كثيرًا ما كان الإبداع ابن الشقاء، في قصيدة رائعة لنجيب سرور يقول فيها:
«أنا ابن الشقاء،
ربيب الزريبة والمصطبة،
وفي قريتي عمدة كالإله،
يحيط بأعناقنا كالقدر».
حتمًا لأنه ابن قرية صغيرة في الدقهلية، كل أهلها بؤساء، لا تعرف العناية الحكومية إليهم سبيلاً، ويتحكم فيهم عمدة لا قلب له، لم يجد نجيب سرور جدوى سوى في الكتابة عن هؤلاء المهمشين، وفي مرحلة لاحقة، عندما وسع معارفه، وثقل موهبته، اتسعت الدائرة ليكتب مسرحية «الذباب الأزرق»، التي هاجم فيها ممارسات الملك حسين ضد الفلسطينيين!.
ماكسيم جوركي أيضًا، الذي أسس «مدرسة الأدب الواقعي» أو ماركسية الأدب، التي تعتمد على ضرورة توظيف الأدب لتغيير الواقع، خلاف جدته التي أورثته موهبة الحكي، تعرض للمرارة في رحلته للبحث عن قوت يومه، مما دفعه لاختيار لقب «جوركي» وتعني «المر»، ليلحق به اسمه، وتعرفه روسيا من خلال مذاقه الذي جسده في معظم رواياته خاصة معاناة الطفل بافل وأمه في روايته الأشهر «الأم».
***
أحزان الأسواني
في ضوء مقولة «هايدجر»: «حقيقة الموجود تضع نفسها داخل العمل الفني» نستطيع أن نقرأ المجموعة القصصية «أحزان لا تجد من يكتبها» للقاص الأسواني جمال بربري، الصادرة عنKinzy Publishing Agency، في القاهرة، ست عشرة قصة مسحوبة من حياة المهمشين، لحظات انكسار إنساني.
ففي قصة «ثلاثة جنيهات تكفي»، نجد الطفل «سيد ود سنية» وقد دفعه الفقر للخروج إلى العمل عند الحاج سلامة، أصبح عقله مبرمجًا لإرضاء رب عمله حتى لو دفعه هذا إلى سخرية الآخرين، إلى اعتراض العساكر الذين وجدوا للتحقيق في أمر ما، ومن سوء حظه يجد من يستغفله ويسرق طلبات الحاج التي كان يجب أن يوصلها إلى بيته لتجهز زوجته الطعام. في اليوم التالي يتلقى صفعات الحاج، لا يهمه إلا أن يمنحه اليومية ليعود بها إلى أهله!
وفي قصة «أحزان امرأة» تبدأ القصة بطفل باكٍ، وكأنها امتداد للقصة السابقة، لكن من زاوية جديدة، القصة تدور حول امرأة مات ابنها بالسرطان، ومنذ ذاك الحين، تتجول في الأزقة، تمنح المال لهؤلاء الذين لم تنصفهم الحياة، تعود بحقيبة خالية من المال لتتخيل شكل ابنها إذا أمهله القدر واستمر على قيد الحياة!
وفي لقطة أخرى تجد حنا ابن جرجس الإسكافي، وقد بنى بيتًا تحت شجرة الكافور العجوز التي كان أبوه يجلس تحتها، أثناء خياطة أحذية أهل القرية، فتح دكانا وأنجب أولادا لم يعد أحد يفرقهم عن أولاد الحي. نهاية غير البداية التي ظلت محفورة في ذاكرة حنا طوال سنوات، عندما هجم عليه العسكر. ضربوه ضربًا شديدًا ليعلن إسلامه، عندما ظن أنه لا يختلف عن صبية القرية، وحاول الانخراط في اللعب معهم.
في قصة «بائع أكياس الأحلام» نصل للذروة مع المجموعة. نجد رجلا اضطر إلى الخروج لقضاء احتياجات البيت بعد مرض زوجته، تقوده المصادفة لملاقاة مراهق من هؤلاء الذين اضطرتهم الظروف للخروج إلى سوق العمل. يترك الرجل مهمته ويتتبع الطفل بدافع الفضول.
يراه وهو يبيع الأكياس في الشارع، ثم يجده وهو يخرج أقراص التامول من جيبه ليبيعها إلى الشبان الطائشين. يروج لبضاعته بحماسة منقطعة النظير. ثم، يقطع المشهد عبور فتاتين لعوبتين، فيكون وسيطهما ليعرف الشبان كيفية الوصول إليهما، يحصل على المقابل ويرحل، وعندما تعبر مسيرة عمالية تتظاهر لأمر ما، يخرج الأعلام ويبيعها للمتحمسين منهم، ثم نجده يستعد بكتيبات الشريعة والشرعية للثوار الملتحين، القادمين من شارع آخر، وفي نهاية المطاف، عندما تستودعه المرأة الراقدة على الأرض ابنها المولود تواً، كي تذهب إلى الحمام العمومي، يستعطف قلوب المارة مستخدمًا إياه، مدعيًا أنه مريض، ليشحذ منهم ثمن العلاج.
***
لم يضطر الكاتب للخروج ومتابعة ما يحدث للمهمشين، فهو أحد هؤلاء، يعمل فرانًا يعرف تمامًا مدى صهد النيران، ويعرف أيضًا تفاصيل بؤس كل من يقف أمامه حاملاً بطاقة «العيش» في الطابور الطويل، دومًا ما يكتب أمنياته بالتغيير على صفحته على «فيسبوك»، كتب مرة عن الثروة التي تهبط من السماء، لتنهي البؤس وتفتح أبواب الحياة على مصراعيها، أو عن خبيئة الآثار التي لا تحتاج لتخرج إلا إلى شيخ مغربي! هو حلم الكثيرين الآن، عندما تشتد وطأة الظروف، ويصبح الحلم أسهل!.
استطاع القاص جمال فتحي في مجموعة «أحزان لا تجد من يكتبها» أن يسرب الواقع الجديد بلغة هادئة لا صراخ فيها، تندهش عند نهاية كل قصة، كيف على الرغم من بساطة الأفكار، وتكرار حدوثها أمام أعيننا، أن تثير الدهشة هكذا! وحتما يعرف، أنه بالإبداع يقوم بتحويل الشقاء إلى سعادة!.