رواية السيوف السلطانية
( 3 )
في أحد الصباحات وفي زمن قريب قبل سنوات .. خرج الشيخ إسماعيل الوراق من بيته الواقع في الحي الذي تطل عليه القلعة مبكرا كعادته ، متجها إلى شارع المتاجر الكبير حيث تصطف الدكاكين على الجانبين ، كان السوق مغلقا لعدة أيام وجميع متاجر القاهرة مقفلة ، وحركة البيع والشراء معطلة ومعها مصالح الناس وأشغالهم ، اخترق عدة حارات مشيا على قدمية ليصل إلى الشارع وهو يحاذر أن يدوس على الروث الذي تتركه الدواب ، المشوار قريب لا يحتاج إلى ركوبة ، قابل في طريقه عددا من جيرانه أصحاب الدكاكين في الشارع ، بعضهم ممن سكنه بعيد يأتي راكبا ومعظمهم يأتون سيرا ، ألقى عليهم السلام وتلقى السلامات والدعوات الطيبة بالرزق والصحة والستر منهم جميعا حتى وصل إلى دكانه.
وجد مساعده جلال الدين الذي يعمل نساخا للكتب وفى الوقت نفسه يعاونه في البيع والشراء ، عند باب المتجر ينتظره مع الصبي الذي يعمل خادما في الدكان ، شرعا معا فى فتح الباب الخشبي لدكان بيع الورق الذى يمتلكه ، ورث المهنة عن أبيه ، قضى عمره فى تجارة الورق ، خطى إلى كرسيه وهو يسمى الله ويستعيذ من الشيطان الرجيم ومن شياطين الأنس ، تفقد بعينيه الأرفف العامرة بأصناف الورق ، ينتظر اليوم أو فى الغد حمل جملين من ورق البغدادي الأغلى ثمنا ، ورق ثخين مع ليونة ورقة حاشية وتناسب أجزاء وعادة تكتب فيه المصاحف الشريفة ، ونادرا ما يستعمله كتاب الإنشاء فى المكاتبات.
قبل أن تمر ساعة زمن ، دبت حركة المارة فى الشارع وأخذ الناس فى القدوم إلى الدكاكين وازدحمت الطرقات بالبغال والحمير والجمال التى تحمل البضائع ، وكما هو معتاد كل صباح يرسل أرباب دكاكين الأطعمة والحلوى والعطور وأصحاب المخابز والجزارين صبيانهم لشراء كميات من ورق “الفوي” ، الخشن غليظ القوام الذى يلفون فيه ما يبيعونه لزبائنهم.
قبل الظهيرة حضر أحد كتاب الإنشاء ، يعمل فى ديوان أمير من أمراء الألوف ، سلم على الشيخ إسماعيل واعتنقه بود لما بينهما من طول العشرة ، وطلب شراء أنواع مختلفة القطع من الورق.
– أريد مائة من قطع “المنصوري” ورق غير مصقول الوجهين ، وثمانين من قطع “المصلوح” مصقول الوجهين ، وخمسين من قطع الحموي.
– حاضر تحت أمرك ، سوف أجهز الكمية المطلوبة فى الحال.
أكمل الشيخ إسماعيل وهو يسحب الورق المطلوب من الأرفف والصناديق بمعاونة مساعدة الشاب.
– سوف تصلنى كمية وافرة من الورق البغدادى ، لو أراد سيدك الأمير أن يستعملها فى نسخ المصاحف لمسجده الذى بناه.
– سوف أذكر له ذلك ، لعله يتقرب إلى الله بالإنفاق على نسخ مصاحف جديدة يضعها فى مسجده ، لكن بعد أن أرى هذا الورق وأتفحصه لأتأكد من جودته.
– نعم .. كما تريد ، تستطيع أن تأتى فى الغد.
– لكنى على كل حال أريد كمية من الورق “الرومي” ورق أهل الغرب والفرنجة ..
– ليس عندى منه شىء الآن ، وأنت لم تشتره منذ زمن ! فلماذا تريده وهو ورق رديء ؟ سريع البلى قليل المكث كما تعلم.
– كان عندي كمية كبيرة منه ونفدت قبل أيام ، احتاجه أحيانا لبعض المراسلات الخاصة أو السرية ، أو فى تبليغ رسالة عاجلة لا تحتاج أن أستعمل ورقا غاليا.
ابتسم الشيخ إسماعيل ابتسامة استهجان ، وقال بصوت خافت لا يخلو من سخرية :
– هناك إذا ما يجري فى الخفاء بين الأمراء ، لعل تدابيرهم لا تعود علينا بالخراب ووقف الحال كما هى عادتهم !
– لا أحد يدري بما تخبئه الأيام ! والأحوال غير مطمئنة ، منذ موت السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون والفتن والحروب مشتعلة بين الأمراء ، لا تنطفئ إلا لتندلع من جديد ، أولاده لم يحافظوا على الملك من بعده ، انغمسوا في ملذاتهم وكانوا من شر الملوك ظلما وتعسفا !
– نعم ، كلهم ما عدا الصالح إسماعيل ، الذي هدأت الفتن فى أيامه وخضعت له الأمراء لتدينه وصلاح حاله ، ولولا ما يقال عن شغفه بالمغنية اتفاق العواده وانقطاعه لها طوال الليل هى والجواري السودان والحبشيات لكان أحسن الملوك ، لكن أيامه لم تطل ومات على فراشه مريضا بعد ثلاث سنوات.
– مازلت أذكر الصالح ، رأيته عدة مرات وهو فى موكبه ، عندما كان ينزل من القلعة ليذهب إلى سرحة سرياقوس ، وعند ذهابه للتنزه على النيل أو الهرم ، كان يبدو عليه الضعف والمرض برغم حداثة سنه ، حزنت عليه وتأسفت لحاله عند موته.
– يرحمه الله ، أهل مصر كلهم حزنوا عليه ، كلنا تمنينا لو أن أيامه طالت ..
سُمع أذان الظهر من المسجد فقام الرجلان ليتوضئا ويذهبا للصلاة ، وبقى جلال فى الدكان للحراسة واستقبال المشترين ، تعود منذ قدومه للعمل هنا أن يصلى فى ركن بجوار الخزانة الأخيرة بعدما يعود الشيخ من الجامع.
***
حضر أيوب الذي يعمل في دكان عطارة يقع على مقربة من جامع ومدرسة السيدة عائشة ، ليشترى طلبية من ورق الفوي ، يأتي كل فترة ليطلب كمية كبيرة تكفي الدكان لأسابيع ، صديق لجلال منذ الطفولة وهما في نفس العمر تقريبا ، شاب جسور جرىء وقوي القلب وإن كان لا يخلو من اندفاع وربما شىء من التهور أحيانا ، ذكى وسريع البديهة وحاذق فى صناعة العطارة التى ورثها عن أبيه وتعلم فنونها وأسرارها منذ صغره ، واستطاع خلال سنوات عمله أن يكتسب خبرة بكافة أصناف العطارة والبهارات وأنواعها ، وكذلك خواص الأعشاب واستخداماتها الكثيرة في صنع الأشربة المعالجة وفي تركيب الوصفات والمعاجين الطبية.
من مكانه القريب من القلعة حيث يعمل ويسكن بإمكانه أن يرصد حركات وسكنات الأمراء والمماليك ، يرى مواكبهم وفرسانهم وهم يسيرون جماعات ليصعدوا من باب المقطم الكبير أو وهم ينزلون بعد اجتماعهم بالسلطان نحو بيوتهم ، وكذلك القضاة والوزراء وكتاب الديوان السلطاني عندما يجيئون فى الصباح الباكر راكبين بغالهم بسروجها الفارهة ، وحين يغادرون قبيل العصر.
وبحكم مهنته يعرف عددا من الذين يعملون فى القلعة ، عمال المطبخ والإصطبلات وجبخانة السلاح والخدم الذين يحملون الطعام إلى السلطان والبابية الذين يغسلون ثيابه ويقومون على نظافه حمامه عندما يغتسل ، كل هؤلاء يأتون إليه ليشتروا البهارات وأصناف العطارة والأعشاب والوصفات المقوية ، وبعضهم يثرثر معه ويتكلم بما يجرى داخل جدران القصور المغلقة بالقلعة.
أخذ أيوب ما اشتراه واتجه مسرعا بقامته الطويلة وجسده القوي نحو الباب ، ليحمل لفافات الورق على حمار استأجره ، لم يكن لديه الوقت الكافى ليتحدث مع صديقه جلال كما هى عادته ، لكنهما اتفقا على اللقاء مساءً بعد إغلاق الدكاكين ، عند المدخل وهو يهم بالخروج تصادف وصول الشيخ إسماعيل وصاحبه الكاتب ، سلم عليهما وسأله الشيخ بطبيعة التاجر عما اشتراه ، وسأله مازحا ، إن كان جلال قد أكرمه فى السعر أم لا ؟
تبادل معهما حوارا سريعا تتخلله عبارات التحية ، ثم أخبره كاتب الأمير ، إنه سيمر عليه فى دكان العطارة ليشترى بعض اللوازم مما يحتاجه.
– على الرحب والسعة يا عمى ، سأكون فى انتظارك.
انصرف أيوب وظل الرجلان يتكلمان لبضعة دقائق والكاتب يلقي نظرة أخيرة على كميات الورق التى اشتراها ، وقد جهزها جلال مع الخادم فى عدة أربطة ملفوفة بخيط سميك ، ثم أكد قبل أن ينصرف أنه سيرسل أحد الخدم من قصر الأمير ومعه حمارين ليحملها.