You Create, We Appreciate

مصطفى الحاج حسين يكتبــ: القصيدة الميّتة…(قصة قصيرة).

مصطفى الحاج حسين يكتبــ: القصيدة الميّتة…(قصة قصيرة).
لم أكتب من شهرين، ليس من عادتي ذلك. كان لا يمرّ اسبوع، دون أن أكتب قصيدة أو أثنتين.. ولكن لا عجب، فما يحدث يبعدني عن الحياة كلها، يخيّل إليّ أنّ قدوم الموت خير منقذ لي.. مشاكل كثيرة.. في كلّ جانب من حياتي، تتطاول مشكلة وتكبر.. هل الموت هو الخلاص، يبدو لي ذلك، وبخاصة حين أرى أهلي الذين ترشحهم آمالي لمساعدتي، يشكلون عصابة على زوجتي، وحين تشكو أصبّرها وأواسيها:
– اصبري ياهيفاء.. تعرفين أنني لا أستطيع أن أتحداهم.
– ولكن إلى متى؟.. بعد أن أجن!؟.
– وماذا تريدينني أن أفعل، هل تريدين أن نطرد من الببت، وتعرفين أنّ لا مال لديّ؟!.
– ومتى سيصبح عندك مالاً؟.. وأحوالك تزداد سوءاً؟.
أبتلع غصتي بصمتٍ:
– لا ذنب لي ياهيفاء، حظّي سيء، ألا ترين أنّ الفشل يتربّص لي وراء كلّ مشروع.
– أنتَ طوال عمرك ستبقى فاشلاً.. لأنّكَ لا تسمع كلامي.
– اسكتي يا هيفاء.. اسكتي.. كيف أسمع كلامك؟!.. أترين أن أبقى أجيراً عند الناس؟.
– على الأقل أفضل، من كلّ مشاريعك ومخطّطاتك.
وهنا أكاد أفقد صوابي.. وأصرخ:
– مابها مشاريعي؟!.. إنها ليست فاشلة، اسألي أيّ غبيّ في العالم، هل يفضّل أن يبقى أجيراً، أم يفتح دكاناً على حسابه؟.. ليس ذنبي أنا إذا الدكان لم تنطلق
.. حولتها من عملٍ إلى آخر، صرت “مسبّع كارات”، تصليح غازات، بيع أدوات كهربائية، دهانات استدنت من التجار، دينت الزبائن.. وصرت أعوي وراءهم، ولا أحد يدفع لي.. والتجار يطالبونني بمالهم.
حتى بيع الخضار لم أنسه.. وماذا كانت النتيجة؟.. خسارة كبيرة خلال أسبوع واحد.
ويستمر الحديث، وغصّة ملء الحياة تُنشب أظفارها في حنجرتي، ومرارة تكبر في حلقي. حينها تنسحب هيفاء من الحديث.. فأشعل سيجارة وأطلب كأس شاي.
فجأة تعود هيفاء للكلام.. وكأنها سكتت لتستريح:
– هنا شطارتك فقط.. شاي ودخان وقراءة كتب.
أشتم الشاي والكتب:
– أنتِ تعرفين من قبل الزواج حبّي للشاي، وتعرفين أنّي شاعر، وهل هناك شاعر لا يقرأ ؟!، يكفي أنّ قراءاتي تكاد تنعدم، ويكفي أنني منذ أكثر من شهرين لم أكتب أية قصيدة.
– حمّلني السبب أيضاً.
– نعم أنت السبب.. عشرة أشهر ونحن متزوجان، ماذا كتبت؟؟!!..ثلاث قصائد؟.. كنت أكتب أكثر من خمس قصائد في الشهر الواحد.
وهنا يلذ لهيفاء أن تعيد أسطوانة السخرية:
– وماذا استفدنا من شعرك؟؟.. أعرض كلّ قصائدك للبيع.. لن يدفعوا لك قرشاً واحداً.
وأعود لأصرخ:
– هيفاء.. لم أعد أحتمل، إذهبي وأحضري إبريق الشاي.
تذهب هيفاء، وأبقى وحدي، في غرفتي اليتيمة،المفروشة بسرير وأريكة
وخزانة وماكينة خياطة لهيفاء..
ومسجلة صغيرة. وأسأل نفسي:
– هل أخطأت في زواجي من هيفاء ياترى؟. أكانت “ناديا” أفضل؟.
وأتذكر “ناديا”، أمدّ يدي للدرج، أستخرج جريدة، فيها قصيدة لها، مع صورتها.. أتأملها ملياً، وأقرأ القصيدة بتلذذ. وأغوص في الذكريات:
– نادي.. أحبّكِ، كتبتُ عنكِ أكثر من مائة قصيدة، لقد خلّدتكِ، أصبحتِ ” ماتيلدا” أو “إلزا”.
وتبقى’ناديا” صامتة.
– ناديا.. أحبّكِ.. أرجوكِ تكلمي.
ترفع رأسها، أبصر في عينيها قرارها النهائي:
– شادي.. أنتَ تعلم أنّي مهندسة، وأنتَ عامل، وأهلي..
فأضع يدي على فمها، أرجوكِ فهمت..
نفترق، وجرحٌ بمسافة الأرض يفترشني
– ستندمين يا ناديا.. لن يكتب عنكِ سواي.
وأحتسي الشاي وأنا أفكر:
– هل أحبّ هيفاء حقاً؟.
نعم.. ويجب عليّ أن أحبّها.. لقد رفضت الكثيرين من أجلي، منذ طفولتها وهي تحبني، وظلّت تنتظر حتّى طلبتها.. هيفاء جميلة، أجمل من نادية… وأكثر طولاً، لكن لو كانت تكتب الشعر، أو تحبه على أقل تقدير.
وتنام هيفاء.. أعرف أنها تضيق بنورالمصباح..ولكنّ رغبة شديدة في الكتابة تتملّكني.. هل سأفلح؟.. بتّ أخجل من
أصدقائي، كلّما سألوني:
– هل من جديد؟!.
لكن مشكلة من نوع آخر، تنبثق من داخلي، صرت أخاف الكتابة.. إنّي حزين ولو كتبت قصيدة، فسيأتي ناقد ويقول:
– لماذا هذا الحزن والتشاؤم؟!.. أكتب عن الفرح، والأمل، والوطن.
ولكن أين الفرح؟.. لا أستطيع أن أكتب إلّا عن تجربتي.. وسيأتي آخر يقول:
– هذه قصيدة غنائية، فلماذا لا تتحوّل إلى الكتابة الواقعية؟!.
ما أكثر توجيهات النقاد واقتراحاتهم؟..
هذا يطالب بالواقعية.. وهذا بالغنائيّة.. وهذا بالبنيويّة.. وآخر بالسّرْياليّة، وهذا يريد البساطة، والثاني يريد التّصوير، وسواه يطالب بالتّرميز، ولا يخلو الأمر ممن يطالب باستخدام الأسطورة، هذا يقول:
– لماذا تهجر شعر التفعيلة؟!.
كلّهم متناقضون.. والكلّ يطالب ويتّهم.
– أكتب قصيدة طويلة.. فهي تساعدك على سبر أغوارك، القصيرة سهلة.
– أكتب بحساسيّة الثمانينات
– تحدّث عن الجزئيات.
– لا.. بل عن الكلّيات.
– ضع الجمهور في حسبانك.
– ارتفع عن الجمهور.
– لا.. تتخلّ عن القافية.
– لا.. تقع في المباشرة.
– أكتب مثلي تكن شاعراً.
– لا تخالفني تنل النجاح.
كيف لي أن أكتب؟.. وكلّ هذه الأمور
تدور في رأسي؟!.
هيفاء.. تتقلّب على السّرير، ترفع رأسها بعض الشيء.. تفتح عينيها قليلاً
.. وتسأل:
– هل انتهيت من الكتابة؟
– لم أكتب بعد.
– شادي.. أرجوك أن تطفئ النور.. ألن تذهب إلى الدكان باكراً؟.
– حسناً لن أكتب بعد اليوم.
ينطفئ المصباح، تنطفئ رغبتي في الكتابة.. ونشتعل أنا وهيفاء.. وتلوح لي ناديا.. فأذهب.. وأذهب بعيداً..ولا أصل.
Related Posts
Leave a Reply

Your email address will not be published.Required fields are marked *

Instagram
Telegram
WhatsApp