يوصف خطاب الرواية بأنه نوع من أنواع التخييل ، و التخييل في معنى من معانيه هو نوع من المخادعة و الإيهام .
و يوصف بعض النقاد أن الرواية هي قصة مضللة كتبت نثرا ، أي أن التخييل هو تمثل الأشياء دون أن تكون ماثلة امامنا في الواقع .
فالتخييل السردي عند السيمائيين : هو مجموعة من العلامات، هو إعادة تشكيل الواقع برؤى مغايرة ، فما كان مستحيلا حدوثه في الواقع – بإستثناء المعجزة – أصبح ممكن حدوثه على مستوى التخييل ، فالتخييل هو إستراتيجية إبداعية لجذب المتلقي نحو عوالم مختلفة ، ولكنها ممكنة التحقق.
الناقد العظيم ( عبد القاهر الجرجاني ) يقول : ( أن التخييل هو ما يثبت فيه الشاعر أمرا غير ثابت ، و يدعى دعوة لا طريق إلى تحصيلها ، و يقول قولا يخدع فيه نفسه ، و يريها مالا ترى ) .
و أولى الجرجاني اهتماما كبيرا بالتخييل، وهذا في كلامه عن التشبيه و الفرق بين المعاني العقلية و التخيلية ، ولكن هل التخييل حقا هو نوع من أنواع الخداع ؟
كثير من النقاد يرى أن التخييل لا يمكن وصفه بأنه خطاب زائف أو كاذب أو محرف ، ولكن من الممكن وصف التخييل بانه خطاب يلجأ للواقع ليفرغه من دلالاته المرجعية الحقيقية، و يحمله بدلالات متخيلة لكي يتم دعمه أو توضيحه أو تفسيره على نحو آخر أكثر جمالا و تشويقا و إثارة بشكل مغاير و مقصود من قبل الكاتب.
بمعنى آخر أن الكاتب يستخدم التخييل لكي يحول اللغة العادية إلى لغة مجازية ، و الكلام العادي إلى كلام مشفر يحمل دلالات يحقق عنصر الإستذهان عند المتلقي ، و يثير ذهنه ، و يشبع رغباته الوجدانية.
الفعل التواصلي في العمل الأدبي بين الكاتب و المتلقي يقوم على إشارات وهي على نوعين ، إشارات مباشرة و غير مباشرة.
مباشرة عن طريق إستخدام اللغة العادية ، أو عن طريق شفرات بإستخدام اللغة المجازية و هنا يأتي دور التخييل .
أنواع التخييل عند الناقد الفرنسي جيرار جينيت
جيرار جينيت يفرق بين خطابين ، الأول: خطاب قولي يخلو من التخييل ، والثاني: سردي يقوم على التخييل ، الأول يكون ذو طابع موضوعي تقريري ، وقد يحدث ردة فعل عند المتلقي، ولكن ردة الفعل هذه هي من ناحية مضمون الخطاب وليس من ناحية شكله .
مثال : السيرة الذاتية: قصص السيرة الذاتية تحمل الكثير من الأحداث الواقعية ، لها طابع موضوعي تقريري، حدث بنفس تفاصيله الواقعية ، هذا الحدث ممكن أن يلاقي ردة فعل قوية عند المتلقي، ولكن ردة الفعل القوية هذه ناتجة عن إهتمام المتلقي بمعرفة أدق التفاصيل من حياته و أسراره ، أي أن ردة الفعل القوية في الخطاب القولي ناتجة عن المضمون و ليس عن الشكل.
أما النوع الثاني من الخطاب فهو الخطاب السردي ، الذي يقوم على أساس تخييلي ، وهذا الخطاب لا يكتفي بسرد حدث واقعي ، ولكن يقدمه بصورة مغايرة ، بتقنيات سردية ، بلغة مجازية ، تخلق من الحدث مادة جديدة ، مادة شيقة و مثيرة .
يقول جيرار جينيت انه يوجد نوعان من التخييل:
١ – نوع يروي عالم إفتراضي ممكن أن يتداخل مع الواقع ، لكنه ليس الواقع بعينه ، على سبيل المثال: نص سردي يتحدث عن أحداث تاريخية حقيقية، لكن ممكن أن تتداخل معها أحداث تخيلية من إبتكار الكاتب، حتى و لو كان مرجعها الواقع ، ويكون للكاتب الحرية المطلقة في إختيار أماكن ثانية ، أو أسماء شخصيات ، أو ترتيب المادة الحكائية وفق مسار زمني لا يخضع للتعاقب المنطقي، أمور كثيرة ممكن أن تخلق التخييل في النص الأدبي.
٢ – نوع يروي عالم إفتراضي عجائبي، غير ممكن حدوثه ، مثل حكايات ألف ليلة وليلة، أو تحول شخصية ( غريغوري ) لحشرة كبيرة في رواية (المسخ ) لكافكا، أي من حيث المنطق يعتبر أمرا غير ممكن حدوثه ولا علاقة له بالواقع أو الحقيقة ، وهذا يثير موضوعا آخر عن التخييل ، وهو أن المتلقي بالنص السردي المكتوب لا يشاهد الأحداث الخيالية هذه أمامه، بل يتخيلها من خلال القراءة ، وهنا تأتي أهمية التخييل في تحقيق عنصر الإستذهان، أي إثارة ذهن المتلقي وخياله ، و يوجد نوع آخر من التخييل يسمى ( نص التخييل الذاتي ) ، وهو نص يجمع ما بين الرواية و السيرة الذاتية ، بين الواقع و الخيال ، و يعد مصطلح ( نص التخييل الذاتي ) من المصطلحات الجديدة التي إبتكرها الروائي و الباحث الفرنسي ( سيرج دبروفسكي ) serge Doubrovsky و ذكره في مقدمة روايته الموسومة ( خيوط ) عام ١٩٧٧.
اما الناقد الفرنسي ( فيليب لوجون ) ، فقد إستبعد في كتابه الموسوم ( ميثاق السير الذاتي ) عام ١٩٧٥ ، إنه في تاريخ الرواية كله ، إستبعد أن يكون هناك نص روائي واحد فقط قائم على ميثاق تخييلي صريح و يحمل فيه البطل اسم المؤلف و لقبه ، أي أنه في تاريخ الرواية كله لا توجد قصة أو رواية فيها البطل على نفس اسم المؤلف و لقبه ، والنص هنا يكون تخييلي ، الناقد الفرنسي دبروفسكي يقول انه ممكن وسمى هذا النوع( نص التخييل الذاتي ) ، و أثبت أنه من الممكن أن يتطابق الروائي و البطل في الاسم و يكون النص تخييلي يحمل سمات التخييل ، يعني ليس هناك شرط ان يتطابق اسم المؤلف مع بطل الرواية ، أي ممكن أن يكون النص مازجا بين السيرة الذاتية و الرواية ، بين الواقع و التخييل، الكاتب يكون بإسمه من شخصيات النص ، و لكن بأحداث تخيليلة قريبة من الواقع ، و من أحداث حياته ، ولكن بشكل تخيليلي، بحيث تشحن التجربة الذاتية بالتخييل .
مظاهر التخييل في الرواية
أن العوامل التي تحقق عنصر التخييل في الرواية هي :-
١ – تحوير الزمن : وهذا الذي تكلم عنه الناقد الروسي ( توما شيفسكي Toma chevski) وسماه بالمتن الحكائي : و هو الترتيب المنطقي الواقعي للأحداث، أي ترتيب الأحداث كما حدثت في الواقع مثلما حصلت ، وهناك أيضا ما يسمى المبنى الحكائي : وهو ترتيب الأحداث وفق البناء الدرامي الذي وصفه الكاتب ، والذي يكون غير مقيد بالترتيب المتسلسل المنطقي في الواقع ،على سبيل المثال: حكاية تتحدث عن( س ) تزوج من( ص ) ، و حدثت خيانة إنتهت بإلانفصال، وهذا تسلسل منطقي للاحداث يسمى المتن الحكائي ، أما المبنى الحكائي : فممكن الكاتب يبدأ القصة بحدوث الإنفصال ثم يعمل فلاش باك للأحداث اي إسترجاع، و ممكن الكاتب أن يبدأ بواقعة الخيانة ، وبعدها يعمل حركة ترددية بين الماضي و المستقبل ، كل هذا يعتبر أشكال من المبنى الحكائي.
أن تتداخل زمن السرد له دور كبير جدا في ظهور جماليات التخييل .
٢ – انسنة المكان : يعني تحويل المكان إلى إنسان يحس و يشعر ، أي أن الكاتب يصف الفضاء المكاني بحيث يكون (معادل تشكيلي) لخيال القارئ، للبعد النفسي للشخصيات و الأحداث، أي يعمل إسقاط نفسي على المكان ، مكان مغلق يعبر عن عزلة الشخصية و الوحدة و تقييد الحريات ، مكان مفتوح يرمز لتخبط الشخصية و تيهها و ضياعها الذي تحس به …….وهكذا .
جيرار جينيت أيضا ذكر علامات نصية كثيرة توجد بشكل منتظم داخل النص السردي يحدد من خلالها التخييل وهي :
١ – ورود إشارة على الغلاف الخارجي تدل على جنس العمل الأدبي، رواية أو قصة أو ما شابه .
٢ – وجود ألفاظ تحيل إلى ما هو غير حقيقي .
٣ – إستخدام الخطاب الغير مباشر ، الذي يحيل القارئ على مصطلحات أخرى مثل الإنزياح اللغوي عن التقليدي و المتعارف عليه .
٤ – الإحالات الرمزية لأسماء الشخصيات، إسم الشخصية يوحي لرمز إسطوري أو مجازي .
٥ – إسلوب الافتتاحيات: أول ما يفتح النص السردي ب ( يحكى أن، كان يا ما كان ، زعموا في الماضي أن، كان يعتقد أن، كل هذه إفتتاحيات تمثل علامات للتخييل داخل النص السردي .
ومن أهم المراجع التي بحثت في عنصر التخييل في الرواية أو في النص السردي عموما : كتاب ( الفضاء المتخيل ) و ( مقاربات في الرواية ) للكاتب الجزائري حسين خمري ، و كتاب ( بنية الشكل الروائي- الفضاء و الزمن و الشخصية ) للكاتب حسن بحراوي ، و كتاب ( مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص ) للكاتب الفرنسي رولان بارت، و كتاب ( فن الرواية ) للكاتب جابر عصفور .
(*) المصدر : محاضرة د. إبراهيم حجاج بتاريخ ١٨ يونيو عام ٢٠٢٣.
عبد الكريم حمزة عباس