“مشكاة نار الوجع التي تتأوّه، ولا يُطفئ أُوارها سوى ثقل التراب وغياهب القبور..” في رحلة بين ثماني عشرة قصة هن عماد مجموعة “مشكاة الوجع” لكاتبها جمال بربري عن دار إبداع 2016 ثم عن Kinzy Publishing Agency مؤخرا، يرتاد القارئ فضاءات يعاين فيها طبقات المجتمع المنبوذة. ويُذكر أن الكاتب هو أحد شباب مبدعي أسوان، وقد نُشر له مجموعتان قصصيتان “الجدران” و”أحزان لا تجد من يكتبها”، وقد نال العديد من الجوائز في فرع القصة القصيرة. تزخر المجموعة بشخوص من فئات الفقراء المدقعين أو النساء ذوات الفاقة. تتيح هذه القصص مساحة للمهمشين ومن تم نبذهم وإسكات أصواتهم وعدم الالتفات إليها ليدلوا بجانبهم من الحكاية. فيتحرك الراوي العليم عبر قصص المجموعة بعينه البانورامية ليكاشف ظروفهم الطاحنة؛ فيتحدّث بلسانهم لافتاً نظر المتلقي إلى حكاياتهم و”سردياتهم الصغرى”. ولا يُنظر إلى الراوي العليم أنه طاغي الحضور متحكمٌّ في تلقي القارئ عبر تمرير وجهة نظره إليه، ولكن على العكس فكثير من شخوص الرواية يفتقدون القدرة على التعبير عن أنفسهم، إما لأنهم ينتمون إلى طائفة المهمشين أو لعلّة في عقلهم. تبدو في أكثر من قصة شخصية “العبيط” أو المعتوه الذي يتم استغلاله من قبل من يفوقونه قوة وعقلاً. ترتبط شخصية “العبيط” أو المضطرب عقلياً في الثقافة الشعبية بما يطلق عليه العوام بــ “المبروكين” كنوع من الإشفاق والعطف عليهم لحاجتهم إلى من يقوم على رعايتهم ولكن في الغالب يحملون الكرامة ونبوءة غير متوقعّة كبشارة أو تحذير. وتوظيف شخصية “المخبول” ليس بالجديد في الأدب، فالمجاذيب والشحّاذين والدراويش يتصدّرون بحضورٍ قويّ في رواية “الحرافيش” لنجيب محفوظ الذي توّغل إلى دواخل الحارة المصرية حتى يرصد حيواتهم داخل التكيّة وانعزالهم في عالم الأحوال والمقامات. ولقد كان دورهم يهدف إلى تصوير الانحراف النفسي والاخلاقي الذي يردي بهم إلى هامش المجتمع؛ فعصفت بهم منعطفات الحياة من القمة إلى القاع. وفي مجموعة “مشكاة الوجع” يختلف توظيف شخصية “العبيط” تبعاً للنظرة الواقعية الصادمة التي تنتمي لها المجموعة. ففي قصة “الممسوس”، يطلق على الشخصية الرئيسة لقب “العبيط” الذي يرسله الجميع لقضاء حاجاتهم على الرغم من ضعف بنيته الجسدية فلا يستطيع دفع من هم أقوى منه؛ فـــــ”هذا فلان ضربه على قفاه في السوق، وهذا فلان امتهن الباقي مِن كرامته.. وهذا فلان فعل.. وهذه زوجته التي جعلت منه أضحوكة للناس”، ولكنه يقف أمامهم بلا حول ولا قوة فيستجمع صورهم وينتقم منهم في خياله فقط. وتستحضر صورة المعتوه “المبروك” في قصة “العبيط”؛ يقول الراوي: “قال أحد المارة (الرجل بَرَكة ولا حول له ولا قوة)، هناك من نظر إليه نظرة شفقة”. ولكن يظلّ منبوذاً بهيئته الرثّة ورائحته الكريهة؛ فكم “تمنى أن ينطق أحدهم ويقول: (تعالَ اتفضل كُل معي).. لكن الجميع أصابهم داء الخرس، لم يسمع سوى صوت أسنانهم التي تطحن الطعام”. وعليه يتبدّى التشوه في صورة المجتمع الذي ينحدر نحو الأسوأ، مما جعل ردة الفعل تجاهه هي الذهول والاشمئزاز. بل وتحول المجتمع إلى قوّة مستغلة لهؤلاء المهمشين فتنطلق نحوه امرأة تشتري له ما يريد من طعام في مقابل أن “يروي ظمأها للمتعة” التي حُرمت منها، حتى ظل يردد كلما رآها في الشارع: “يلا زي إمبارح!”. فينطلق صوت الراوي عبر المجموعة معلناً: “فعندما يبكى العبيط لابد من أن هناك ثمة شئ يؤرق نفسه ويفجر بداخله حمم الألم ومطارق العذاب الراقدة من منذ بعيد تصحو وتعس بالرأس كالنمل الذي يلتهم جسد الميت!”. وفي خضم الحديث عن المهمشين، يعدّ تقوّض النظرة النسوية لقهر المرأة؛ فالصورة النمطية لجنوسة المرأة كونها الكائن الضعيف الذي يلعب دور المتلقّي للأوامر أو الدمية التي تحركها يد الرجل أصبحت أحد “الكليشيهات” المبتذلة. فالمرأة تقوم بدور الرجل بعد وفاة عائلها لتطعم أيتامها؛ ففي قصة “عمود خشبي مهمل” يسرد الراوي حكاية امرأة تسعي لإطعام توأمها بعد وفاة الزوج، بل ويتوغل الراوي إلى قصّ تفاصيل عملها الدقيقة كدليل على معاركتها اليومية لكسب العيش، يقول: “كل همِّها يتركز في تضفير سعف الجريد إلي بعضه في ضفائرَ طويلةٍ، ثم بمخرز وحبال رفيعة يتكون لديها زنبيل أو قُفَّة. السعف النابت علي جانبَي الجريدة يعد شيئاً تافهاً، بل يكاد أن يكون معدوم القيمة، لكنه بين يديها يتلوي علي شكل ضفائر، ثم يتحول إلي مقاطفَ وزنابيل”. وعلى الرغم من تداخلها مع البقعة التي تجلس فيها حتى صارتا شيئاً واحداً؛ إلا أنها سريعاً ما اقتُلعت من المكان واقتُلع معها العمود الخشبي ليحل آخر كهربي مكانه وتحل امرأة أخرى محلها. وهكذا تقف الظروف القاهرة في وجه أصحاب الفاقة، أما من كان لهم حظ يسير، فسريعاً ما يسلبه القدر منهم. ففي قصة “المرأة وصندوق القمامة” تتمتع الفتاة بمسحة من جمال كانت سبباً في علاقتها مع شاب جامعي سريعاً ما تركها “ببطنها منتفخاً” وهرب ، ليلقي أبوها بالمولود في صندوق المهملات الذي يتحول إلى مصدر طعامها. ولا يلبث الصندوق أن يمنحها كيس الحُلي لتتمتع بنقودها حتى إذا ما فرغت النقود تعود إلى ثوبها الأسود المتسخ والنرجيلة. وعليه يتدّخل القدر دوماً ليسلب بعدما يعطي ليتجرّع المهمشون غصص معاناتهم المستمرة بعد العطايا الخاطفة. ويغدو المجتمع أحد أهم القوى الخارجية التي يقف الفرد أمامها بلا حول ولا قوة فيلوذ بالفرار والانعزالية. فالأحلام الموؤدة ديدن المهمشين؛ ففي قصة “وظيفة” ينتظر شاب متعلم جواب التعيين ويطول به الانتظار حتى يقبل بوظيفة مشرف على عمال النظافة. ويحلم الشاب بمرتب ثابت وحياة هادئة في بيت مستقر مع أسرة يبنيها، ولكن يتم رفضه لأنه في سن الخامسة والثلاثين، يقول: “وقف في الطابور يسمع أحلام الشباب في الوظيفة وكأنهم يتحدثون عن نفسه.. تسلَّطتْ عليه أشعة الشمس.. راح يتصبب عرقاً، وهو مازال يحلم بتأمين مستقبله”. وهناك من يتحول في طريقه إلى كسب رزقه أن يصير عبداً؛ ففي قصة “الكفيل” يتجه الشاب الذي يتكفّل بإخوته الأيتام ويتخلّى عن شهادته ليركب قارباً في هجرة غير شرعية “يلقي به البحر أخيراً على بر الذهب الأسود، يرفع رأسه، رجل هناك ظنّه المنقذ المرتقب.. يصادر أوراق هويته.. يلغي حقيقته كإنسان ولدته أمه حراً.. يُطوق رقبته بسلسلة، ويقول”هلا وغلا.. يعطيك العافية”. فالكفيل الخليجي لا يسلب حلم الشاب فحسب ولكن يسلب منه حريته وحياته ليصير عبداً له. ويعرّج الكاتب على تفشّي قوى الظلم في المجتمع فيبدو العالم موحشاً، إذ تتحول فيه عيوب الحاضر إلى نموذج منظم من العيوب مسلم به. ففي قصة “السيارة الزرقاء” يداهم شرطي منحرف السلوك شارعاً للمهمشين ويلفق لهم تُهماً بغية إغلاق محضرٍ لم يتمكن من العثور على مجرمين فيه وسط استسلام تام منهم. وهكذا يفضح صوت الراوي براثن المجتمع ليكشف خفايا ما يتم في الحواري والأزقّة وأصحابها من المهمشين الذين درجت العادة على إزاحتهم وإسكات أصواتهم، ليأخذوا دورهم في الحكاية. وتتحرك الشخوص في المجموعة كالمغيبين أمام القوى القدرية التي يرمز إليها الكاتب بحرفيّةٍ في قصة “ميكروباص”؛ يقول السائق “انصهرت الأجساد، فتساوى كل شيء داخل العربة يتصبب عرقاً.. يلاحظ أنّ الركاب لاذوا بالصمت، وأنهم لا يفكرون بالنزول من الميكروباص، يحاول أن يشير إليهم دون جدوى، يلتفت إليهم السائق… أصبحوا تائهين”. فيتحول الركاب جميعاً إلى كتلة واحدة متلاصقة تسير بلا هدف وإن تباينت اهوائهم فكلهم في قارب واحد. وأخيراً، فإنّ مجموعة “مشكاة الوجع” تمثّل أنموذجاً لأدب الهامش الذي يتموضع التركيز فيه حول عرض معاناة الإنسان المعاصر وظهور المجتمع الكابوسي. فيرصد الكاتب تحولات المجتمع ونفسية الإنسان في زمن الفوضى. ولا يتعرّض الكاتب كثيراً لأسباب تلك الفوضى ليترك القارئ في تساؤل عن سبب الانحدار السلوكي للمجتمع ووقوع الفرد فريسة لأحلامه المحطّمة ورغباته المؤجلة وإمكانية الحيلولة دون تحوله إلى حطام بشري.