You Create, We Appreciate

مصطفى عوض يكتبـــ: تأملات حول فن القصة القصيرة جدا

مصطفى عوض يكتبـــ: تأملات حول فن القصة القصيرة جدا
القصة القصيرة جداً هي فن الإضمار، والإختزال الدلالي، والإحالات، وهي تصل بنا للمعنى دون هدر للكلمات، لذا يعتبر التكثيف واحداً من أهم مقومات الـ(ق. ق. ج)، ويؤدي عدم الإلتزام به إلى إخراج النص من هذا الجنس، إلى جنس أدبي آخر، والتكثيف لا يعني بالطبع بتراً يترك النص مشوهاً، ناقصاً، بل تخلص من الزوائد التي ترهقه, وتصيبه بالترهل، وقد توقعه في فخ التقريرية، والمباشرة، أيضاً العنوان هام جداً، فلا يصح أن يكون مجرد تكرار تفاعلي لما هو موجود بالفعل في المتن، بل هو جزء أصيل منه، يدخلنا مباشرةً في جو النص، ويحمل دلالته دون تصريح، ومباشرة تفضح القصة من البداية، فتفقد القفلة ألقها، وبهاءها، فمن الضروري أن تكون (القفلة) صادمة لأفق إنتظار المتلقي، وعكس توقعه، لا معروفة من البداية.
أيضاً (الحكائية) من أهم مقومات الـ(ق. ق. ج)، فالقصة، لأنها قصة، لابد أن تحوي حكاية ما، حدثاً ما، وبداية، وحبكة تماماً كأي نص طويل، الإختلاف فقط في الصياغة، فنستعيض عن الوصف، والإسهاب، بالأفعال التي تعطي النص حركيةً، وحيوية، وعن الإطناب، بالجمل الحوارية القصيرة، وعن التكرار بالضمائر، كما أن إحتدا م الحدث، واندفاعه الكبير نحو النهاية، يجب أن يخلو من أي عراقيل سردية(محسنات بديعية مبالغ فيها، تقاطعات ذهنية، تزيين غرف القلب الذاتية..إلخ) القصة القصيرة جداً، نص قاطع، صارم، يبحث عن أقرب الطرق لإيصال المعنى، وهو بهذا ليس سهلاً، ولا هيناً، ولا مشاعاً يستطيع أيٍ من كان تعاطيه، استسهالاً كما نرى، بل هو من أصعب الأجناس الأدبية، تعاطياً، وصياغةً، وتنظيرا، ولا يتقنه إلا من له باع في السرد الطويل( رواية، وقصة).
*أعجبني جداً تشبيه أستاذنا الكاتب، والناقد السوداني الكبير (صلاح سر الختم) للـ(ق. ق. ج) ب(اللحظة الهاربة) نعم هي كذلك فعلاً، تومض في الذهن ك(فلاش) الكاميرا، تمر كالبرق، متوهجةً، ملتهبةً، حارقة، ووحده الصياد الماهر هو القادر على اصطيادها في الوقت المناسب، لحظة اكتمال بريقها، ونضج ألقها، التوقيت مهم جداً جداً، هي عملية ولادة الفكرة بعد مخاضٍ طويل، و المبدع الحقيقي هو القادر على خلقها في أحسن تقويم، والتقويم هنا هو معمارية بنائها، بمقوماته الاساسية والتي لم تعد خافيةً على أحد، والذين يريدون تذويب الفوارق الجوهرية بينها وبين باقي الأجناس هم في الحقيقة، يريدون تفريغها من محتواها، ووأد خصوصيتها، وتهديد وجودها، هذا الفن النبيل المراوغ، شديد الصعوبة، يستنزف الفكر، والوجدان، أكثر مما تفعل النصوص الطويلة، وهي تستلزم وعياً حاضراً كأفضل ما يكون، ليس هذا الذي يؤدي الى الإفتعال، والتركيب المصطنع، ولكن ذلك الذي يشبه وعي البذرة وهي تشق طريقها للنمو..
ليس بوسع القصة القصيرة جداً إلا أن تتعامل مع اللغة من منظور التكثيف، فتغدو لغتها محدودة جداً من حيث عدد الكلمات. لكنها في الوقت نفسه لغة تحيل إلى عالم شاسع من خلال الإيحاءات والدلالات!! إن اللغة الإبداعية هنا، لا تحتمل التفصيلات والشروح والحوارات كما هوالحال في الرواية أو القصة القصيرة أو المقالة أو ما إلى ذلك؛ فاللغة في القصة القصيرة جداً لغة إيجاز، وترميز، وإيحاء، وحذف إبداعي، وإيقاعات متعددة في عبارات محدودة… إلى حد أن تصبح اللغة في مجملها استعارة أومجازاً؛ بشرط ألا يخل هذا القصر ببنية القصة القصيرة جداً شبه المتكاملة، ولا يعني هذا التكثيف للغة أن تغدو القصة القصيرة جداً مجرد عبارات متناثرة؛ كأنها جمل مشتتة لا رابط بينها، أو أن تكون جملاً شعرية غيرقابلة للسردية؛ فمن يظن أن لغة القصة القصيرة جداً مجرد ومضة مفضية إلى الخاطرة أو قصيدة النثر، أو النص الهذياني… فحسب، هو في الحقيقة لا يكتب قصة قصيرة جداً، ولا علاقة له بكتابتها من قريب أوبعيد.
*التكثيف ليس بتراً يترك النص مشوهاً، ناقصاً غير مفهوم، بل على العكس، هو عملية تشذيب، تزيل الزوائد، وتقي النص من الترهل، وهو تقنية ضرورية عند الشروع في معالجة أي نص إبداعي أياً كان جنسه، من الومضة، وحتى الرواية، ويتعاظم دوره أكثر في النصوص القصيرة، التي هي بالأساس فن الإختزال، والإضمار، والوصول إلى الهدف في أقل عدد من الكلمات. الترميز أيضاً مطلوب، فبدون الرمز يجيء العمل مباشراً تقريرياً، أشبه ما يكون بالمقال الصحفي، لا متعة فيه، ولا يحرك الفكر، والخيال، وهو يقوم بدور حيوي في إنشاء علاقة مباشرة بين المتلقي، والنص، فإذا كان الكاتب يعمد إلى ترميز نصه، فعلى القاريء أن يقوم بالعملية المعاكسة، وهي محاولة فك هذه الرموز، ومحاولة البحث عن دلالتها، بل وإعادة كتابة النص، أو تكملته وفق رؤيته الخاصة، فالنص الجيد حمال أوجه، والأعمال الابداعية احادية القراءة لا تترك الفرصة لأحد ليفكر ويتفاعل، ويبدع أيضاً، الغموض الفني المنشود ليس عيباً، ولا بدعة، بل إتجاه طاغي أصبح يحدد ملامح الحركة الإبداعية المعاصرة، ويحكمها، وشتان الفارق بين الغموض، والإبهام الذي يجعل من الشخوص، والأحداث مجرد سديم في فضاء النص، فلا ساس، ولا راس! المشكلة ليست في المبدع بالأساس، فمن غير المعقول أن نكتب وفق ذائقة قطاع ما من القراء، أو حسب أهوائهم( الجمهور عايز كدا)! لكن التباعد بين المتلقي ومعطيات الرمز، بسبب نقص المخزون الفكري، والثقافي، والمعرفي لديه يجعله عاجزاً عن التواصل مع النصوص
Related Posts
Leave a Reply

Your email address will not be published.Required fields are marked *

Instagram
Telegram
WhatsApp