النقد التفكيكي يؤكد على أن النص الأدبي يمتلك عددا لا نهائيا من المعاني و التفسيرات، عددا لا نهائيا من المعاني قد لا يصل إليها كاتب النص نفسه.
إن إجراءات النقد التفكيكي للنص الأدبي تعتمد على:
١ – البحث عن التناقضات في النص الأدبي، حيث وجود أي تناقض في النص سيكون بمثابة معول لهدم معناه لبناء معنى جديد .
٢ – عملية الهدم و البناء و التي تتم من خلال:
أ – رفع المهمش لمرتبة المركزية ، أي إلقاء الضوء على مناطق مظلمة مهمشة داخل النص الأدبي و رفعها لمرتبة المركزية، أي جعلها مركز لبناء معنى جديد و تفسير جديد للنص .
ب – البحث عن المسكوت عنه داخل النص.
الكاتب موريس ماترلينك كتب نص ( العميان ) سنة 1890 م ، وأول شيء يلفت النظر عند قراءة هذا النص هو اللغة ، حيث اللغة المستخدمة لغة غير عادية ، هي ليست اللغة المعتادة المستخدمة عادة في كتابة الكثير من النصوص الأدبية، بل هي لغة شاعرية مملوءة بالصور و الخيالات ، إلى جانب بعض الرموز و الغموض ، وهي سمة مهمة من سمات النص الرمزي .
النص يتحدث عن مجموعة من العميان داخل ملجأ ، يقومون بمصاحبة الكاهن العجوز برحلة لرؤية الشمس قبل حلول فصل الشتاء.
شخصيات النص هي : الكاهن العجوز و اثنا عشر من العميان ، ستة رجال و ستة نساء ، وكانت ثلاثة نساء يمكن بالصلاة طول الوقت، و الثلاثة الباقية عمياء عجوز ، و عمياء شابة فائقة الجمال ، و امرأة عمياء تحمل طفلا رضيعا .
وعند مسيرتهم داخل الغابة وفجاءة يختفي الكاهن العجوز، و يعيش العميان حالة من القلق و الحيرة و التخبط ، عميان تائهين بلا دليل ، حيث يلجأ العميان إلى الحوار لكي يعبروا عن مأساتهم في عالم غريب كئيب ، وفجأة يدخل كلب إلى الملجأ و يقودهم إلى جثة الكاهن الذي فارق الحياة ، و كان راقدا على مسافة قريبة منهم ، حيث يمتلكهم الخوف عندما يفقدوا الأمل في الخلاص و تنتهي أحداث النص بصرخة من الطفل الرضيع .
- صابر مرزوق يكتبــــ: الوقت المناسب والمكان المناسب.
- إلهام حسنين رضوان تكتبـــ: بين أنين واشتياق (قصة قصيرة)
البنية المكانية للنص : وصفها الكاتب في إرشاداته المسرحية ، حيث غابة قديمة جدا ذات مظهر دهري ، حيث توجد بعض أشجار الصفصاف الحزينة ، و أشجار جنائزية ( حسب تعبير الكاتب ) ، و زنبقيات طويلة هزيلة ، وهذا يوحي بتاريخ بشري مديد .
الكاتب لم يعطي للمكان أي معالم جغرافية أو تاريخية محددة ، لكي يكتسب المكان شمولية تسع أي مكان على سطح الأرض.
و كذلك الزمان غير محدد ، أي أن أحداث النص تحدث في أي عصر و أي زمان .
استخدم الكاتب صفات للغابة تخرج بها عن مجالها الطبيعي ، و تجعلها من خلال غموضها و ظلالها كأنها شبيهة بالواقع المرير الذي تعيشه شخصيات النص .
المكان المفتوح في العموم هو رمز إلى عدم الطمأنينة ، المؤثرات الصوتية و البصرية التي استخدمها الكاتب في إرشاداته هي أيضا تعكس جو الغموض و الخوف المسيطر على المكان ، و الإيحاء بالخطر الخارجي المحيط بالعميان ، حيث نجد أوصاف المكان بأنه حالك الظلام ، كما أن هناك أصوات طيور ليلية تصيح فجأة ، وأن الغابة تهتز لصوت سقوط المطر ، سقوط الأوراق يشكل كتلا معتمة ، الزوابع تعصف بالأوراق الجافة ، سماع وقع أقدام و غيرها .
بعد قراءة النص نكتشف أن هناك تناقضا واضحا في أحداث النص ، وهو أول إجراءات النقد التفكيكي، البحث عن التناقض سيكون معولا لهدم معنى النص، و بناء-معنى جديد ، التناقض هنا يكمن بين الحالة البايلوجية لمجموعة العميان ، وهي كونهم فاقدي حاسة البصر ، و بين رغبة الكاهن العجوز الملحة في انهم يشاهدوا ضوء الشمس قبل حلول فصل الشتاء، هنا ممكن يكون العمى ليس ماديا أو حقيقيا ، ممكن الشخصيات تخرج عن طبيعتها ، و تتجاوز المعنى الحرفي للعمى ، ممكن تفكيك بنية الشخصيات، أو بنية الحدث ، أو بنية اللغة ، و يتم تركيبها في معان و تفسيرات جديدة .
النص بهذا الشكل ممكن تفسيره لأكثر من معنى ، من خلال القراءة التحليلية للنص ، ممكن الكشف عن حضور الدلالة السياسية لغياب و موت الكاهن، الذي كان دليل العميان، كرمز لغياب القائد السياسي الذي يقود الأمة و يحررها ، و نتيجة لغياب هذا القائد تغرق الشعوب في ظلمات الاحتلال ، في إنتظار ابدي للمخلص .
و يوجد تفسير آخر للنص يقوم على أساس ديني ، حيث أن عدد شخصيات النص أثنا عشر شخصية ، و الذي ممكن أن يوحي إلى الحواريين الاثني عشر الذين اختارهم السيد المسيح عليه السلام و الذي يمثله في النص الكاهن العجوز، حيث أوصاف جسد الكاهن العجوز بعد موته توحي إلى جسد السيد المسيح بعد صلبه، حيث نلاحظ تكرار كلمات مثل الكنيسة ، و الرهبنة ، و الابرشية على طول النص .
الاثنا عشر حواري عندما فقدوا السيد المسيح، وجدوا صعوبة كبيرة في التعامل مع عالم لا يشبههم، و ممكن ان تمتد هذه الدلالة لتشمل الدين كله في عمومه .
شخصيات العميان الاثني عشر هم رمز البشرية باجمعها، رجالا و نساء ، فمنهم من يمثل الجانب المتفائل، و منهم من يمثل الجانب المتشائم ، و منهم من يمثل الخطيئة ، ومنهم من يمثل الجانب المتدين ، أما الكاهن العجوز، هنا هو الدين في مطلقه ، هو الدين الذي عندما غابت أصوله عن البشرية ، غرقت في ظلام الضلال.
و يمكن أن يكون النص يرمز إلى فكرة الوجود الإنساني الذي فقد الامان لموت الأمل في الخلاص ، دلالة هيئة الكاهن بعد موته ، التي احالت إلى منظر صلب السيد المسيح عليه السلام، هو المسكوت عنه في النص ، كما أن دلالة الاثنا عشر مسكوت عنه أيضا، وبذلك أحيل النص إلى معنى جديد.
نص ( العميان ) لن يقف عند حدود هذه المعاني و التفسيرات، لأنه من خلال القراءات المتعددة للنص، يمكن الوصول إلى معان و تفسيرات لانهائية.
(*) المصدر: محاضرة د. إبراهيم حجاج- بتاريخ 11 ديسمبر – عام 2020.
عبد الكريم حمزة عباس.