الشعر الإبداعي الحقيقي هو تناسب فني جمالي بين الشكل الجمالي والرؤيا الجمالية،” فإذا كان الشعر مدعاة لانبثاق تفتح الروح نحو كل ما هو كشفي وسحري وغير محدد- كما يقال- فإن قيمته لا تسمو إلا بمقدار التوتر الذي ينتاب الشاعر، بتناسب طردي بينه وبين رؤاه، وفي تماسك يربط بين مكونات النص، وتجربة الضمير الجمعي، وبعلاقة تماثل من جهة الخصائص الدلالية بين جوهر الحياة وقلق السؤال(1).السؤال الذي نطرحه في بحثنا: ماهي المفاصل النصية المثيرة التي حققت القفزة الجمالية في قصائد ديوان (يأكل الليل النهار) لحمزة رستناوي على المستوى الإبداعي؟ وهل هذه المفاصل هي التي حققت الاغتراب الفني الجمالي في قصائده؟
وما ينبغي ملاحظته في قصائد هذا الديوان أنها غنية بالإشارات النصية، وأبرز الإشارات النصية ما يثيره العنوان ( يأكل الليلُ النهار) بوصفه أيقونية دلالية تدل على ارتداد الشاعر إلى الزمن الماضي، ليحكي واقع حياة وجودية حافلة بالمتغيرات، وإن القارئ هنا يلحظ من أيقونة العنوان أن قصائد هذا الديوان يمكن أن نسميها قصائد مرحلة أو قصائد دالة على مرحلة مهمة في حياة الشاعر؛ لأن هذه القصائد تبدو استرجاعية، أو إرجاعيه إلى لحظات اليأس، والانهزام، أمام واقع وجودي مليء بالمتغيرات والرؤى الوجودية الصادمة، فالفعل ( يأكل) يحمل في داخله الجوع والامتلاء، أي يدل على وحشية الواقع، ثم أسند الفعل ( يأكل) إلى الليل إسناداً مجازياً، ليعبر عن نظرته التشاؤمية القاتمة التي تعكس حالة من الاغتراب، والقسوة ،والظلامية، وهلامية الحياة، مقارنة بانبثاق النهار ،وتفجر النشاط ،والقوة، والتدفق، والنور، أي إن أيقونة العنوان أيقونة دالة بقوة على مرحلة تشكيل القصائد الاغترابية في زمن اليأس، والموت، وشبح الاغتراب الذي يلتهم كل شيء أخضر أو مشرق في الحياة، وهذا ما تعكسه عناوين قصائده التالية التي تشكل عناوين مرحلة اغترابيه تشاؤمية وجودياً في حياة الشاعر،{( نزاع الحياة)، و( فلك الموت)،و( مدينة الموتى)، و(سيعود الهوى كهلا)، و(طوبى للغجر)، و( عنكبوت الضباب)، و(ما دون خط الفقر)، و( خائفون)}،ولو دققنا في مداليل القصائد السابقة والكثير من قصائد الديوان لوجدنا أن الرؤية الاغترابية اليائسة تطغى على قصائد هذا الديوان حتى الفلسفية منها، كما في قصيدته(قصائد قصيرة- فلسفات) التي يقول فيها: ” ذيولُ الزمانِ العجوز/ تجرجرُ مسيرها/ والطفلُ الذي يحبو/ يتبعُ إرادة المشي/ هل الحياةُ قنبلةٌ هائلةٌ/ أم أن الانتحار الطويل/ يكلفنا غالياً (2).
إن القارئ هنا يلحظ طابعها الاغترابي الوجودي اليائس، وقتامة الرؤية وتساؤلاتها الوجودية المحمومة عن الإرادة في الحياة، وهذا ما جعل دال ( الانتحار) يكرس كل دلالات الانهزام والغربة أمام الواقع الوجودي القمعي أو المستلب، لاسيما عندما جعل الزمن كالعجوز يجر أذيال الخيبة والضحالة والهشاشة وهلامية الحياة الوجودية اليائسة التي يعيشها مسلوباً من كل شيء حتى أن مشيته في الحياة لا يعي مصيرها ونهايتها وحتميتها ،وقد جاء التساؤل في قفلة الختام كالصرخة الوجودية المدوية التي تتلاشى شيئاً فشيئاً في رماد من العجز والانهزام والاحتجاج الصامت :[ هل الحياة قنبلة هادئة أم أن الانتحار الطويل يكلفنا عالياً]؛وكأن دال العنوان( يأكل الليل النهار) تكرس دلالياً في هذا القول[ ذيول الزمان العجوز تجرجر مسيرها]؛ للدلالة على العجز والانهزام، وكأن دال الأكل، حمل في طياته كل مظاهر الوحشية واليأس والاستلام للدوال المشرقة في الحياة، ودال (الأكل) أكثر قيمة تعبيرية على سطوة الظلم والموت والتصحر واليباس على دوال الإشراق والنهار والفرح والأمل.
والملاحظ أن الواقع الاغترابي الوجودي اليائس يطغى على البنى الدالة في هذه القصائد، ليكون العنوان( يأكل الليل النهار) دالاً على قصائد مرحلة، وما أعنيه بقصائد مرحلة أن القماش اللغوي الرؤيوي النصي ينصب في أتون نصي واحد هو( اليأس والانهزام ) أمام سوداوية الحياة مقارنة بدوال الإشراق والنور، وهذا ما جعل الشاعر منقاداً لا شعورياً إلى عالم يفيض بالسوداوية والوحشية في رصد الكثير من الصور والمشاهد والرؤى الدالة، كما في قوله:
” تطلقون النارَ من برجِ المدينة/ على الفراشاتِ/ تخيطون الأكفان/ وتحفرون الأقبية/ وتولولون في الظلام/ تستعينون بالفتاوى/ وتَذبَحون و تُذبَحون/ كرمى عيون البنادق
/ تحررون رقبة/ وتستعبدون إنساناً / تزخرفون أبواب الزنازين/ وتجلدون أضرحة الحياة(3).
إن قارئ هذه الأسطر الشعرية يلحظ غلبة دوال الوحشية والقسوة والانتهاك( الأكفان- الأقبية-تذبحون- تجلدون) على دوال النور والجمال ( الفراشات- الحياة)، وكأن هذا الزخم من المفردات الدالة على الوحشية والانتهاك يمحو كل دلالات النور والإشراق، ويبدد جمالية الحياة، وهذا ما عبر عنه في القفلة الختامية:[ تزخرفون أبواب الزنازين/ وتجلدون أضرحة الحياة]؛ فالفعل ( تجلدون) يحمل كل دلالات الانتهاك والوحشية والقسوة، وهو ما يتناسب دلالياً ورؤيوياً مع دلالة العنوان( يأكلُ الليلُ النهار)، وهذا يؤكد أن أيقونة العنوان( يأكل الليلُ النهار)تبرز أن قصائد هذا الديوان قصائد مرحلة، وليست قصائد مراحل متغايرة لأنها تصب في أتون رؤيوي اغترابي وجودي يائس.
وما ينبغي التأكيد عليه أن التحولات الشعرية الجمالية التي ترتكز عليها قصائد حمزة رستناوي في ديوانه( يأكل الليلُ النهار) تتأسس على الرؤى والمثيرات التالية:
أولا- الاغتراب الفني أو الجمالي:
إن عمق الفكرة وفاعلية الحس الوجودي المغترب يطغى على ذات الشاعر في تشكيل قصائده، فلا تجد في خضم قصائده هذا الانفعال السطحي الساذج فنياً أو دلالياً؛ وإنما تجد هذا الترسيم الفني الجمالي في تحفيز العبارة الشعرية. ما ينبغي ملاحظته في قصائد ديوان( يأكل الليلُ النهار)غناها الرؤيوي الجمالي واغترابها الفني الشاعري في اقتناص التشكيلات الفنية المغتربة في إيقاعاتها الفنية الخلاقة للرؤى والمعاني الجديدة، كما في قوله:
” الصباحُ الضليلُ/ يبكي انتصاري الهزيلْ/ أسكبُ قربانَ نفسي/ ألا تدرين كم عذبتني الطيورْ/ وكم أكلتْ مني الحياةْ (4).
إن القارئ يلحظ فاعلية الصورة وقيمتها المغتربة في هذا النص الشعري الذي يفيض بانزياحاته الفنية ( ألا تدرين كم عذّبتني الطيور/ وكم أكلتْ منّيْ الحياة)، ولو تأمل القارئ الانزياحان في الإسنادات الجدلية السابقة:[ الصباح الضليل- انتصاري الهزيل] فهذه الإسنادات تحقق شعريتها وألقها الجمالي من حراكها الأسلوبي ومعناها الجمالي الذي يؤكد تفردها وتميزها إبداعياً.
ثانيا-التناص الشعري وقيمته الفنية:
أن التناص في قصائد الرستناوي يشكل قيمة جمالية علائقية في تخليق الرؤية الشعرية واستثارة النص من العمق، كما في قوله:
” أغوتك شرنقة الخوفِ/ وزوجناكَ أجملهنَّ/ فكانت ودوداً ولوداً/ تكاثر نسلك في هواها/ وقُدَّتْ حياتُكَ من قُبلٍ ومن دبرٍ/ ومن جنبٍ/ وجاءت على قميصك بأحمر الشفاه/ ثم علقت قميصك على حبل الغسيل/ ورفرفت رايةُ النصرِ بلا مئذنة (5)
هنا يقتنص الشاعر قصة النبي يوسف وزليخة ، وحالة الإغواء التي قامت به، والإشارات النصية التي أبرزها من هذه الإشارات هي ( قدّ قميصه من قبل- وأغوتك شرنقة الخوف)، ليتابع الشاعر المحاورة النصية ليخلق المتغير الجمالي الأسلوبي الذي يفعِّل الرؤية الشعرية، ويبرز ملمحها الجمالي.
إن اللغة الشعرية – في قصائد ديوان( يأكل الليل النهار)- تثير المتلقي من خلال الانزياح الفني الجمالي في تشكيل الجمل الشعرية، وتوليد الدلالات والمعاني الجديدة؛ فكل نص شعري يحقق تناغمه الجمالي وحراكه الأسلوبي البليغ ليسمو النص جمالياً بالرؤى والدلالات النصية المثيرة؛ لاسيما عندما يغرق الشاعر بالإشارات النصية والرموز الصوفية والرؤى الفلسفية الجدلية التي تجمع فاعلية الرؤيا مع بلاغة التشكيلات النصية ومساراتها الإبداعية في النص.
الحواشي:
(1) فيدوح، عبد القادر،2016-أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية في شعر أديب كمال الدين، منشورات ضفاف،ط1، بيروت،ص39.
(2) رستناوي، حمزة،2020 يأكل الليلً النهار دار موزاييك، تركيا، ص26.
(3) المصدر نفسه، ص80.
(4) المصدر نفسه، ص22.
(5) المصدر نفسه، ص29.