You Create, We Appreciate

سمية الإسماعيل تكتبـــ: قراءة لقصة (قطيع) لفريال قاصم.

سمية الإسماعيل تكتبـــ: قراءة لقصة (قطيع) لفريال قاصم.
الكاتبة سمية الإسماعيل
الكاتبة سمية الإسماعيل

قطيع

عالق في عنق زجاجة، ناولهم رأسه ليسهل عليه الخروج، رفضوا إعادته إليه، ذهب للسلطان ليشتكي أمره، أخبره أنهم أوصلوا هديته بأمانه، عاد مزهوا بوسام ورقم فوق عنقنه.
فريال قاصم /سوريا

القراءة:

القطيع عتبة النص تسترعي أشد الانتباه، فكل إنسان تحت سلطة لا تعرف إلا مصالحها هو فرد من هذا القطيع.. .
قبل أن يتحدث الفلاسفة عن غريزة القطيع ،سلباً أو إيجاباً ،فإن الشاعر الجاهلي “دريد بن الصُمّة “شعر بها ورسّخها قيمةً من قيم البقاء لديه فقال :
وما أنا إلاّ من غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ
غَوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غَزِيَّةُ أرشُدِ .
لم يفكر الشاعر في الأمر كثيراً فهي «غريزة» والغرائز تسبق التفكير وتجتاحه أحياناً، والغرائز تؤكد أنها أكثر فاعلية من الناحية العملية على مستوى البقاء والوجود والحماية .
حين بحثت في المعجم الفلسفي عن غريزة القطيع وجدت ما يلي « نزعة في الحيوانات الاجتماعية، ومنها الإنسان، تجعلها تنزع إلى العيش معا وتستجيب بطريقة واحدة لمؤثر معين، أو تجعلها تحذو، على نحو أعمى ومن غير إعمال للفكر، حذو فرد بعينه، في موقف من المواقف. وهي تدفع الفرد إلى التعاون مع غيره من أبناء مجتمعه».
لفتني جداً مدى تطابق التعريف مع الواقع الذي أوردته الكتابة برمزية الحدث و شخوصه، فالاستجابات في المجتمع القطيعي تكون متشابهة و قد تكون عنيفة وبعيدة كل البعد عن التفكير ، يكفي أن يخطب خطيبٌ محرضاً ضد خروج عن المألوف، حتى ترتفع الأصوات و الهتافات بالتأييد وا لشجب . و«الذئب إنما يأكل الشاة القاصية».
وفي سياسة القطيع التي تمارسها حكومات الحكم الشمولي الاستبدادي؛ و التي تركز فيها على ” فكرة الخوف ” من التغيير، من ربما قطيع آخر، و تستخدم لأجله كل وسائل التحريض المتاحة، كوسيلة حفظٍ للمجتمع ، لكنهم ينسون أن الغريزة التي تذهب بالفراشة إلى الأزهار الملونة ،هي نفسها التي ترسلها إلى حتفها في لهيب الشمعة الملون أيضاً .
يبقى المستضعفون هم العالقون في عنق الزجاجة، في محاولة للخروج من واقعهم المأساوي بعد أن ازدحم بهم القاع، ما هم إلّا قرابين كل مرحلة، يتأملون انفراجًا يخرجهم من حالة الانتظار العقيم هذه، و كل محاولة من أحدهم يكون ثمنها غاليًا.
و دائمًا يتعقد المشهد السياسي، و تدخل البلاد في متاهات الحسابات الضيقة و الأسباب كثيرة و معقدة وتحتمل عدة قراءات و تفسيرات، وحده التاريخ كفيل بكشف حقائق حقبة تاريخية كهذه. و لكل زمن سلاطينه و لكل سلطان رجالاته من المتنفعين، حتى و إن كان الثمن المواطن ، لا ضير .
ها هو إنسان نيتشه الخارق، يحاول أن يخرج من عنق الزجاجة و أول ما فكر باخراجه ، رأسه. “رأس مفكر”، قادر على استنباط حلول الأزمات، لكنه يتعارض و السياسة العامة، – لربما حركة أرادت بها الكاتبة، أن أول وسيلة للخلاص هو التخلي عن ” أفكارك” التي تضعك موضع العالق في عنق الزجاجة . رأسٌ يصلح هدية للسلطان، نأخذ عصارة ما فيه، فكل أزمة يأتي حلّها بالتفكير الذي عماده الدماغ.. و لكن في نفس الوقت، نتهمه بتجاوز المرسوم الذي تضعه السلطة و أتباعها كحدود لحريات السلوك و التفكير حتى.
أما و قد تجاوز هذا المواطن المتمرد الحدود، فجزاؤه الموت، و قد ابرم الأمر منذ لحظة تناول التابعين المتنفعين من السلطان للرأس ، بما فيه من فكر و معتقدات، و عدم إرجاعهم له.
السلطان أو رمز السلطة، الآمر الناهي، أو لنقل إنه يمثل القيم والمعايير، والمعتقدات العادات والتقاليد، الأعراف، أو ربما الثقافة العامة بشقيها المادي وغير المادي وأعني بغير المادي الأخلاق والقانون والآداب، و من ثم التابعين له من رجالات الوفاء و الانحناء و التقديس ، حرس السلطان و ملكه و بالتالي قطيعه، يجاهدون للإمساك بهذا المتمرد وإعادته إلى القطيع بيت الطاعة و الولاء، أي إلى حظيرة القطيع و الانصياع أو اتباع منظومة القيم المتعارف عليها، و إن لم يكن، فالرأس عربون الوفاء.
هناك شيئ ملفت للنظر في هذه الصورة، أترونه؟ إنه الشخص المنسلخ أو المنسحب أو فلنقل المندفع بقوّة إلى الخارج، خارج القطيع بالتأكيد. هذا هو التفصيل الذي يجتذب العين أكثر من سواه في اللوحة التي رسمتها القاصة بالكلمات.
لنعد إلى المتمرد، الواقع أن فعله ليس فقط فعل خروج بمعناه الظاهر ولا حتى شروداً عن القطيع، ولكن حركته حركة، انفكاك او انشقاق، انسلاخ وتشتت.. انطلاق وتشظي في عنفها وقسوتها وطريقتها. يشقّ طريقه منطلقا بكلّ قوّة للخلاص، والفكاك والانعتاق من الأسر الذي ضاق به. ربما للانسلاخ من منظومة القيم و المعايير الاجتماعية، للهروب من قبضة المجتمع، هذا الانشقاق يعبر عن اليأس، و الإحباط الذي يعانيه هذا المتمرد، أو فلنسميه هذا (المنسلخ) داخل القطيع.
القطيع المتمثل بالجماهير عامة، مع أن الكاتبة لم تشر إليهم صراحة بل رمزت إليهم بكلمة( القطيع) و برجالات السلطان،و هذا كافٍ لتخيّل المشهد، ربّما أرادت القاصة أن تعبر به عن سيادة السلطة التقليدية، وعلو كعب القيادة الكاريزمية وطغيان القطيع. لنقل المجتمع وجبروته وقدرته على البطش بكلّ من يحاول الخروج عليه وعلى منظومة الأعراف، والقيم، والمعايير السائدة، أو ربما قصدت الكاتبه به قدرة منظومة الضبط الاجتماعي غير الرسمية على فرض قوانينها الخاصة وتأثيرها في صناعة القرارات.

و قد قرأت و تبنيت ما قرأت فقد وقع هنا موقع المفسر للحدث..في “سيكولوجيا القطيع”، أو قدرة الجماهير على التكيّف مع أحكام خاطئة.

الكاتبة فريال قاصم
الكاتبة فريال قاصم
برهن على ذلك اختبارا ميلغرام وآش السيكولوجيان. إذ الأول جعل متطوعين متنوعين يقومون بتعذيب شخص يراد منه أن يتعلم مفردات لغوية. يطلب من المتطوع أن يطلق شحنات كهربائية تتزايد باطراد (إلى أن تبلغ قوتها 450 فولت المميتة) في كل مرة يخطئ فيها المتعلم، بناء على أوامر من أحدهم. والهدف من الدراسة قياس استعداد المشاركين في إطاعة سلطة تأمر بتنفيذ ما يتناقض مع ضمائرهم.
أظهرت التجربة أن الرغبة في التكيّف تتعارض مع الرغبة في التغيير.
لماذا تتم الأمور بهذه الطريقة؟ ما الذي يفسر الانصياع للسلطة؟
إنها التنشئة الاجتماعية التي تدربنا على الطاعة؛ كما النقص في التعاطف مع الآخرين وعدم القدرة على إحلال أنفسنا مكانهم. ولأن المرجعية تمتلك سلطة تعتبر شرعية وذات مكانة: كمرجع ديني، مرجع حكومي، منصب أكاديمي… أو أي سلطة رمزية.
فالخارج عن القطيع في القصة، حقيقة هو واحد ممّن قضوا معظم حياتهم، وهم يظنون ويعتقدون بأنهم يدافعون عن أفكارهم ومعتقداتهم وقناعاتهم ورؤاهم الخاصّة، لكنهم، غالبًا، يدفعون حياتهم ثمنًا.

التقنيات:

اعتمدت الكاتبة أسلوب التكثيف و الرمزية غير المفرطة، و المباشرة في استعراض الحدث و هي من مقومات نجاح الققج.
كان للقصة على صغر حجمها بداية و متن و نهاية، بدا كمشهد سينمائي متكامل الأركان.
اعتمدت الكاتبة الأفعل التي تظهر التباين بين قوتين، أرادت بذلك القول: لقد بدت المعادلة غير متكافئة، فهو فرد يمثل العامة و قد أشارت له القاصة ب ” عالقٌ، ناولهم ، ليسهل عليه، اعادته إليه، ذهب .. يشتكي، عاد مزهوًا..”
أفعال و تراكيب تتحدث عن فردٍ من رعية تعيش ذات المأساة،
الطرف الآخر من المعادلة، “هم ، أو من ارتبطت بهم واو الجماعة من رجالات السلطات، تبدت ب ” ناول”هم”-رفضوا- أوصلوا”
ففرد مقابل مجموعة، معادلة غير متكافئة القوى، و زاد على رجاحة الكفة الأخرى حكم السلطان و أمره،.
و ككل من يحاول التفكير خارج حدود الصندوق الذي وضعوا أدمغتهم فيه ، سيصبح قربانًا ، يُذبَح و من ثم يُشرَّف بوسام، ذارفين عليه دموع التماسيح ، و شاكرين تضحيته،رغمًا عنه، بتشريفه بلقب “شهيد” و ذلك بكل خبث سياستهم، حتى أنه يفقد أقل ما يرمز له ، ” اسمه” ليصبح مجرد ” رقم ” في عداد أولئك القرابين.
الزمان و المكان :
لم تشر الكاتبة إلى زمان محدد، و لا مكان محدد، فالمكان هو الفضاء الواسع الذي نعيش فيه و اختصرته الكاتبة في هذا المشهد الذي ليس له أي دلالة جفرافية محددة. و لو أن البعض قد يرى في كلمة” السلطان” دلالة على زمن ولى، لكنني أرى أن هذه الكلمة هي دلالة على كل الأزمنة، ففي كل زمان سلطان، و في كل زمان قطيع و في كل زمان حركات تحرر و نهايات مرسومة سلفًا ، مع الشكر .

الشخصيات:

بطل القصة: صاحب الرأس أيقونة التغيير.. الضحية الأولى
رجالات السلطان: المنسلخين عن مصلحة الجماعة في سبيل مصالحهم الخاصة، ولائهم للأقوى.
السلطان: القوة العليا
القطيع: عامة الشعب

النهاية

النهاية كانت مدهشة قوية أضفت على القصة عنصرًا جديدًا من مقومات النجاح و تحاكي واقع الحال.
شكرًا لقصتك الجميلة أستاذة فريال يزن
Related Posts
Leave a Reply

Your email address will not be published.Required fields are marked *

Instagram
Telegram
WhatsApp