You Create, We Appreciate

السيوف السلطانية : ننشر الفصل الرابع من رواية الكاتب الكبير“محمد العون”

السيوف السلطانية : ننشر الفصل الرابع من رواية الكاتب الكبير“محمد العون”
رواية السيوف السلطانية
( 4 )
الروائي محمد العون
الروائي محمد العون

وصل أيوب إلى الدكان والأفكار تتزاحم في عقله ، انشغل فى العمل وانهمك مع زملائه فى تلبية طلبات المشترين والمشتريات ، النساء هن الأكثر ترددا على الدكان ، يتزاحمن على بضاعته الرائجة طوال النهار ، لكن ذلك لم يحل بينه وبين الفكرة التى تشغل باله منذ أيام.

حان الوقت لكي يبدأ مسارا جديدا فى حياته ، ما حصله من خبرة فى تجارة العطارة ومعرفته بأصنافها التي تكاد لا تعد ولا تحصى تكفيه ليصبح تاجرا وصاحب دكان ، يعرف من أين يأتي كل صنف من الأصناف التي يبيعها ، معظم البهارات وأنواع العطور وأصناف العطارة بأعشابها وبذورها وأوراقها وثمارها وحبوبها تأتي من خارج مصر ، بما فيها الصحيح والمطحون والمجروش والصلب والسائل ، تجلبها القوافل والسفن من بلاد الهند والصين وأفريقيا وغيرها من البلدان إلى القاهرة ، تصب تجارة العالم وتتجمع في مصر وتمر عبرها بين بلاد الشرق والغرب وبلاد الجنوب والشمال.
يريد أن يسعى ليمتلك دكانا ومخزنا يسع الكثير من البضاعة ، لن يقضي عمره عاملا فى دكان يبيع للناس بالدرهم والفلس ، كما فعل والده الذى عمل طوال حياته بائعا فى محال العطارة ، مازال ينتظر الوقت الملائم لاستخراج المال الذي خبئه منذ سنوات ، قضاها منتظرا متحينا الفرصة ! لعلها تأتي قريبا ، استعان بهذا المال على مدى سنوات ، يأخذ لنفسه عدة قطع نقد بين الحين والآخر يدبر بها أموره ، لديه في الصندوق المدفون تحت أرض غرفته ما يكفي لشراء دكان ومخزن وجلب ما يرغب فيه من بضائع ! لكنه لا يستطيع حتى هذه اللحظة أن يتصرف في هذا المال ولا أن يجاهر بامتلاكه !
في طفولته حرص أبوه على تعليمه ما أن بلغ السابعة ، أخذه إلى الكُتاب ، ليحفظ أجزاء من القرآن ويدرس علوم الدين ويتعلم القراءة والكتابة والحساب ، الابن الصبي الوحيد الذي بقى له بعد موت عدة أشقاء له وهم صغار ، عاش هو وأختان شقيقتان تكبرانه فى العمر ببضعة سنوات ، أيوب بطبيعته المنطلقة يحب اللعب والجرى مع الصبيان فى الحارات طوال النهار، لا يهدأ ولا يستجيب لنداء أمه عندما تدعوه للدار إلا بصعوبة وبعد أن تكرر عليه النداء عدة مرات ، عندما بدأ التعلم في الكُتاب حاول التملص واشتكى لأمه بعد يومين ، من طول المشوار ومشقة الطريق وصعوبة الدروس ، في المساء عندما عاد أبوه من عمله ، وأخبرته الأم وهى تضحك بما قاله أيوب ، أمسكه الأب من أذنه وقال له محذرا :
– إذا لم تتعلم وتقرأ الكتب وتعرف كيف تدون حسابات البيع والشراء ، فلن تصير عطارا يحترمك الناس حين تكتب لهم وصفة علاج أو تصنع لأحدهم تركيبة دواء تشفيه من مرض أصابه ، لو ظللت تلعب طوال النهار وتجري هنا وهناك سينتهي بك الحال إلى أن تصبح خادما فى الدكاكين ، تنظف الأرفف وتغسل الأرض وتحمل أبريق الماء لتغسل يدا صاحب الدكان بعد أن ينتهي من طعامه وقدميه حين يتوضأ ، أو تعمل في مطحنة الحبوب وزيوت العطارة وتظل طوال النهار تشتغل كالعبد وتدفع البغال التي تدور بعجلة الرحى ، أو حمالا تسعى في الأسواق تحمل سلع الناس على ظهرك مثل الحمار حتى تتحصل على درهم أو درهمين ، ولو ارتقى بك الحال تصبح مكاريا تمتلك حمارين أو ثلاثة تؤجرهم للناس بالفلس والفلسين.
برغم شقاوته فهم أيوب كلام أبيه ، وتصور المصير التعس الذي قد ينتهى إليه وحياة الشقاء التى تنتظره إذا أطاع شيطانه وأعرض عن التعلم ، لم يكن ينقصه الذكاء ولا الطموح أيضا ، فواظب على الكُتاب واجتهد فى التعلم والحفظ قدر استطاعته ، اكتشف خلال تلك الفترة قدرته الخاصة مع الأرقام والحساب وجمع الأعداد وطرحها وقسمتها وضربها ، كان يقدر على حل المسائل الصعبة بسهولة في عقله دون الحاجة إلى كتابتها كما يفعل أقرنه من الصبية ، أثارت نباهته فى الحساب إعجاب معلمه شيخ الكُتاب الذي نادرا ما يرضى على أحد من تلامذته ، وأثنى عليه عند أبيه.
تعرف على أحمد وجلال فى الأيام الأولى لدراستهما فى الكُتاب ونشأت بين الثلاثة صداقة ، جلال الذي منذ بداية تعلمه للكتابة ورسم الحروف ظهر تفوقه وحُسن خطه ، ولم يلبث أن أتقن أنواع الخطوط وبرع في معرفة الفروق التي تميز كل خط ، كان ينحني على قطع الورق بجسده النحيل وقامته الأقرب للقصر وينهمك في الكتابة بدقة وبسرعة ملفتة كأنه خُلق ناسخا ، أما أحمد فكان سريع الحفظ ذكيا له صوت جميل في ترتيل القرآن ، فاق جميع الصبية في فهم دروس التفسير والفقه والحديث واللغة العربية ، معتدل الجسد ربعة أقرب للطول ويأتي إلى الكُتاب مهندما أنيق الثياب ، فأبوه تاجر غلال ميسور الحال ولهم بيت من طابقين به حظيرة للدواب.
بعد شروق الشمس بساعة يتجمع الصبية عند باب المدرسة الحجازية في قلب حي الرميلة ، يدخلون إلى صحن الجامع الواسع الذي تتوسطه فسقية ماء من الرخام الأبيض ، ثم يتجهون إلى مبنى المدرسة الملاصق للجامع من الداخل ، ويجلسون في حلقة عند أحد الأركان حول معلمهم ، يقرأ آيات من القرآن ويرددون خلفه ، يتوقف ليصحح لهم ويعلمهم كيفيه نطق كل حرف بشكل سليم ، ثم يراجع معهم واحدا تلو الآخر ما سبق أن حفظوه ، يستريحون لبعض الوقت ويأكلون شيئا من الطعام ، ثم يتابعون بقية الدروس ، النحو والصرف وعلوم الدين واللغة العربية أو الحساب أو الخط والإملاء ، يظلون مع المعلم حتى يُرفع أذان الظهر ، ينهضون من جلستهم الطويلة ويسرعون إلى الميضاءة ، بعدها يتجهون إلى الصلاة ، يقفون معا فى الصف الأخير خلف المصلين.
Related Posts
Leave a Reply

Your email address will not be published.Required fields are marked *

Instagram
Telegram
WhatsApp