتجذر داخله في أن يكون أديبًا ، شاعرًا ، كاتبًا.. أن يكون ” هو” الذي يحب و ليس الذي يرونه ..
هذا الرفض الذي ينطلق من مظهر اجتماعي بحت فكلمة ” مهندس” لها وقعها الذي لا توازيه كلمة”شاعر”، وضَعَهُ في عالم آخر . عالم منفصل عن عالم عائلته. دفعه ذلك في عملية بحث عن شبيه له، أو لنقل عقل و قلب يماثله شغفًا. ص:14-15
“تفاجأ بعد عدة أشھر بحصوله على المركز الثاني، وقررت الھیئة طبع دیوانه على نفقة الدولة .
تلقى أبناؤه الخبر بفتور، فقد كان ما یشغلھم بعد تفاعده، أن یجدوا لھ عم ًلا في القطاع الخاص أو في خارج البلاد، فھو في نظرھم مھند ًسا
مرمو ًقا، ویجب أن یظل مھند ًسا مرمو ًقا، ولا شئ عدا ذلك .
“- باركلى …الروایة بتاعتي فازت بالمركز الأول في مسابقة وزارة الثقافة
نظر إلیھ نظرة المتعجب الرافض، ولا یقوى على البوح إحتراماً لوالده
– مبروك قالها مغلفةً بآھٍة لم ینجح في إخفائھا – إنت مش فرحان واللا إيه؟ – وھأفرح لیه ؟ …إنت یا بابا مھندس مش مؤلف،
وھتفضل في نظري مھندس وبس.٠ ص.50
و هذا بدوره يقودنا إلى …
المحور الثالث: البحث عن النصف الآخر قلبًا و قالبًا.
لذلك نراه مدفوعًا بلحظة إعجاب إلى علاقة حميمة تنتهي بلا شيء
و تتعدد العلاقات، تارة لمحاولة إشباع ال “الهو” عنده كشاعر أو قاص، يجذب النساء اللاتي تعجب به أولًا ككاتب و شاعر ، ثم لإشباع ال” الأنا ” ” ego”عنده كرجل ذو سمات و ” كاريزما” توقع في حبائلها النساء على اختلاف أعمارهن. فهو ال “دون جوان”.
الدون جوان صاحب الكاريزما السحرية، الإفتتان بذاته، أو ربما نرجسية لم يشأ الكاتب أن يعلن عنها صراحة، ربما لأن شخصيات البطل فيها كثير منه، في ص55
“- ھو أنت ع المعاش بجد ؟
التفت إلیھا مستغربًا سؤالھا
– أمال یعني بأمّثل ؟
– لا والله مش قصدي، أنا قصدي ممكن تكون معاش مبكر
– لا یا ستي، أنا عديت الستین
ضحكت في غنج
– ما ھو ده اللي مجنني، إنت بكتیره خمسة وأربعین سنة”
*يقول فرويد إن الشخصية مكونة من ثلاثة أنظمة هي الهو، والأنا، والأنا الأعلى، وإن الشخصية هي حصيلة التفاعل بين هذه الأنظمة الثلاثة.
الهو (ID):
الهو هو الجزء الأساسي الذي ينشأ عنه فيما بعد الأنا والأنا الأعلى. • يتضمن الهو جزئين:
جزء فطري: الغرائز الموروثة التي تمد الشخصية بالطاقة بما فيها الأنا والأنا الأعلى.
جزء مكتسب: وهي العمليات العقلية المكبوتة التي منعها الأنا (الشعور) من الظهور. •
ويعمل الهو وفق مبدأ اللذة وتجنب الألم. • ولا يراعي المنطق والأخلاق والواقع. • وهو لا شعوري كلية.
الأنا (ego):
الأنا كما وصفها فرويد هي شخصية المرء في أكثر حالاتها اعتدالاً بين الهو والأنا العليا، حيث تقبل بعض التصرفات من هذا وذاك، وتربطها بقيم المجتمع وقواعده، حيث من الممكن للأنا ان تقوم باشباع بعض الغرائز التي تطلبها الهو ولكن في صورة متحضرة يتقبلها المجتمع ولا ترفضها الأنا العليا.
يعمل الأنا كوسيط بين الهو والعالم الخارجي فيتحكم في إشباع مطالب الهو وفقا للواقع والظروف الاجتماعية.
ويوازن الأنا بين رغبات الهو والمعارضة من الأنا الأعلى والعالم الخارجي، وإذا فشل في ذلك أصابه القلق ولجأ إلى تخفيفه عن طريق الحيل الدفاعية.
عند اسقاط هذا المفهوم على سلوكيات البطل نجدها متأصلة فيه و كأنها مفصلة على قياسه. في مجمل علاقاته ” النسائية” هناك تبرير لسلوكياته، يحاول ايضا ايهامنا بأنه هو يعطيها، أقصد المرأة، ما يشعر أنها تريده. هو لا يريد الاعتراف بشبقه، بل يسقطه على الآخريات. كمثال على ذلك : )عندما قرأ قصص المرأة)
أهي حالة من أنواع الشبق الجنسي ” النمفومانيا”
فالشبقية (اضطراب وهمي يعتقد الشخص أن الآخرين مفتونون به / معها).
حيث تكون ، بالنسبة لهم، ممارسة الجنس كشكل من أشكال الهروب من المشاكل العاطفية والنفسية الأخرى ، بما في ذلك التوتر والقلق والاكتئاب و العزلة الاجتماعية. بدا لي واضحًا أن واحدًا إن لم يكن أكثر من هذه المشاكل كانت تلقي بثقلها على الشخصية.
فالرحلة بمجملها كانت معركة نفسية بحتة، يصارع فيها الكاتب عقدًا مختلفة، تبدأ بنهاية قصة حبه الأول ، ثم الرفض الأسري لما يراه “حلمه ” الخاص. الكبت الجنسي و تداعياته،
تساءلت، لمَ لم يدافع، و هو المهندس صاحب الشخصية المتكاملة علمًا و ثقافة و قدرة، عن حبه؟
لم استسلم و هو الرجل المعتّد برجولته لإرادة والدته ؟ يقول عن حبيبته:
“حاولت الإنتحار مرتین وفشلت، بینما كان ھو یتفرج ولا یتقدم خطوة، وكیف له أن یتقدم وھو ما یزال یتلقى مصروفه من أبيه، رغم تخرجه مھندسًا حدیثًا، ولم یلتحق بعملٍ انتظارًا لتجنیده، وتمضیة الخدمة الإلزامیة، ضابطًا كما وعد أباه.”
أتساءل: هل كان يقول الحقيقة؟
استنتجت لاحقًا أنه كان ، و رغم أنه قد شكل طينة محبوبته كما شاء فكريًا، فصارت يده و لسانه، كان يبحث عن شيء آخر. ربما عن “ندّ “. امرأة توازيه لكنها تثيره و تستفز رجولته حتى و إن كانت مختلفة عنه. إنه البحث عن النصف الضائع..
رحلة شاقة لكنها كانت تسير في الاتجاه الذي يرضيه و يشبع شغفه. بدأت تظهر ملامحها بالنسبة له منذ بدايات انتشاره كشاعر و أديب: ص12
“-كلماتك یا باشمھندس ممیزة جدًا، العاطفیة منھا بوجه خاص، تشع دفئاً في قلب من یسمعھا
– حضرتك أستاذتنا ومن أشعارك الرقیقة نتعلم
– أنا بأتكلم جد والله ..كلماتك رائعة
صمتت لبرھة ثم أردفت ھمسًا
– بتأسرني الحنية اللي ف حروفك
أمعن النظر في عمق عینیھا، لم یكن بحاجة لبذل جھدٍ ولو بسیط، لیدرك ما تبوح به نظرتھا الحالمة.
نھضت ومدت یدھا لھ مھنئة له على قصيدته الأخیرة، وأودعت في یده كل ما یجیش به صدرھا، إلا أنه تغافل متضنعًا خجلاً لا وجود له .
الجملة الأخيرة تفصح حقيقته، و تثبت صدق رؤاي.
“إلا أنه تغافل متصنعًا خجلًا لا وجود له.
هي لم تفصح و هو عرف و أحس، من منهما يجيش صدره؟ هي أم هو ؟
أعود و أقول، كثيرًا ما تراءت من بين سطور الرواية ، و بوضوح، التركيز على الشخصية” الدونجوانية”التي تتمتع بقدر من النرجسية الواضحة “Narcissistic”
و التي تحتم عليه، طوال الوقت، وجود نساء في حياته يمارس عليهن سلوكًا من نوع خاص يستخدمه لتعزيز موقفه أمام النساء أنه شخص مرغوب فيه.
حيث نراه يسعى للوصول إلى النساء المتميزات، و على الرغم من أنهن متميزات بين نساء مجتمعهن إلا أنهن كلهن سواسية بالنسبة له. و ذلك ليثبت لنفسه أنه يستطيع، دومًا، جذب الانتباه، و تأكيد فحولته. نراه كيف يصف نفسه بنفسه تارة:
“وهبه الله قدر ًة جسدیة ُیحسد علیھا رغم نحافة جسمھ، ورغم إرھاصات صل ٍع بدأت تشق طریقھا في أم رأسه، إلا أن مظھره وملامحه، ملامح رجل في أواخر الأربعینات من عمره، یجمع ببراعة بین عدة متناقضات، كثیر الحركة، كثیر التأمل، متحدًثا جيدًا، و لكنه قلیل الكلام، آفته الوحیدة خجله عندما یلقي شعره وأقاصیصه على الملأ، وقوة سحره تتجلى عندما یلقیه ھمسا؛ تنساب دفقاته إلى قلب مستمعه بلا أي عوائق .”ص.58
و تارة، يؤكد نرجسيته، من خلال حديث الشخصيات -النسائية طبعًا عنها- مما يجعل من نفسه أسطورة “الرجل المحبوب” ص:69
“- ھو أنت ع المعاش بجد ؟ التفت إلیھا مستغر ًبا سؤالھا
– أمال یعني بأمّثل ؟
– لا والله مش قصدي، أنا قصدي ممكن تكون معاش مبكر
– لا یا ستي، أنا عديت الستین ضحكت في غنج
– ما ھو ده اللي مجنني، إنت بكتیره خمسة وأربعین سنة
المحور الرابع: و الذي اندس بين سطور الرواية ليفرض نفسه كواقع ملموس، متكرر و مؤرق. الثورة على إعادة تدوير السلطة ثم تصدر نفس الوجوه و ذات الشخصيات المشهد و اعتلائهم كراسي السلطة، و مناداة الشباب لقيادة المرحلة، تحت رعايتهم، و الحجة موجودة و مرتبة مع أنها غير مقنعة” لا يمتلكون الخبرة” هذا ما نجده في الصفحات/61….63/
يقول:
“وھنا، یتشدقون بمبادئ الثورة ودور الشباب الصاعد، وضرورة أن یتقدموا الصفوف لقیادة الوطن، ثم وفي أول إختبا ٍر عملي یتساقطون كالذباب؛ المتھافت على بقایا وجب ٍة عفنة، لا تسمن ولا تغني من جوع .”ص.61
و يتابع :
“، أنا باتكلم عن جیل كامل طأطأ رأسه واستكان للنظام، وأنا أولھم لأني ببساطة انتمي لھذا الجیل الجبان، خضعنا ولم نحرك ساك ًنا، وعندما تجرأ الشباب وقاموا یثورتھم، صفقنا لھم ثم ماذا ؟ ….سرقناھا منھم بمنتھى البساطة، وحجتنا أنھم مازالوا عدیمي الخبرة، وأمامھم الكثیر لتعلمھ، لنستولى نحن الكھنة على الإرث من ھذا الموقع وحتى قمة الھرم …لا تتحدثوا عن وقوفكم بجانب الشباب ھذا أكرم لي ولكم … ..لو سمحتم …لا تتحدثوا .” ص.63
أسلوب الرواية:
اعتمد الكاتب في روايته على تقنية التيار الوعي السردي، معتمدًا عل آلياته في
*الخطف خلفًا flash back
*التداعي الحر
*الشغل العقلي في الكتابة
إن هذه التقنية تشكل رابطًا سلساً مع الذاكرة وحضورها بوصفها مفهوماً ينفتح على عدد من الأسئلة حين نخاطبها على أنها تقنيةً فنية ومادةً سردية ضاغطة على مجريات الأحداث بحضورها الحكائي الفاعل في العمل الإبداعي، إذ اثبتت بما تمتلك من مشروعية الدخول إلى حقل الخيال الفسيح قدرتها على إعادة صياغة النص وعلى وفق مشيئتها عن طريق الاسترجاع، الإرجاع و التداعي الحر.
حيث تقوم بدورها إضاءة الزمن في الرواية.
حيث يعد الزمن من العناصر الأساسية في النصوص الحكائية بشكل عام، فالشخصيات والأحداث لا تتحرك إلا ضمن إطار زمني لا بدّ منه، وإن فقدته الرواية توقفت وجمدت في سكون لا يمكن أن تستمر بعده؛ ذلك أنه يحاكي الذاكرة وحضورها في السرد وهو يتجول في أروقة الماضي، وينفتح على اشتراطات الحاضر بما فيه من ثوابت ومتغيرات،
-يؤكد موبسان أن النقلات الزمنية في النص الروائي من أهم التقنيات التي يستطيع الكاتب عن طريق إتقانها والتحكم فيها أن يعطي للقارئ التوهم بالحقيقة.
إذًا، تتكئ الرواية على التلاعب الزمني بين الاسترجاع (الماضي)، و الإرجاع ، و التداعي الحر ، والحاضر (الآن) فهما تثيران في نفس المتلقي المتعة والأنس كما تخلقان رؤية جديدة للحوادث.
-المكان في النص الروائي
و مع اختلاف الأزمنة تختلف جغرافية الأمكنة، التي تتحرك في فضاء واسع ، تعطي كل حدث صبغته و تلقي على الشخصية أضوائها و تأثيراتها من حيث السلوك و الحركة. فيتحول المكان إلى شخصية إضافية لشخصيات الرواية.
ففي المكان دائما تبرز هوية الشخصية ببعدها الاجتماعي والثقافي وحتى البيولوجي، و من هنا تبرز
أهمية المكان:
يكتسب المكان فى الرواية أهمية كبيرة، لا لأنه أحد عناصرها الفنية، أو لأنه المكان الذى تجرى فيه الحوادث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول إلى فضاء يحتوى كل العناصر الروائية، بما فيها من حوادث وشخصيات، وما بينها من علاقات، ويمنحها المناخ الذى تفعل فيه، وتعبر عن وجهة نظرها، ويكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء الرواية، والحامل لرؤية البطل، والممثل لمنظور الكاتب، وبهذه الحالة لا يكون المكان كقطعة القماش بالنسبة إلى اللوحة، بل يكون الفضاء الذى تصنعه اللوحة.
إن المكان فى الرواية هو “المكان اللفظى المتخيل، أى المكان الذى صنعته اللغة انصياعاً لأغراض التخييل الروائى وحاجاته فالنص الروائى يخلق عن طريق الكلمات مكاناً خيالياً له مقوماته الخاصة وأبعاده المتميزة.
إن الوضع المكانى فى الرواية أصبح محدداً أساسياً للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث والحوافز، أى إنه سيتحول فى النهاية إلى مكوّن روائى جوهرى ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور.
الشخصيات:
الشخصية الرئيسية النامية ” أحمد” :تمحورت الرواية حول الشخصية الرئيسة” أحمد” أو “الباشمهندس” كما كان يطلق عليه على مدى الرواية حتى عندما اعتنق الأدب فصار شغله له الشاغل و هاجسه الأول على الرغم من كل محاولات أبنائه ثنيه عن ذلك تماشيًا مع ” البرستيج” الاجتماعي الذي يضعه كمهندس في طبقة اجتماعية لا يتصف بها الشاعر .
تحدثت مطولًا عن هذه الشخصية في بداية الدراسة، لكنني أبقيت على نقطة هامة كانت نقاط تحوّل و انعطاف في حياته، إنها ” المحطات الثلاث”.
يتحدث الكاتب عن ثلاث محطات كانت لها الأثر العميق في مسار شخصية البطل” الباشمهندس” في الرواية، قال عنها أنه “بكى فيها بغزارة لساعاتٍ طوال، و لأيام متتالية” محطات لاحظنا فيها تبدل شخصيته و تشكلها بطريقة أحدثت ” U turn” في حياته:
-المحطة الأولى:
یوم ھجرته حبیبة عمره، و ُخطبت لآخر، أصابته لوثة، یجوب الشوارع باكيًا أو مغنيًا، أو محد ًثا نفسه بصوتٍ عال، ُملقًیا باللوم علیھا تارة،واصًفا إیاھا بأحط الصفات، ولائمًا نفسه تارًة أخرى،
يقول :من يعرفه یلتمس له العذر
هل نلتمس له عذرًا؟ حين استسلم لقرار والدته بعدم زواجهما لأنها رأته يقبلها، و هو الذي صنعها لنفسه كما كان يقول:
” ساءل نفسه لم لا یعدھا كزوجةٍ مستقبلیة، وبذا یضمن أن لا أحد مسها غیره؛ فمن واقع تجاربه العاطفیة العدیدة، كان معتقدا اعتقادًا یقینیًا، أن لا أنثى فوق مستوى الشبھات، فلیكن أول وآخر رجلٍ في حیاتھا .
يحيلنا هذا المونولوج إلى ازدواجية الشخصية، و التي تؤكدها شخصيته النرجسية، في رؤيته للمرأة،و التي تركزّت صورتها بأنها أداة متعة له.
أتساءل، لماذا لم يصر على الزواج بها؟ و أتساءل على سبب هذه التعددية في العلاقات، و التي كانت تنتهي بد فترة وجيزة؟ لأستنتج أن في مخيلة هذا الرجل امرأة بمواصفات خاصة، هو لم يفصح عنها، و لكنه كان يبحث عنها في كل النساء، مواصفات لامرأة ربما تكون له ندًا من جهة، مومسًا من جهة أخرى، امرأة ربما لا توجد في الأساطير. ليخرج في النهاية، بلا شيء. تنتهي كما انتهت علاقته ب”سمر” بعد آخر لقاء حميمي جمعهما.
يقول الكاتب ص 105
“لم تكن سمر مثل كثیراتٍ مررن في حیاته، ثم ترجلن من قطاره في محطا ٍت توالت بتوالي سني عمره، بل كان ترجلھا قسرًا أو ھكذا توھمه، فاحتفظ لھا دائمًا بمقعدً لھا في مخیلته، أجلسھا فیه، لم یتركه للحظةٍ شاغرًا، إلا أنه وكالعادة لابد للمتوھم أن یستفیق، وكانت ھذه اللحظة ھى المعول الذي قبضت یدھا علیه، وانھالت ھدمًا في صرح ذكریاته وأحلامه، كأن النسیان عندما فشلت كل محاولاته في محو طیفھا من ذاكرته، جاءت سمر لتمحوه، وتزیله بغیر رجعة .
-المحطة الثانیة:
يوم توفي ابنه ابنه البكر. محطة كسرته، قادته إلى الاكتئاب، لم يكن ، رغم كل ما يبديه من قوة و رباطة جأش، في أمور حياته و مساراتها، هذا الذي عارك الحياة و عاركته، جاء هذا الأمر ليقول كلمته في هذه الشخصية التي أخفت داخلها رقة الأب الرؤوم. كان “محمد صالح” أول تباشير الفرح ، لكن القدر أبى أن يدع فرحه يكتمل: بكى بحرقة، كما بكى حين خسر حبيبته، يقول :
“مات محمد الصالح، ومات معھ أبوه حیًا “
المحطة الثالثة:
يوم وفاة والده، الذي لم يكن ، بالنسبة له، مجرد أب، بل كان مخزن الحب ، و الثقة، و عصاة الاتكاء. هنا توقفت الحياة، لتنعطف به إلى مسؤولية تضعه أمام استحقاق اتجاه عائلته، هو العقل الرشيد الواعي.
محطات ثلاث، بكى فيها بغزارة لأيام. حتى لأظن، و أنا شبه متأكدة، أنها استنزفت آخر مخزون للعواطف عنده. ليتحول إلى هيكل إنساني المبادئ ، شديد العقلانية، يسعى لهدفه باضطراد، حتى في علاقاته النسائية، لكنه يحيّد قلبه جانبًا.
ما زلت أرى أن هناك محطات أخرى ساهمت في تحديد مسار سلوكياته:
المحطة الأولى:
تلك الخيبة التي صفعته عند محاولته التقرب من فتاة باريس، كان ما يزال في بدايات حياته، لم تصلب عوده التجارب بعد، كان ما يزال يتمتع ببعض خجل، و كانت علاقاته مع النساء لم تتعد حبيبته سمر ، التي انتهت كما انتهت كل علاقاته الأخرى في بحث مضنٍ عن” كنزٍ ” مفقود . صفعة قادته لقرارٍ كنا نتابع تحققه في كل علاقة يدخلها. يقول الكاتب : ص84-85
“لملم شتات نفسه، واستجمع شجاعته
-ھل لي أن أراكِ اللیلة؟
ضحكت كثيرًا ً، حتى دمعت عیناھا، تورد وجهه خجلا ً، وتصبب عر ًقا، ھنیھة وكفت عن الضحك، أنعمت النظر في عينيه، ھمست بما يشبه الصدى
– لیلةً واحدةً لا تكفي، ولا لیلتان، ولا شھر، أنا أریدك وأشتھیك لعمرٍ بأكمله، وأنت إن عاجلاً أو آجلاً سُتغادر، لذا أعتذر عن قبول دعوتك، عمت مساءً وإقامة طیبة
استدارت وانصرفت دونما التفاتة، وتركته غار ًقا في بحر خجله وإحباطه .
كانت تلك أول صفعة یتلقاھا من امرأة، وعقد العزم أن تكون الأخیرة .”
صورة جلية واضحة لشخصية أصبح جل همها، الوصول إلى غايتها، انظر ما يقوله :
– “المحطة الثانية:
والتي بدأھا مباشر ًة ُبعید إحالته للمعاش .
كانت سلمًا أجاد الصعود عليه دون عنا ٍء يُذكر، وكانت أول ثمار تلك العلاقة، نشر أربع قصص قصیرة له دفعة واحدة في أشھر مجلة أدبیة، لم یطلب منھا أو ُیلمح لھا بمساعدته، كل ما في الأمر أنه أعطاھا ما تریده منه، وھى بدورھا لم تتوان في مساعدته.”
أيها الدونجوان، “ما تريده منه؟” أم ما تريد أنت؟
كم أنت قناص للفرص، لا تتوانى عن رمي شباكك ثم تجلس مسترخيًا منتظرًا وقوع الفريسة فيه. يصفه الكاتب فيجعلنا نقول:،”لست بتلك البراءة، يا باشمهندس! “ص: 28
“كم ھو بار ٌع في إغتنام اللحظة، ومضة ضوء برقت، ولم یكن لیدعھا تفلت من بین یدیھ؛ فأقتنصھا٠”
إنه الشخصية النرجسية البارع في التلاعب بالمشاعر خاصة في بداية العلاقة حيث يكون جذابا وممتعا.
تحكمه الأنا الواثقة بالنفس والمتضخمة وهذا التضخم يتغذى على شعوره القويّ بالاستحقاق، أي أنه يستحق وبجدارة (من وجهة نظره) أن يكون محل إعجاب الكل. لذلك يعمل كل ما في جهده حتى يحصل على إعجاب من يتعامل معه، لأن الحصول على إعجاب الآخرين هو ما يحتاجه ليُغذي الأنا لديه ويزيد من ثقته والمبالغة بنفسه.
والحقيقة هنا أن الآخر ليس بذات الأهمية عنده، المهم هنا أن يؤكد لنفسه أنه محبوب وأنه جذاب أما الآخر فهو وسيلة وتنتهي.
نراه يحتاج للعلاقة في حياته لكن لفترة قصيرة ومن غير التزام، وعادة ما نجده يبحث عن علاقة تناسب حاجاته بينما هو مستمر في علاقة أخرى، يقدم على خيانة الشريك( كما فعل بزوجته) رغم انه وضع تبريرات، لكنها طبعًا لم تكن مقنعة، هو يحاول أن يبرر لنفسه الخيانة، و ما يسببه لها من الإساءة عاطفياً لأنه يحمل رسائل متناقضة، فهو يريد أن يكون في علاقة ولكن بشروطه، وهذا ما نسميه “باللعب” أو المراوغة، و هو ماهرٌ به.
-المحطة الثالثة:
شرين: و التي كانت خاتمة علاقاته النسائية، و الشخص الذي كتب خاتمة حياته.
شيرين ، التي أحبته حتى آخر مدى لأنفاس الحب، و التي أحبها كما لم يحب أيٍ من النساء اللاتي وردن ساقية الحب خاصته، نهلن منها، ثم مضين.
هي وحدها استأثرت بقلبه، هكذا بدا لنا من حديثه، و هي التي خطت آخر سطور حياته. يقول:
الشخصيات الأخرى:
بدت الشخصيات الأخرى كما رسمها الكاتب و كأنها الكترونات تدور حول النواة، تارة تنجذب إليها و تارة تنفر. مرة تقترب منها و أخرى تبتعد، مشكلة بذلك مسار الأحداث و مؤثثة لردود أفعال الشخصية الرئيسة.
فهي كالعامل المساعد في التفاعل الكيميائي يأتي بها الروائي لربط الأحداث أو إكمالها, وهذا لا يعنى أنها غير مؤثرة, فإن كانت كذلك فما الحاجة إلى الاستعانة بها إذًا, بل كانت مؤثرة لكنها غير مصيرية, تحرف مسار الرواية أو تضيف حدثا شائقا، و تضفي على الشخصية الرئيسة وميضًا يظهر جانبًا جديدًا من جوانب شخصيته.
أكثر هذه الشخصيات أثرًا كانت
-والدته: التي رفضت ارتباطه بحبيبته، فوضعت أول لبنة في تكوينه النفسي، الذي انحرف مساره عما كان قد رسمه .
-فتاة باريس ( ماري) التي أعطته أول صفعة برفضها لطلبه الخجول، كما يدّعي، فقرر أن تكون الأخيرة، و هذا ما وجدناه في علاقاته النسائية فيما لحق من الرواية.
-زوجته: و ذاك التباعد الشاسع في اهتمامات كلٍ منهما ثقافيًا، و من ثم ما حدث بينهما من تباعد جسدي، كان لكل من هذا تبعاته على حالته النفسية و بالتالي سلوكياته فيما بعد.
-شيرين: آخر قصة حب أسرته، و تملكت شغاف قلبه، و أخذت بتلابيب روحه، لم تكن ككل من عبرن حياته، كان تفضيلها لعائلتها عليه الخنجر الذي استقر بخاصرته. ربما كانت هي، وجع القلب ، الذي أودى به. يعلق السارد:
“انتھت قصتھا معه، ولم تنته، خرجت من حیاته بجسدھا، لكنھا بقیت بروحھا ونظراتھا وھمساتھا ورغبتھا وترددھا بین إقداٍم وإحجام كلما استبد بھا حنینھا إليه؛ تھاتفه كما وعدته لتطمئن علیه، و لتطمئنه على وفائھا و إخلاصھا ومحبتھا له.
حاول أن ینسى أو یتناسى كعادته، لكنه فشل، كانت دائمًا تعبث في مخیلته، وتتسلل آھاتھا في خلایاه؛ فتؤجج نار حنینه إلیھا، ساءل نفسه كثيرًا لم ھى بالذات؟..ألم تكن آخریات سبقنھا إلى التوغل داخل ردھات قلبه، والإستیلاء على مشاعره، وطواھن النسیان بین صفحات كتاب حیاته !..لم ھى لا تغادر مثلھن ؟ بكى كثيرًا من قبل، لكنها اللیلة
بكى وبدون وعي ٍ كتب…
دوري انتھى ف مترسمیش وشي ف أفیش وماتكتبیش اسمي ف بانر
أنا مش قدر ولا حبي خالد للأبد
قلبي اتخلق زیي ف كبد
أحلامي ماشیة بعكازین
وخیالي خالي من الصور
إیه تعملي ؟
والمفترض دور البطولة ل / توم كروز
إزاي عجوز یستبدله بمكیاج عبیط
إزاي بسیط
ما أملكشي غیر نبض الحروف
ف الأوردة یلعب ف فیلمك دور بطل
أول ما حب ف لیل یطیر
من بین رموش عینك ..وقع .
كان یدرك تما ًما أنه وقع، أنه قُتل غیلة وإن كان لا یزال في صدره بقایا أنفاس، لكنھا كدخانٍ یحرق ویخنق ولا یمیت؛ فالموت له وقته ومكانه المحددین سلفًا منذ بدء الخلیقة نفسھا، لكنه بات منذ الآن ولأول مرة ینتظره! ص131-132-133-134
النهاية:
كثيرًا ما نرى النهايات المأساوية في قصص الأديب محمد البنا. نراها في رواية ” نور” و رواية ” العشق الحرام “.
حزينة كانت النهاية، و مؤلمة حد الموت، أن ينطفئ نورٌ كان قد بدأ يضيئ قلب قد طال بحثه عن سلطانه و دنيا حلم يتلمس طريقه للمجد. لكن وجع قلبه على فراق شيرين له كان أقسى من أن يحتمله. يقول:
“فالموت له وقته ومكانه المحددین سلفًا منذ بدء الخلیقة نفسھا، لكنه بات منذ الآن ولأول مرة ینتظره!”
تنتهي حياته، أمام الشاشة الفضية التي عكف عليها و على كتبه و أوراقه، ممتنعًا عن الناس، لتأتيه بشارة كان ينتظرها وقتًا ليس بالقليل، كسب مقابل خسارة، ربما لم يعد له تلك الأهمية، ربما إرادة الله و قدره، أن يزرع ابتسامة على وجهه و لو لمرة واحدة وسط كل أمواج الألم الذي دق أطنابه في قلبه عمرًا، و إن كان لم يبده، قد يكون هذا الجبر قد جاء متأخرًا، لكنه أغمض عينيه قريرًا به. ص135-136
“یستدعیه من بحور ذكریاته، ومیض رسالة تحتل زاویةً من الشاشة الفضیة، ینھض، یجلس على مقعده الحدیدي المبطن بالجلد ذي اللون الأسود، یضع نظارة القراءة على عینیه، طرقاتٍ متسارعةً على باب غرقته؛ یعقبھا مباشرة اندفاع أولاده وزوجته مھللین ” بابا ..مبروك یابابا…مستشار في شركة طیران أمریكیة ..تصور …أمریكیة یا بابا أمریكیة”
لم یلتفت، دنوا منه مرتابین، لمح ابنه الرسالة الظاھرة بجلاء على شاشة اللابتوب ” مبروك یا باشمھندس أحمد ..جائزة الدولة التقدیریة “
كان وجھه مبتسمًا، مشرقًا كقمرٍ في لیلةٍ ظلماء، اسبلت زوجته عینیه، واستدارت؛ تلقاھا ابنھا بین ذراعیه قبیل سقوطھا، وأجلسھا على حافة السریر، وانخرطوا في نوبة بكا ٍء صامت .