طرقت الدراسات النسوية الحديثة أبوابًا عديدة، وأحدثت حفائرها في غياهب التاريخ القديم والحديث -معًا- بحثًا عن صور مشرقة لنساء أسهمن في صياغة التاريخ، وهى إسهامات ظلت محدودة نتيجة لممارسات التهميش والإبعاد التي مارستها ذكورية الثقافة على المرأة، ومن ثم كان أحد أهم أهداف الدراسات النسوية، ليس فقط إجلاء صورة المرأة بين ركامات التاريخ الأدبي، بل التأكيد على حيازة المرأة لموقع متميز فيه.
وإذا وضعنا في الاعتبار إيمان النسويات بقداسة مهمتهن في تصحيح صورة المرأة العربية عبر التاريخ حتى أصبحت (شهرزاد) أيقونة دالة عليه، فإن البحث عن البدايات كان شغفا عربيا، في مواجهة التبعية التي وصم بها الأدب الحديث؛ لكن الطموح النسوي جعل من الفضاء البحثي، ساحة تنافسية ليست أقل حدة من تنافسية الواقع. فالباحث (مصطفى الضبع) يشير إلى اختلافات مهمة بين الكاتبات والكتاب في تناولهم لصورة المرأة البدوية، ففي حين نراها عند الرجال مغذية لفكرة الفحولة أو الفروسية المثيرة لشهوة النساء، نراها عند النساء تعبيرًا عن أزمة وجودية، وتأكيدًا على ثقافة التهميش والقمع. ويلفت (الضبع) الانتباه إلى أن أول رواية عربية تناولت المرأة البدوية صدرت في نيويورك 1906م، وكتبتها اللبنانية (عفيفة كرم ـ 1383) كانت قد تلقت قدرًا من التعليم قبل زواجها وهجرتها إلى أمريكا، وهناك أصدرت مجلة “العالم الجديد” النسائية، وألفت عدة روايات منها: “بديعة وفؤاد” و”فاطمة البدوية” و”غادة عمشيت”.
الرواية تحكى عن بدوية أحبت أحد أبناء المدينة، لكن ضغوط بيئتها الثقافية، اضطرتها إلى الهروب بحبها إلى العالم الجديد (أمريكا) وهناك تدخل في مواجهة مع ثقافة الغرب، بما يعنى أن الرواية، تناولت موضوعة العلاقة بين الشرق والغرب، قبل أن يتناولها توفيق الحكيم في عصفور من الشرق.
يسوق الضبع رأيه هذا باحتراز شديد، رافضًا القطع بنسبة البدايات الأولى لكاتب بعينة، فيؤكد (أن فاطمة البدوية هى أول رواية عربية تعالج العلاقة بين الشرق والغرب وحتى إشعار آخر) مشيرا إلى هوس الباحثين العرب بفكرة البدايات التي أضحت تمثيلا لمنافسات قُطرية بحثا عن الريادة. فريادة القصة القصيرة تنتزع من (تيمور) وتنسب إلى السوري (أحمد فارس الشدياق) وريادة الرواية تنتزع من (هيكل) وتنسب بإقرار الباحث المصري (محمد سيد عبد التواب) إلى اللبناني (خليل الخوري) وروايته (وي..لست بإفرنجي – 1860م).
الطموح النسوي جعل من الفضاء البحثي ساحة تنافسية ليست أقل حدة من تنافسية الواقع
ولم يسلم الأمر من تنافسية داخل القطر الواحد، إذ يحضر اللبناني (إبراهيم علي الأحدب – 1826م) بوصفه أول من كتب الرواية التاريخية قبل مواطنه (جرجي زيدان – 1861م) حيث قدم قرابة العشرين رواية منها: مجنون بني عامر مع محبوبته ليلى، وقيس بن ذريح مع لبنى، وعروة بن حزام وابنة عمه عفراء، وجميل بثينة وكثير عزة، وشيرين مع كسرى أبرويز، والوزير ابن زيدون مع ولادةَ المستكفي.. إلخ.
التنافس على الريادة، يدعو الناقد المصري (شعبان يوسف) للرد بأن الريادة تقاس بحجم التأثير النوعي والكمي الذي تحدثة في مسيرة الأدب وتطوره، وبهذا المفهوم لمعنى الريادة، يكون نجيب محفوظ هو رائد الرواية العربية الحديثة، كما يكون جرجي زيدان رائد الرواية التاريخية.
ومن وجه نظر الباحثة المصرية (ألفت الروبى) فالريادة هى بداية توفرت فيها درجة كبيرة من النضج الفنى والاكتمال النوعي، وتبرز في كتابها:” بلاغة التوصيل وتأسيس النوع ” كما تشير إلى أن (زينب فواز) السورية الأصل كتبت (حسن العواقب ـ 1899م، والملك كورش 1905م) وكذلك لبيبة هاشم (المصرية) كتبت (قلب الرجل 1904م، وشيرين 1907م) أى قبل محمود تيمور بسنوات، فمن الطبيعى أن يكون تيمور قد اطلع على هذه الكتابات وتأثر بها، لأن النضج الفنى الذى كتب به أول قصصه يتطلب أسبقيات أخرى ناضجة بدرجة كبيرة. غير أن الشاعرة (عائشة تيمور) حازت شرف المحاولات الأولى عندما كتبت (نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال – 1887م) فأرهص كتابها بخصائص النوع القصصى، متأثرًا بلغة عصرها التي تحتفى بالسجع والبلاغة القديمة، ثم أردفته بـ (مرآة التأمل في الأمور) الذى يعتبر أول سيرة ذاتية تكتبها امرأة عربية، ترهص بنزعة نسوية ناقدة لأساليب تربوية تفرق بين البنات والأولاد وتمعن في تهميشهن.
وظني أن (التيمورية) كانت تومئ إلى تجربتها الشعرية، التي عانت تهميشا واضحا في مواجهة (محمود سامي البارودي) الذي تميز عليها بحضور سياسي واجتماعي كبير، على الرغم من أنها كانت تقاربه في العمر، وفي مقومات تجربتها الشعرية، بل وفي ثقافتها بوصفها سليلة العائلة التيمورية. وهكذا يتضح أن المنافسة على الريادات الثقافية محتدمة ليس بين الأقطار العربية فحسب بل بين الرجال والنساء أيضا، وفي هذا السياق تؤكد (ألفت الروبي) أن الظهور الأسبق للصحافة النسوية، هو الذى مهد وشجع على ظهور البدايات القصصية عند النساء قبل محمود تيمور، يظهور صحيفتين مصريتين: (الفتاة) التي أسستها (هند نوفل) في مصر عام 1892م، وفتاة الشرق التي أسستها (لبيبة هاشم) عام 1906م، وقد نشرتا قصصًا مترجمة بأقلام نسائية. أي أن النساء عبرن عن قضيتهن من خلال هاتين الصحيفتين قبل كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين (1899) بما يعنى أن الصحوة النسوية العربية لم تكن منة الرجل على المرأة، بل أنتزعتها المرأة بجهاد مرير حتى أجبرت الرجال على التعاطف معها والإيمان بعدالة قضيتها.
إن هذه السوابق الإبداعية والصحفية للمرأة، شكلت الملامح الأولى للنقد النسوي الذي نشأت بذوره الباكرة عند عائشة التيمورية في ملاحظات وتأملات، غير أنه استوى إلى خطاب ناضج عند مى زيادة، أو مارى إلياس زيادة اللبنانية المولودة 1886م؛ التي احتضنتها مصر فأثرت واقعها الثقافى على نحو أجبر كبار مثقفيها مثل العقاد وعبد الرحمن شكرى على الاعتراف بمكانتها المهمة ونبوغها المعجز، ليس فقط من خلال صالونها الذى يعتبر أول صالون أدبى لامرأة عربية في العصر الحديث، بل ومن خلال خطاب أدبي متميز على درجة كبيرة من الموسوعية المعرفية في اللغات المتعددة .
أما المجد الذى أنكره عليها الرجال، فهو ريادتها للنقد النسوى، الذى أسسته على قيم مغايرة للخطاب النقدى الذكورى الذى مارسه عباس العقاد في مواجهة أحمد شوقى، حيث اتسم بالعنف وأحادية الرؤية، ونزوع إلى نفى الآخر المختلف. ومع ذلك، فانحياز (مي زيادة) لطابع التجديد في تجربتي: العقاد وشكرى تعكس نزعة موضوعية خالصة من العصبيات الذكورية والنسوية في آن. وقد دشنت مى زيادة تجربتها النقدية بدراستين هامتين، الأولى عن عائشة التيمورية، والثانية عن باحثة البادية (ملك حفنى ناصف) حيث دعت إلى احترام الاختلاف في تجربة المرأة، وإدراك رغبتها في الإفصاح عن عواطفها المكبوتة، ودعت إلى التعاطف معها وترسيخ مبدأ الحب. وتعني به أن الناقد عليه أن يشعر بنوع من الانتماء أو التعاطف مع النص الأدبي، لأن هذا أدعى لأن يبادله النص نفس العاطفة فيتفتح بين يدى الناقد كالوردة، في حين تصيب الكراهية الناقد بالعماء.
كانت مى زيادة واعية بدورها كمنظرة للنقد النسوى، منصتة بموضوعية إلى الطبيعة المختلفة بين المرأة والرجل فتقول:” إن عواطف المرأة وتأثراتها شيء بشرى مطبوع، وبالمران تتعلم الاستسلام لطبيعتها النسائية والركون إليها في الاهتداء إلى التعبير، بعد أن ألجمت خوالجها قرونًا طوالًا، والصيحة التي ترسلها الآن، ستفتح في إدراك البشر وفى آدابهم أفقًا جديدًا ” .
نلحظ في كلام (مى) روح النبوءة والإيمان العميق بالحضور القوي للمرأة في المجالات الثقافية كافة ـ وهو حضور يمكن أن نشهده الآن، إذ أن تأثيرات النسوية طالت مجالات النشاط الإنسانى كافة وليس الفنون والآداب فقط، وامتدت إلى مجالات علمية مختلفة. كما أنها لم تقف عند حد الإسهام أو التمثيل المشرف، بل أحدثت ثورات جذرية في المعرفة البشرية على نحو ما تجسدها ثقافة ما بعد الحداثة من تحولات اجتماعية وثقافية وحقوقية، بل واستحدثت علوما جديدة مثل (علم البيئة) الذي بدأ بوصفه استجابة عاطفية لنداء الطبيعة لبتها الأمريكية (راشيل كارسون) وعبرت عنه في كتابها (الربيع الصامت) محذرة من المصير المرعب لمستقبل البشرية ما لم ننتبه إلى قسوة تعدياتنا على الطبيعة، وبذلك يكون علم البيئة أول علم ولد كاملا في أحضان نسوية. ومع الوقت أجبر صقور السياسة العالمية على احترامه.
كانت مي زيادة واعية بدورها كمنظرة للنقد النسوي، منصتة بموضوعية إلى الطبيعة المختلفة بين المرأة والرجل
وظنى أن الولع بالبحث عن الريادة في ثقافتنا ليس سوى أحد أعراض النوستالجيا العربية، والنزوع الماضوى الدائم بحثًا عن شواهد مضيئة في الخلف بدلا من التطلع إليها في المستقبل، غير أن العالم ـ الآن ـ يتغير فعلًا، بفضل الثورة الثقافية التي أحدثتها التكنولوجيا، وأتاحت ببساطتها وانخفاض تكاليفها إمكانات مدهشة، تمنحنا فرصة حقيقية لتحقيق إنجازات حضارية فاعلة سواء في الحاضر أو المستقبل.